إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

حياة زينب ع16

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حياة زينب ع16

    لقد شبّه خروجه بخروج نبي الله موسى بن عمران على فرعون زمانه ، وكذلك هو خرج على طاغية عصره حفيد أبي سفيان ليقيم الحقّ وينشر العدل بين الناس ، وسلك (عليه السّلام) في سفره الطريق العام من دون أن يتجنّب عنه كما فعل ابن الزّبير مخافة أن يدركه الطلب من قبل السلطة في يثرب ، فامتنع وأجاب : (( لا والله لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكة ، أو يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى )) .
    لقد رضي بما كتب الله وقدّر له ، لم تضعف همّته ولم توهن عزيمته ، ولم يبالِ بالأحداث المروعة التي سيواجهها ، وكان يتمثّل في أثناء مسيرته بشعر يزيد بن المفرغ :
    لا ذعرتُ السوام في فلق الصبـ ـحِ مُغيراً ولا دعـيت يـزيدا
    يوم اُعطى مخافة الموت ضيماً والمنايا ترصدنني أن أحيدا(1)

    لقد كان على ثقة أنّ المنايا ترصده لا تحيد عنه ما دام مصمّماً على عزمه الجبّار في أن يعيش عزيزاً ولا يخضع لحكم يزيد .
    احتفاف الحجاج والمعتمرين بالإمام (عليه السّلام)

    وانتهى الإمام (عليه السّلام) إلى مكة المكرّمة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان(2) , وقد حطّ رحله في دار العباس بن عبد المطلب(3) ، وقد استقبله المكّيون استقبالاً حافلاً ، وجعلوا يختلفون إليه بكرةً وعشيةً وهم يسألونه عن أحكام دينهم ، كما يسألونه عن موقفه تجاه الحكم القائم .
    ـــــــــــــــــــــ
    (1) خطط المقريزي 2 / 285 .
    (2) تاريخ الطبري 6 / 190 .
    (3) تاريخ ابن عساكر 13 / 68 .
    الصفحة (195)

    وأخذ القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجاج والمعتمرين يختلفون إليه ويطوفون حوله ، ويتبرّكون بتقبيل يده ويلتمسون منه العلم والحديث ، ولم يترك الإمام لحظة واحدة من الوقت تمرّ دون أن يبثّ الوعي الاجتماعي والسياسي في نفوس القادمين إلى بيت الله الحرام ، ويدعوهم إلى اليقظة والحذر من الحكم الاُموي الهادف إلى استعباد المسلمين وإذلالهم .
    فزع السلطة المحلّيّة

    وفزعت السلطة المحلية في مكة من قدوم الإمام (عليه السّلام) ، وخافت أن يتّخذها مقرّاً سياسياً لدعوته ومنطلقاً لإعلان الثورة على حكومة يزيد ، وقد خفّ حاكم مكة عمرو بن سعيد الأشدق إلى الإمام (عليه السّلام) ، وقال له : ما أقدمك ؟
    ـ (( عائذاً بالله وبهذا البيت ))(1) .
    لقد جاء الإمام (عليه السّلام) إلى مكة عائذاً ببيت الله الحرام الذي مَنْ دخله كان آمناً من كلّ ظلم واعتداء . ولم يحفل الأشدق بكلام الإمام (عليه السّلام) ، وإنّما رفع رسالة إلى يزيد أحاطه بها علماً بمجيء الإمام إلى مكّة واختلاف الناس إليه ، وازدحامهم على مجلسه , وإجماعهم على تعظيمه ، وأنّ ذلك يشكّل خطراً على الدولة الاُمويّة .

    واضطرب يزيد حينما وافته رسالة عامله الأشدق ، فرفع إلى ابن عباس رسالة يُمنّي فيها الإمام الحسين (عليه السّلام) بالسلامة إن استجاب لبيعته , ويتهدّده إن لم يستجب لذلك .

    وقد أجابه ابن عباس : أنّ الحسين إنّما نزح عن يثرب لمضايقة السلطة المحلّيّة له ، كما وعده أن يلقى الإمام ويعرض عليه ما طلبه منه ، وقد ذكرنا ذلك في (حياة الإمام الحسين ـ نصّ رسالة يزيد وجواب ابن عباس) .
    ـــــــــــــــــــــ
    (1) انظر تذكرة الخواصّ / 248 .
    الصفحة (196)
    إعلان التمرّد في العراق

    وبعدما هلك معاوية أعلن العراقيون رفضهم لبيعة يزيد وخلعهم لطاعته ، فكانت أندية الكوفة تعجّ بمساوئ معاوية وابنه الخليع يزيد ، وذهب المستشرق (كريمر) إلى أنّ الأخيار والصلحاء من الشيعة ينظرون إلى يزيد نظرتهم إلى ورثة أعداء الإسلام(1) .
    وعلى أيّ حال ، فإنّ أهل الكوفة لم يرضوا بحكم يزيد وأجمعوا على خلع بيعته ، وقد عقدت الشيعة مؤتمراً عاماً في بيت سليمان بن صرد الخزاعي ، وهو من أكابر زعمائهم ، وألقوا الخطب الحماسية التي أظهرت مساوئ الاُمويِّين وما اقترفوه من الظلم والجور ضدّ شيعة أهل البيت ، ودعوا إلى البيعة للإمام الحسين (عليه السّلام) .

    وكان من جملة الخطباء سليمان بن صرد ، وقد جاء في خطابه : إنّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسيناً قد قبض على القوم بيعته , وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه ، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه .
    وتعالت أصواتهم من كلّ جانب ، وهم يقولون بحماس بالغ : نقتل أنفسنا دونه ، نقاتل عدوّه . وأظهروا بالإجماع دعمهم الكامل للحسين (عليه السّلام) ، ورغبتهم الملحّة في نصرته والدفاع عنه ، وأجمعوا على إرسال وفد إليه يدعونه للقدوم إليهم .
    وفود أهل الكوفة للإمام (عليه السّلام)

    وأرسلت الكوفة وفوداً متعدّدة إلى الإمام (عليه السّلام) يدعونه إلى القدوم إلى مصرهم ؛ لينقذهم
    ـــــــــــــــــــــ
    (1) العقيدة والشريعة في الإسلام / 69 .
    الصفحة (197)

    من ظلم الاُمويِّين وجورهم ، ويعلنون دعمهم الكامل له ، وكان من بين الوافدين عبد الله الجدلي(1) .
    رسائل أهل الكوفة

    وعمد أهل الكوفة إلى كتابة جمهرة من الرسائل إلى الإمام (عليه السّلام) يحثّونه على القدوم إليهم ؛ لينقذ الاُمّة من شرّ الاُمويِّين .

    وكان من بين تلك الرسائل رسالة بعثها جماعة من شيعة الإمام ، وجاء فيها بعد البسملة : من سليمان بن صرد ، والمسيب بن نجيّة ، ورفاعة بن شداد ، وحبيب بن مظاهر وشيعته والمسلمين من أهل الكوفة . أمّا بعد ، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد ـ يعني معاوية ـ الذي انتزا على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها ، وغصبها فيئها , وتأمّر عليها بغير رضاً منها ، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبُعداً له كما بعدت ثمود !
    إنّه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ . واعلم أنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله ، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته(2) .
    كما وردت إليه رسائل من الانتهازيين وشيوخ الكوفة ، كان منها ما أرسله شبث بن ربعي اليربوعي ، ومحمد بن عمر التميمي ، وحجّار بن أبجر العجلي ، ويزيد بن الحارث الشيباني ، وعزرة بن قيس الأحمسي ، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وهذا نصّها :
    ـــــــــــــــــــــ
    (1) مقاتل الطالبيّين / 95 .
    (2) أنساب الأشراف / 157 .الصفحة (198)
    أمّا بعد , فقد اخضرّ الجناب ، وأينعت الثمار ، وطمت الجمام(1) ، فاقدم على جند لك مجنّدة ، والسّلام عليك(2) .
    وأعربت هذه الرسالة عن شيوع الأمل وازدهار الحياة ، وتهيئة البلاد عسكرياً للأخذ بحقّ الإمام (عليه السّلام) ومناجزة خصومه ، وقد وقّعها اُولئك الأشخاص الذين لا يؤمنون بالله ، وكانوا في طليعة القوى العسكريّة التي زجّها ابن مرجانة لحرب الإمام (عليه السّلام) .
    وعلى أيّ حال , فقد توافدت الرسائل يتبع بعضها بعضاً على الإمام حتّى اجتمع عنده في نوب متفرّقة اثنا عشر ألف كتاب ، ووردت عليه قائمة فيها مئة وأربعة ألف اسم يعربون فيها عن نصرتهم واستعدادهم الكامل لطاعته حال ما يصل إلى مقرّهم .
    ولكن بمزيد الأسف لقد انطوت تلك الصحيفة وتبدّلت الأوضاع إلى ضدّها ، وإذا بالكوفة تنتظر الحسين (عليه السّلام) لتثب عليه فتريق دمه ودماء أهل بيته وأصحابه , وتسبي عياله ، وهكذا شاءت المقادير ولا رادّ لأمر الله تعالى وقضائه .
    إيفاد مسلم إلى العراق

    وعزم الإمام (عليه السّلام) على أن يلبّي طلب أهل الكوفة ويستجيب لدعوتهم ، فأوفد إليهم ممثّله العظيم ابن عمّه مسلم بن عقيل ليعرّفه باتجاهاتهم وصدق نيّاتهم ، فإن رأى منهم عزيمة مصمّمة فيأخذ منهم البيعة .

    وزوّده بهذه الرسالة : (( من الحسين بن علي إلى مَنْ بلغه كتابي هذا من أوليائه وشيعته بالكوفة , سلام عليكم . أمّا بعد , فقد أتتني كتبكم وفهمت ما ذكرتم من محبّتكم لقدومي عليكم ، وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ؛ ليعلم لي كُنه
    ـــــــــــــــــــــ
    (1) الجمام : الآبار .
    (2) أنساب الأشراف / 158 ـ 159 .



    الصفحة (199)

    أمركم ، ويكتب إليّ بما يتبيّن له من اجتماعكم ؛ فإن كان أمركم على ما أتتني به كتبكم وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم إليكم إن شاء الله ، والسّلام ))(1) .
    مسلم في بيت المختار

    وسار مسلم يطوي البيداء حتّى انتهى إلى الكوفة فنزل في بيت المختار الثقفي(2) ، وهو من أشهر أعلام الشيعة ، ومن أحبّ الناس وأنصحهم وأخلصهم للإمام الحسين (عليه السّلام) .
    وفتح المختار أبواب داره لمسلم ، وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم , ودعا الشيعة لمقابلته ، فهرعوا إليه من كلّ حدب وصوب وهم يظهرون له الولاء والطاعة ، وكان مسلم يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين (عليه السّلام) وهم يبكون ، ويبدون تعطّشهم لقدومه والتفاني في نصرتهم له ؛ ليعيد في مصرهم حكم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وينقذهم من جور الاُمويِّين وظلمهم.
    البيعة للحسين (عليه السّلام)

    وانهالت الشيعة على مسلم تبايع للإمام الحسين (عليه السّلام) ، وكان حبيب بن مظاهر هو الذي يأخذ منهم البيعة للحسين (عليه السّلام)(3) ، وكان عدد المبايعين أربعين ألفاً ، وقيل أقلّ من ذلك(4) .
    رسالة مسلم للحسين (عليه السّلام)

    وازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة ، وبُهر من العدد الهائل الذين بايعوا
    ـــــــــــــــــــــ
    (1) الأخبار الطوال / 210 .
    (2) الحدائق الوردية 1 / 125 ، (مخطوط) .
    (3) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 2 / 347 .
    (4) وفي رواية البلاذري أنّ جميع أهل الكوفة معه .
    الصفحة (200)

    الحسين (عليه السّلام) فكتب له : أمّا بعد ، فإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً(1) ، فعجّل حين يأتيك كتابي هذا ؛ فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى .
    لقد حكت مسلم هذه الرسالة أنّ هناك إجماعاً عاماً على بيعة الإمام (عليه السّلام) , وتلهّفاً حارّاً لقدومه ، وقد حمل الرسالة جماعة من أهل الكوفة وعليهم البطل عابس الشاكري ، وعند ذلك تهيّأ الإمام الحسين (عليه السّلام) للخروج من مكة إلى العراق .
    فزع يزيد

    وفزع يزيد حينما وافته الأنباء من عملائه بمجيء مسلم بن عقيل إلى الكوفة وأخذه البيعة للإمام الحسين (عليه السّلام) ، واستجابة الجماهير لبيعة الإمام .

    وشعر يزيد بالخطر الذي يهدّد ملكه , فاستدعى سرجون الرومي ، وكان مستودع أسرار أبيه , ومن أدهى الناس ، وعرض عليه الأمر قائلاً : ما رأيك ؟ إنّ حسيناً قد توجّه إلى الكوفة ، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين ، وقد بلغني عن النعمان ـ وهو والي الكوفة ـ ضعف وقول سيِّئ ، فما ترى مَنْ استعمل على الكوفة ؟
    وأخذ سرجون يُطيل التأمّل حتّى توصّل إلى نتيجة حاسمة , فقال له : أرأيت أنّ معاوية لو نُشر أكنت آخذ رأيه .
    ـ نعم .
    فأخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة , وقال له : هذا رأي معاوية , وقد مات ، وقد أمر بهذا الكتاب(2) .
    ـــــــــــــــــــــ
    (1) تاريخ الطبري 6 / 224 .
    (2) تاريخ ابن الأثير 3 / 268 .
    الصفحة (201)

    واستجاب يزيد لرأي مستشار أبيه ، فعهد بولاية الكوفة إلى ابن زياد .
    ولاية ابن زياد على الكوفة

    وكان يزيد ناقماً على ابن زياد , وأراد عزله عن ولاية البصرة(1) ؛ وذلك لموقف أبيه زياد من يزيد ؛ فقد عذل أباه معاوية عن ترشيحه للخلافة من بعده .
    وعلى أيّ حال , فقد عهد يزيد بولاية البصرة والكوفة إلى ابن زياد ، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه ، وكتب إليه ما يلي : أمّا بعد , فقد كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه , أو تقتله أو تنفيه ، والسّلام(2) .
    وبعث إليه برسالة اُخرى يطلب فيها الإسراع منه إلى الكوفة ، وقد جاء فيها : إن كان لك جناحان فطر إلى الكوفة(3) .
    وحمل رسالة يزيد مسلم بن عمرو الباهلي إلى ابن زياد ، وأخذ يجدّ في السير حتّى انتهى إلى البصرة , فسلّم الرسالة إلى ابن زياد وقد طار فرحاً ؛ فقد تمّ له الحكم على جميع العراق بعدما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة .
    ابن زياد في الكوفة

    وسار ابن زياد إلى الكوفة وقد قطع الطريق بسرعة خاطفة فكان يسير ليلاً ونهاراً ؛ مخافة أن يسبقه الحسين إليها ، وقد صحب معه خمسمئة رجل من أهل البصرة كان
    ـــــــــــــــــــــ
    (1) البداية والنهاية 8 / 152 .
    (2) حياة الإمام الحسين (عليه السلام) 2 / 354 .
    (3) سير أعلام النبلاء 3 / 201 .
    الصفحة (202)

    فيهم شريك بن الأعور الحارثي , وهو من خلّص أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام)(1) .

    وقد لبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم مَنْ رآه أنّه الحسين (عليه السّلام) ، ودخل الكوفة ممّا يلي النجف ، وأسرع نحو قصر الإمارة وهو فزع مذعور ؛ مخافة أن يعرفه الناس ، وساءه كأشدّ ما يكون الاستياء من تباشير الناس بقدومه ظانّين أنّه الحسين (عليه السّلام) .
    وانتهى ابن مرجانة إلى باب القصر فوجده مغلقاً ، والنعمان بن بشير حاكم الكوفة قد أشرف من أعلى القصر , وقد توهّم أنّ القادم هو الحسين (عليه السّلام) ؛ لأنّ أصوات الجماهير قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته .

    فانبرى مخاطباً له : ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يابن رسول الله ، وما لي في قتالك من إرب .
    ولمس ابن مرجانة الضعف والانهيار في كلام النعمان , فصاح به : افتح لا فتحت ! فقد طال ليلك . ولمّا تكلّم عرفه الناس , فصاحوا : إنّه ابن مرجانة وربّ الكعبة ! وجفل الناس وخافوا وهربوا مسرعين إلى دورهم .

    وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسلاح ، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي , وهم يحدّثونه عن الثورة ويعرّفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون أمامه المخطّطات الرهيبة للقضاء عليها .
    وقام ابن زياد في الصباح الباكر فأمر عملاءه بجمع الناس في المسجد الأعظم ، فاجتمعت الجماهير الحاشدة وقد خيّم عليها الذعر والخوف ، وخرج ابن زياد متقلّداً سيفه , ومعتمّاً بعمامة , فاعتلى المنبر وخطب الناس .

    وكان من جملة خطابه : أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين يزيد ـ أصلحه الله ـ ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم , وإعطاء محرومكم ، والإحسان إلى سامعكم
    ـــــــــــــــــــــ
    (1) تاريخ الطبري 6 / 199 .
    الصفحة (203)

    ومطيعكم ، وبالشدّة على مريبكم ، فأنا لمطيعكم كالوالد البارّ الشفيق ، وسيفي وسوطي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي ، فليبق امرؤ على نفسه , الصدق يُنبئ عنك لا الوعيد(1) .
    وقام بنشر الإرهاب وإشاعة الخوف بين الناس ، ويقول بعض المؤرّخين : إنّه لمّا أصبح ابن زياد ـ بعد قدومه إلى الكوفة ـ صال وجال , وأرعد وأبرق ، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة(2) .
    وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس وخرج إليهم بزيّ غير ما كان يخرج به ، فخطب خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعد ، وقال : أمّا بعد ، فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة من غير عنف , ولين من غير ضعف ، وأن آخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، والولي بالولي .
    فردّ عليه رجل من أهل الكوفة يُقال له أسد بن عبد الله المرّي قائلاً : أيّها الأمير ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) , إنّما المرء بجده ، والفرس بشدّه ، وعليك أن تقول وعلينا أن نسمع ، فلا تقدم فينا السيّئة قبل الحسنة .
    واُفحم ابن زياد , فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة(3) .
    مسلم في بيت هانئ

    وبعدما كان مسلم في بيت المختار اضطر إلى تغيير مقرّه ؛ فقد شعر بالخطر الذي داهمه بقدوم الطاغية ابن مرجانة ، فهو يعلم أنّ هذا الوغد لا يتحرّج من اقتراف أيّ جريمة في سبيل الوصول إلى أهدافه .
    ـــــــــــــــــــــ
    (1) مقاتل الطالبيّين / 97 .
    (2) الفصول المهمّة / 197 .
    (3) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 2 / 160 . والتجأ مسلم إلى دار الزعيم الكبير زعيم الكوفة هانئ بن عروة فهو سيّد مراد ، وعنده من القوّة ما يضمن حماية مسلم ، فاتّخذ داره معقلاً للثورة ومركزاً للدعوة ، وقد قابله هانئ بمزيد زائد من الحفاوة والتكريم ، وأخذ الكوفيون يتوافدون على مسلم زرافات ووحداناً ، وهم يلحّون عليه أن يكتب إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) بالمجيء إليهم .
    التجسّس على مسلم (عليه السّلام)

    وأوّل بادرة وأخطرها قام بها ابن زياد هي التجسّس على مسلم (عليه السّلام) ، ومعرفة نشاطاته السياسيّة , والوقوف على نقاط القوّة والضعف عنده .

    وقد اختار للقيام بهذه المهمّة معقلاً مولاه , وكان فطناً ذكياً ، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يتّصل بالشيعة ويعرّفهم أنّه من أهل الشام ، وأنّه من موالي ذي الكلاع الحميري ، وإنّما أمره بالانتساب للموالي ؛ لأنّ الصبغة السائدة لهم هي الولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) ، وقال له : إذا التقيت بأحد من الشيعة فقل له : إنّه ممّن أنعم الله عليه بحبّ أهل البيت ، وقد سمع أنّه قدم رجل منهم إلى الكوفة يدعو للإمام الحسين ، وعنده مال يريد أن يلقاه ليوصله إليه حتّى يستعين به على حرب عدوّه .

    ومضى معقل في مهمّته , فدخل الجامع الأعظم وجعل يسأل عمّن له معرفة بمسلم , فأرشدوه إلى مسلم بن عوسجة ، وهو من ألمع شخصيات الشيعة في الكوفة ، فانبرى إليه يُظهر الإخلاص والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) قائلاً : إنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال ، وتدلّني على صاحبك لاُبايعه ، وإن شئت أخذت بيعتي قبل لقائي إيّاه .
    وخدع مسلم بقوله ، فقال له : لقد سرّني لقاؤك إيّاي لتنال الذي تنال , والذي تحبّ ، وينصر الله بك أهل نبيّه ، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي من قبل أن يتمّ ؛ مخافة هذا الطاغية وسطوته . ثمّ أخذ منه البيعة والمواثيق المغلّظة على النصيحة
    الصفحة (205)

    وكتمان الأمر(1) .
    وفي اليوم الثاني أدخله على مسلم , فبايعه وأخذ منه المال وأعطاه إلى أبي ثمامة الصائدي ، وكان موكّلاً بقبض المال ليشتري به السّلاح والكلاع .

    وكان هذا الجاسوس الخطير معقل أوّل داخل على مسلم وآخر خارج منه ، وقد أحاط بجميع أسرار الثورة , ونقلها إلى ابن زياد حتّى وقف على جميع مخطّطات الثورة وأعضائها .
    اعتقال هانئ

    وعرف ابن زياد أنّ أهم أعضاء الثورة هانئ بن عروة الزعيم الكبير , وفي بيته مسلم بن عقيل ، فأرسل وفداً خلفه كان منهم حسّان بن أسماء بن خارجة زعيم فزارة ، ومحمّد بن الأشعث زعيم كندة ، وعمرو بن الحجّاج وهو من زعماء مذحج ، ولمّا التقوا به قالوا له : ما يمنعك من لقاء الأمير ؛ فإنّه قد ذكرك وقال : لو علم أنّه شاكٍ لعدته .
    فاعتذر لهم وقال : الشكوى تمنعني . فلم يقنعوا بذلك ، وأخذوا يلحّون عليه في زيارته ، فاستجاب لهم على كره وسار معهم ، فلمّا كان قريباً من القصر أحسّت نفسه بالشرّ ، فقال لحسان بن أسماء : يابن الأخ ، إنّي والله لخائف من هذا الرجل , فما ترى ؟

    فقال له حسان : يا عمّ ، والله ما أتخوّف عليك شيئاً ، ولم تجعل على نفسك سبيلاً . وأخذ القوم يلحّون عليه بمقابلة ابن مرجانة فاستجاب لهم , ولمّا مثل أمامه استقبله ابن مرجانة بعنف ، وقال له : أتتك بخائن رجلاه .
    وذعر هانئ فقال له :
    ـــــــــــــــــــــ
    (1) تاريخ ابن الأثير 3 / 269 .
يعمل...
X