ذهن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) طيلة المدّة التي عاشها بعد أبيه ، وكان يذكره مشفوعاً بالأسى والحزن ، وهو يقول : (( والله ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلاّ وخنقتني العبرة ، وتذكّرت فرارهنَّ يوم الطفّ من خيمة إلى خيمة , ومن خباء إلى خباء ، ومنادي القوم ينادي : احرقوا بيوت الظالمين )) .
سلب حرائر الوحي
وعمد أراذل أهل الكوفة ، وعبيد ابن مرجانة إلى سلب حرائر النبوّة وعقائل الوحي ؛ فسلبوا ما عليهنَّ من حلي وحلل ، وعمد بعض الأنذال إلى السيدة اُمّ كلثوم فسلب قرطيها ، وأسرع وغد خبيث نحو السيدة فاطمة بنت الحسين فانتزع خلخالها وهو يبكي ، فقالت له السيدة : ما لك تبكي ؟
ـ كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
ولمّا رأت ذلك أنكرت عليه ، وطلبت منه أن لا يسلبها , فأجابها : أخاف أن يأخذه غيري(1) .
وعمد الأرجاس إلى نهب جميع ما في الخيام من ثقل ومتاع ، كما عمدوا إلى ضرب بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكعوب رماحهم وهنَّ يلذن بعضهنَّ ببعض من الرعب ، وقد سقطت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين مغشياً عليها من شدّة الضرب ، فلمّا أفاقت رأت عمّتها السيدة اُمّ كلثوم تبكي عند رأسها(2) .
إنّ مأساة بنات الوحي وعقائل الرسالة تذوب من هولها الجبال .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسير أعلام النبلاء 3 / 204 .
(2) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 302 .
الصفحة (273)
إنقاذ العقيلة لزين العابدين (عليه السّلام)
وهجم الفجرة الجفاة على الإمام زين العابدين (عليه السّلام) , وكان مريضاً قد أنهكته العلّة ، فأراد الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن قتله , فنهره حميد بن مسلم وقال له : سبحان الله ! أتقتل الصبيان ؟ إنّما هو مريض .
فلم يعنَ به الخبيث ، ورام قتل الإمام (عليه السّلام) إلاّ أنّ العقيلة سارعت نحوه فتعلّقت به ، وقالت : لا يُقتل حتّى اُقتل دونه(1) .
فكفّ اللئيم عنه ، ولولا السيدة زينب لمُحيت ذرّية أخيها الحسين (عليه السّلام) .
ليلة الحادي عشر
وأقسى ليلة مرّت على حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) هي ليلة الحادي عشر من المحرّم ؛ فقد أحاطت بها جميع رزايا الدنيا ومصائب الأيام ؛ فقد تسلّحت بالصبر وقامت برعاية أيتام أخيها ؛ فقد سارعت تلتقط الأطفال الذين هاموا على وجوههم من الخوف ، وتجمّع العيال في تلك البيداء الموحشة وهي تسلّيهم وتصبّرهم على تحمل تلك الرزايا ، وأمامها الأشلاء الطاهرة قد تناثرت في البيداء , واُحرقت أخبيتها ، وقد أحاط بها أرجاس البشرية ووحوش الأرض .
العقيلة تؤدّي صلاة الشكر
وقامت العقيلة في تلك الليلة القاسية فأدّت صلاة الشكر لله تعالى على ما حلّ بها وبأهلها من الكوارث والخطوب ، طالبة من الله أن يتقبّل ما مُنيت به من الرزايا ، وأن
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ القرماني / 108 .
الصفحة (274)
يثيبها على ذلك , ويتقبّل ما جرى عليها وعلى أخيها من المصائب(1) . كما أدّت وردها من صلاة الليل ، وقد استولى عليها الضعف فأدّت الصلاة من جلوس(2) .
العقيلة (عليها السّلام) تندب أخاها
ونظرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى جثمان أخيها وهو مقطّع الأعضاء قد فُصل عنه الرأس الشريف ، فلم تملك نفسها , وصاحت بصوت يُذيب القلوب : يا محمّداه ! هذا حسين بالعراء ، مرمّل بالدماء ، مقطّع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، وذرّيتك مقتّلة(3) .
ووجم القوم مبهوتين ، وفاضت دموعهم ، وبكى العدو والصديق(4) ؛ فقد استبان عظم الجريمة التي اقترفوها , وودّوا أنّ الأرض قد خاست بهم .
العقيلة (عليها السّلام) تخفّف لوعة زين العابدين (عليه السّلام)
وجزع الإمام زين العابدين (عليه السّلام) كأشدّ ما يكون الجزع حينما رأى جثمان أبيه وجثت أهل بيته وأصحابه منبوذة بالعراء , لم ينبرِ أحد إلى مواراتها ، وبصرت به العقيلة وهو يجود بنفسه ، فقالت له : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وإخوتي ؟ فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك ، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السماوات ، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المُقطّعة والجسوم
ـــــــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 62 .
(2) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 309 .
(3) خطط المقريزي 2 / 280 ، البداية والنهاية 8 / 193 .
(4) جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب / 140 .
الصفحة (275)
المضرّجة فيوارونها ، وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء , لا يُدرس أثره ، ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجهدنَّ أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلى علوّاً(1) .
وأزالت سيّدة النساء ما ألمّ بابن أخيها من الحزن العميق ؛ فقد أحاطته علماً بما سمعته من جدّها وأبيها من قيام جماعة من المؤمنين بمواراة الجثث الطاهرة ، وسينصب لها علم لا يُمحى أثره حتّى يرث الله الأرض ومَنْ عليها . وقد جدّ الأقزام من ملوك الاُمويِّين وإخوانهم العباسيّين على محو تلك المراقد العظيمة فلم تزدد إلاّ علوّاً ، وبقيت شامخة على الدهر كأعزّ مرقد على وجه الأرض .
لقد مضت ذكرى أبي الأحرار تملأ الدنيا إشراقاً وفخراً كأسمى ذكرى تعتزّ بها الإنسانيّة في جميع أدوارها .
ـــــــــــــــــــــ
(1) كامل الزيارات / 221 . سبايا آل البيت (عليهم السّلام) في الكوفة
وحُملت عقائل النبوّة وحرائر الوحي سبايا إلى الكوفة ومعهنَّ الأيتام ، وقد ربطوا بالحبال , وحملوا على جمال بغير وطاء ، وقد عزفت أبواق الجيش وخفقت راياتهم ، وكان منظراً رهيباً تهلع منه القلوب .
وقد وصفه مسلم الجصّاص يقول : دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة , فبينما أُجصص الأبواب ، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جميع الكوفة ، فقلت لأحد خدام القصر : ما لي أرى الكوفة تضجّ ؟
ـ الساعة يأتون برأس خارجي خرج على يزيد .
ـ مَنْ هذا الخارجي ؟
ـ الحسين بن عليّ .
وكان هذا النبأ كالصاعقة على رأسه ؛ فقد أخذ يلطم على وجهه حتّى خشي على عينيه أن تذهبا ، وغسل يديه من الجص وخرج من القصر .
يقول : فبينما أنا واقف والناس يتوقّعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبل أربعون جملاً تحمل النساء والأطفال ، وإذا بعلي بن الحسين على بعير بغير غطاء , وأوداجه تشخب دماً ، وهو يبكي ويقول :
يا اُمةَ السوءِ لا سقياً لربعكمُ يـا اُمـةً لم تراعِ جدّنا فينا
لو أنّنا ورسول اللهِ يجمعنا يوم القيامة ما كنتم تقولونا
الصفحة (278)
تسيّرونا على الأقتابِ عاريةً كأنّنا لم نشيّد فيكمُ دينا(1)
وتحدّث حذيم بن شريك الأسدي عن ذلك المنظر المؤلم , [حيث] يقول : قدمت إلى الكوفة سنة (61هـ) عند مجيء علي بن الحسين من كربلاء إلى الكوفة ، ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود ، وقد خرج الناس ينظرون إليهم , وكانوا على جمال بغير غطاء ، فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن , ورأيت عليّ بن الحسين قد أنهكته العلّة وفي عنقه الجامعة ، ويده مغلولة إلى عنقه ، وهو يقول بصوت ضعيف : (( إنّ هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا , فمَنْ قتلنا ؟! )) .
وانبرت إحدى السيدات , فسألت إحدى العلويات وقالت لها : من أيّ الأسارى أنتن ؟ فأجابتها العلوية : نحن اُسارى أهل البيت .
وكان هذا النبأ كالصاعقة عليها , فصرخت وصرخت اللاتي كنّ معها ، ودوّى صراخهن في أرجاء الكوفة ، وبادرت المرأة إلى بيتها فجمعت ما فيه من اُزر ومقانع فجعلت تناولها إلى العلويات ليتسترنَ بها عن أعين الناس ، كما بادرت سيدة اُخرى فجاءت بطعام وتمر ، وأخذت تلقيه على الصبية التي أضناها الجوع ، ونادت السيدة اُمّ كلثوم من خلف الركب : إنّ الصدقة حرام علينا أهل البيت(2) .
ولمّا سمعت الصبية التي تربّت بآداب أهل البيت مقالة عمّتهم رمى كلّ واحد ما في يده أو ما في فمه من الطعام ، وراح يقول لمَنْ معه : إنّ عمّتي تقول : الصدقة حرام علينا أهل البيت .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ عبد الله نور الله ، (مخطوط) .
(2) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 335 .
خطاب العقيلة زينب (عليها السّلام)
وحينما رأت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) زينب الجموع الزاخرة التي ملأت الشوارع والأزقة ، وقد أحاطت بها , اندفعت إلى الخطابة لبلورة الرأي العام ، وإظهار المصيبة الكبرى التي داهمت العالم الإسلامي بقتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وتحميل الكوفيّين مسؤولية هذه الجريمة النكراء ؛ فهم الذين نقضوا ما عاهدوا الله عليه من نصرة الإمام الحسين (عليه السّلام) والذبّ عنه ، ولكنّهم خسروا ذلك , وقتلوه ثمّ راحوا ينوحون ويبكون كأنّهم لم يقترفوا هذا الإثم العظيم .
وهذا نصّ خطابها : الحمد لله ، والصلاة على جدّي محمّد وآله الطيّبين الأخيار . أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل(1) والغدر ، أتبكون ؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّة ، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم . ألا وهل فيكم إلاّ الصلف والنطف ، والصدر الشيف ، وملق الإماء ، وغمز الأعداء , أو كمرعى على دمنة ، أو كفضّة على ملحودة ، ألا ساء ما قدّمتم لأنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون !
أتبكون وتنتحبون ؟! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ؛ فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنّة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار
ـــــــــــــــــــــ
(1) في نسخة : ( الغدر ) .
الصفحة (280)
حجّتكم ، ومدرة سنّتكم ؟! ألا ساء ما تزرون ، وبعداً لكم وسحقاً ! فلقد خاب السعي ، وتبّت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة .
ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم , وأيّ كريمة له أبرزتم , وأيّ دم له سفكتم , وأيّ حرمة له انتهكتم ؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء , سوداء فقماء ـ وفي بعضها : خرقاء شوهاء ـ كطلاع الأرض وملء السماء . أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون ؟ فلا يستخفنّكم المهل ؛ فإنّه لا يحفزه البدار , ولا يخاف فوت الثار ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد(1) .
لقد قرعتهم عقيلة الرسول بخطابها البليغ ، وعرّفتهم زيف إسلامهم ، وكذب دموعهم ، وأنّهم من أحطّ المجرمين ؛ فقد اقترفوا أفضع جريمة وقعت في الأرض ؛ فقد قتلوا المنقذ والمحرّر الذي أراد لهم الخير ، وفروا بقتله كبد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وانتهكوا حرمته ، وسبوا عياله ، فأيّ جريمة أبشع من هذه الجريمة ؟!
اضطراب الرأي العام
واضطرب أهل الكوفة من خطاب سليلة النبوّة ، ووصف حذيم الأسدي مدى الأثر البالغ الذي أحدثته العقيلة في خطابها , يقول :
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 335 .
الصفحة (281)
لم أرَ والله خفرة أنطق منها ، كأنّما تُفرغ عن لسان الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، ورأيت الناس بعد خطابها حيارى ، واضعي أيديهم على أفواههم ، ورأيت شيخاً قد دنا منها يبكي حتّى اخضبّت لحيته , وهو يقول : بأبي أنتم واُمّي ! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونسلكم لا يبور ولا يخزى أبداً(1) .
ورأى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) الوضع الراهن لا يساعد على استمرارها في الخطاب ، فقطع عليها خطبتها قائلاً : (( اسكتي يا عمّة ، فأنت بحمد الله عالمة غير معلّمة ، وفهمة غير مفهمة ))(2) .
خطاب السيدة فاطمة (عليها السّلام)
وانبرت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام) فخطبت أبلغ خطاب وأروعه ، وكانت طفلة , وقد برزت فيها معالم الوراثة النبويّة ، فقالت : الحمد لله عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده واُؤمن به وأتوكّل عليه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله ، وأنّ ذرّيّته ذُبحوا بشطّ الفرات , بغير ذخل ولا ترات .
اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب ، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود لوصيّة عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ، المسلوب حقّه ، المقتول بغير ذنب ـ كما قُتل ولده بالأمس ـ في بيتٍ من بيوت الله ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم .
تعساً لرؤوسهم !
ـــــــــــــــــــــ
(1) نور الأبصار / 276 .
(2) الاحتجاج ـ الطبرسي 2 / 304 ـ 305 .
الصفحة (282)
ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته , حتّى قبضته إليك محمود النقيبة ، طيّب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم تأخذه اللّهمّ فيك لومة لائم , ولا عذل عاذل .
هديته يا ربّ للإسلام صغيراً ، وحمدت مناقبه كبيراً ، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلواتك عليه وآله حتّى قبضته إليك ، زاهداً في الدنيا غير حريص عليها ، راغباً في الآخرة ، مجاهداً لك في سبيلك ، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم .
أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخُيَلاء ، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسناً ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه , ووعاء فهمه وحكمته ، وحجّته على أهل الأرض في بلاده لعباده ؛ أكرمنا الله بكرامته , وفضّلنا بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) على كثير ممّن خلق تفضيلاً بيّناً .
فكذّبتمونا وكفّرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً , وأموالنا نهباً ، كأنّنا أولاد ترك أو كابل ، كما قتلتم جدّنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت ؛ لحقد متقدّم , قرّت لذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم ؛ افتراء على الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين .
فلا تدعُوَنّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا , ونالت أيديكم من أموالنا ؛ فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) .
الصفحة (283)
تبّاً لكم ! فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأنّ قد حلّ بكم ، وتواترت من السماء نقمات ، فيسحتكم بعذاب , ويذيق بعضكم بأس بعض , ثمّ تخلّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين .
ويلكم ! أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم , وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا ؟! أم بأيّة رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا ؟! قست والله قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطُبع على أفئدتكم ، وخُتم على أسماعكم وأبصاركم [سوّل لكم الشيطان وأملى لكم , وجعل على بصركم] غشاوةً فأنتم لا تهتدون .
فتبّاً لكم يا أهل الكوفة ! أيّ ترات لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) قِبَلكم , وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب (عليه السّلام) جدّي وبنيه وعترة النبيّ الأخيار صلوات الله وسلامه عليهم ؟!
وافتخر بذلك مفتخركم فقال :
نحن قتلنا عليّاً وبني علي بـسيوف هنديّة ورماحِ
وسبَينا نساءهم سبيَ تركٍ و نطـحناهم فـأيّ نطاحِ
بفيك أيّها القاتل الكثكث والأثلب(1) ، افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ! فاكظم واقع كما
ـــــــــــــــــــــ
(1) الكثكث : التراب . الأثلب : فتات الحجارة والتراب .
الصفحة (284)
أقعى أبوك ، فإنّما لكلّ امرئ ما اكتسب وما قدّمت يداه . أحسدتمونا ـ ويلاً لكم ! ـ على ما فضّلنا الله !
فما ذنبنا إن جاش دهراًً بحورنا وبحرُك ساجٍ لا يواري الدعامصا
( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ )(1) .
تحدّثت سليلة النبوّة في خطابها الرائع البليغ عن اُمور بالغة الأهمية ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسين) .
صدى خطابها
وأثّر خطاب السيدة الزكية فاطمة في نفوس الجماهير ؛ فقد وجلت منه عيونهم , ووجلت قلوبهم ، وعرفوا عظيم ما اقترفوه من الإثم , فاندفعوا ببكاء قائلين : حسبك يابنة الطاهرين ؛ فقد أحرقت قلوبنا ، وأنضجت نحورنا ، وأضمرت أجوافنا .
وأمسكت السيدة عن الكلام ، وتركت جماهير الكوفيّين في محنتهم وشقائهم .
خطاب السيّدة اُمّ كلثوم (عليها السّلام)
وانبرت حفيدة الرسول السيدة اُمّ كلثوم(2) إلى الخطابة , فأومأت إلى الناس
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 339 .
(2) ذهب السيد المقرّم وغيره إلى أنّ السيّدة اُمّ كلثوم هي السيدة زينب (عليها السّلام) .
سلب حرائر الوحي
وعمد أراذل أهل الكوفة ، وعبيد ابن مرجانة إلى سلب حرائر النبوّة وعقائل الوحي ؛ فسلبوا ما عليهنَّ من حلي وحلل ، وعمد بعض الأنذال إلى السيدة اُمّ كلثوم فسلب قرطيها ، وأسرع وغد خبيث نحو السيدة فاطمة بنت الحسين فانتزع خلخالها وهو يبكي ، فقالت له السيدة : ما لك تبكي ؟
ـ كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
ولمّا رأت ذلك أنكرت عليه ، وطلبت منه أن لا يسلبها , فأجابها : أخاف أن يأخذه غيري(1) .
وعمد الأرجاس إلى نهب جميع ما في الخيام من ثقل ومتاع ، كما عمدوا إلى ضرب بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بكعوب رماحهم وهنَّ يلذن بعضهنَّ ببعض من الرعب ، وقد سقطت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين مغشياً عليها من شدّة الضرب ، فلمّا أفاقت رأت عمّتها السيدة اُمّ كلثوم تبكي عند رأسها(2) .
إنّ مأساة بنات الوحي وعقائل الرسالة تذوب من هولها الجبال .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مسير أعلام النبلاء 3 / 204 .
(2) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 302 .
الصفحة (273)
إنقاذ العقيلة لزين العابدين (عليه السّلام)
وهجم الفجرة الجفاة على الإمام زين العابدين (عليه السّلام) , وكان مريضاً قد أنهكته العلّة ، فأراد الخبيث الأبرص شمر بن ذي الجوشن قتله , فنهره حميد بن مسلم وقال له : سبحان الله ! أتقتل الصبيان ؟ إنّما هو مريض .
فلم يعنَ به الخبيث ، ورام قتل الإمام (عليه السّلام) إلاّ أنّ العقيلة سارعت نحوه فتعلّقت به ، وقالت : لا يُقتل حتّى اُقتل دونه(1) .
فكفّ اللئيم عنه ، ولولا السيدة زينب لمُحيت ذرّية أخيها الحسين (عليه السّلام) .
ليلة الحادي عشر
وأقسى ليلة مرّت على حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) هي ليلة الحادي عشر من المحرّم ؛ فقد أحاطت بها جميع رزايا الدنيا ومصائب الأيام ؛ فقد تسلّحت بالصبر وقامت برعاية أيتام أخيها ؛ فقد سارعت تلتقط الأطفال الذين هاموا على وجوههم من الخوف ، وتجمّع العيال في تلك البيداء الموحشة وهي تسلّيهم وتصبّرهم على تحمل تلك الرزايا ، وأمامها الأشلاء الطاهرة قد تناثرت في البيداء , واُحرقت أخبيتها ، وقد أحاط بها أرجاس البشرية ووحوش الأرض .
العقيلة تؤدّي صلاة الشكر
وقامت العقيلة في تلك الليلة القاسية فأدّت صلاة الشكر لله تعالى على ما حلّ بها وبأهلها من الكوارث والخطوب ، طالبة من الله أن يتقبّل ما مُنيت به من الرزايا ، وأن
ـــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ القرماني / 108 .
الصفحة (274)
يثيبها على ذلك , ويتقبّل ما جرى عليها وعلى أخيها من المصائب(1) . كما أدّت وردها من صلاة الليل ، وقد استولى عليها الضعف فأدّت الصلاة من جلوس(2) .
العقيلة (عليها السّلام) تندب أخاها
ونظرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى جثمان أخيها وهو مقطّع الأعضاء قد فُصل عنه الرأس الشريف ، فلم تملك نفسها , وصاحت بصوت يُذيب القلوب : يا محمّداه ! هذا حسين بالعراء ، مرمّل بالدماء ، مقطّع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، وذرّيتك مقتّلة(3) .
ووجم القوم مبهوتين ، وفاضت دموعهم ، وبكى العدو والصديق(4) ؛ فقد استبان عظم الجريمة التي اقترفوها , وودّوا أنّ الأرض قد خاست بهم .
العقيلة (عليها السّلام) تخفّف لوعة زين العابدين (عليه السّلام)
وجزع الإمام زين العابدين (عليه السّلام) كأشدّ ما يكون الجزع حينما رأى جثمان أبيه وجثت أهل بيته وأصحابه منبوذة بالعراء , لم ينبرِ أحد إلى مواراتها ، وبصرت به العقيلة وهو يجود بنفسه ، فقالت له : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وإخوتي ؟ فوالله إنّ هذا لعهد من الله إلى جدّك وأبيك ، ولقد أخذ الله ميثاق اُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السماوات ، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المُقطّعة والجسوم
ـــــــــــــــــــــ
(1) زينب الكبرى / 62 .
(2) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 309 .
(3) خطط المقريزي 2 / 280 ، البداية والنهاية 8 / 193 .
(4) جواهر المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب / 140 .
الصفحة (275)
المضرّجة فيوارونها ، وينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء , لا يُدرس أثره ، ولا يُمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجهدنَّ أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلى علوّاً(1) .
وأزالت سيّدة النساء ما ألمّ بابن أخيها من الحزن العميق ؛ فقد أحاطته علماً بما سمعته من جدّها وأبيها من قيام جماعة من المؤمنين بمواراة الجثث الطاهرة ، وسينصب لها علم لا يُمحى أثره حتّى يرث الله الأرض ومَنْ عليها . وقد جدّ الأقزام من ملوك الاُمويِّين وإخوانهم العباسيّين على محو تلك المراقد العظيمة فلم تزدد إلاّ علوّاً ، وبقيت شامخة على الدهر كأعزّ مرقد على وجه الأرض .
لقد مضت ذكرى أبي الأحرار تملأ الدنيا إشراقاً وفخراً كأسمى ذكرى تعتزّ بها الإنسانيّة في جميع أدوارها .
ـــــــــــــــــــــ
(1) كامل الزيارات / 221 . سبايا آل البيت (عليهم السّلام) في الكوفة
وحُملت عقائل النبوّة وحرائر الوحي سبايا إلى الكوفة ومعهنَّ الأيتام ، وقد ربطوا بالحبال , وحملوا على جمال بغير وطاء ، وقد عزفت أبواق الجيش وخفقت راياتهم ، وكان منظراً رهيباً تهلع منه القلوب .
وقد وصفه مسلم الجصّاص يقول : دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة , فبينما أُجصص الأبواب ، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جميع الكوفة ، فقلت لأحد خدام القصر : ما لي أرى الكوفة تضجّ ؟
ـ الساعة يأتون برأس خارجي خرج على يزيد .
ـ مَنْ هذا الخارجي ؟
ـ الحسين بن عليّ .
وكان هذا النبأ كالصاعقة على رأسه ؛ فقد أخذ يلطم على وجهه حتّى خشي على عينيه أن تذهبا ، وغسل يديه من الجص وخرج من القصر .
يقول : فبينما أنا واقف والناس يتوقّعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبل أربعون جملاً تحمل النساء والأطفال ، وإذا بعلي بن الحسين على بعير بغير غطاء , وأوداجه تشخب دماً ، وهو يبكي ويقول :
يا اُمةَ السوءِ لا سقياً لربعكمُ يـا اُمـةً لم تراعِ جدّنا فينا
لو أنّنا ورسول اللهِ يجمعنا يوم القيامة ما كنتم تقولونا
الصفحة (278)
تسيّرونا على الأقتابِ عاريةً كأنّنا لم نشيّد فيكمُ دينا(1)
وتحدّث حذيم بن شريك الأسدي عن ذلك المنظر المؤلم , [حيث] يقول : قدمت إلى الكوفة سنة (61هـ) عند مجيء علي بن الحسين من كربلاء إلى الكوفة ، ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود ، وقد خرج الناس ينظرون إليهم , وكانوا على جمال بغير غطاء ، فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن , ورأيت عليّ بن الحسين قد أنهكته العلّة وفي عنقه الجامعة ، ويده مغلولة إلى عنقه ، وهو يقول بصوت ضعيف : (( إنّ هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا , فمَنْ قتلنا ؟! )) .
وانبرت إحدى السيدات , فسألت إحدى العلويات وقالت لها : من أيّ الأسارى أنتن ؟ فأجابتها العلوية : نحن اُسارى أهل البيت .
وكان هذا النبأ كالصاعقة عليها , فصرخت وصرخت اللاتي كنّ معها ، ودوّى صراخهن في أرجاء الكوفة ، وبادرت المرأة إلى بيتها فجمعت ما فيه من اُزر ومقانع فجعلت تناولها إلى العلويات ليتسترنَ بها عن أعين الناس ، كما بادرت سيدة اُخرى فجاءت بطعام وتمر ، وأخذت تلقيه على الصبية التي أضناها الجوع ، ونادت السيدة اُمّ كلثوم من خلف الركب : إنّ الصدقة حرام علينا أهل البيت(2) .
ولمّا سمعت الصبية التي تربّت بآداب أهل البيت مقالة عمّتهم رمى كلّ واحد ما في يده أو ما في فمه من الطعام ، وراح يقول لمَنْ معه : إنّ عمّتي تقول : الصدقة حرام علينا أهل البيت .
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ عبد الله نور الله ، (مخطوط) .
(2) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 335 .
خطاب العقيلة زينب (عليها السّلام)
وحينما رأت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) زينب الجموع الزاخرة التي ملأت الشوارع والأزقة ، وقد أحاطت بها , اندفعت إلى الخطابة لبلورة الرأي العام ، وإظهار المصيبة الكبرى التي داهمت العالم الإسلامي بقتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وتحميل الكوفيّين مسؤولية هذه الجريمة النكراء ؛ فهم الذين نقضوا ما عاهدوا الله عليه من نصرة الإمام الحسين (عليه السّلام) والذبّ عنه ، ولكنّهم خسروا ذلك , وقتلوه ثمّ راحوا ينوحون ويبكون كأنّهم لم يقترفوا هذا الإثم العظيم .
وهذا نصّ خطابها : الحمد لله ، والصلاة على جدّي محمّد وآله الطيّبين الأخيار . أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل(1) والغدر ، أتبكون ؟! فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنّة ، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم . ألا وهل فيكم إلاّ الصلف والنطف ، والصدر الشيف ، وملق الإماء ، وغمز الأعداء , أو كمرعى على دمنة ، أو كفضّة على ملحودة ، ألا ساء ما قدّمتم لأنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون !
أتبكون وتنتحبون ؟! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ؛ فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنّة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار
ـــــــــــــــــــــ
(1) في نسخة : ( الغدر ) .
الصفحة (280)
حجّتكم ، ومدرة سنّتكم ؟! ألا ساء ما تزرون ، وبعداً لكم وسحقاً ! فلقد خاب السعي ، وتبّت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة .
ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم , وأيّ كريمة له أبرزتم , وأيّ دم له سفكتم , وأيّ حرمة له انتهكتم ؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء , سوداء فقماء ـ وفي بعضها : خرقاء شوهاء ـ كطلاع الأرض وملء السماء . أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون ؟ فلا يستخفنّكم المهل ؛ فإنّه لا يحفزه البدار , ولا يخاف فوت الثار ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد(1) .
لقد قرعتهم عقيلة الرسول بخطابها البليغ ، وعرّفتهم زيف إسلامهم ، وكذب دموعهم ، وأنّهم من أحطّ المجرمين ؛ فقد اقترفوا أفضع جريمة وقعت في الأرض ؛ فقد قتلوا المنقذ والمحرّر الذي أراد لهم الخير ، وفروا بقتله كبد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وانتهكوا حرمته ، وسبوا عياله ، فأيّ جريمة أبشع من هذه الجريمة ؟!
اضطراب الرأي العام
واضطرب أهل الكوفة من خطاب سليلة النبوّة ، ووصف حذيم الأسدي مدى الأثر البالغ الذي أحدثته العقيلة في خطابها , يقول :
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 335 .
الصفحة (281)
لم أرَ والله خفرة أنطق منها ، كأنّما تُفرغ عن لسان الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، ورأيت الناس بعد خطابها حيارى ، واضعي أيديهم على أفواههم ، ورأيت شيخاً قد دنا منها يبكي حتّى اخضبّت لحيته , وهو يقول : بأبي أنتم واُمّي ! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونسلكم لا يبور ولا يخزى أبداً(1) .
ورأى الإمام زين العابدين (عليه السّلام) الوضع الراهن لا يساعد على استمرارها في الخطاب ، فقطع عليها خطبتها قائلاً : (( اسكتي يا عمّة ، فأنت بحمد الله عالمة غير معلّمة ، وفهمة غير مفهمة ))(2) .
خطاب السيدة فاطمة (عليها السّلام)
وانبرت السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام) فخطبت أبلغ خطاب وأروعه ، وكانت طفلة , وقد برزت فيها معالم الوراثة النبويّة ، فقالت : الحمد لله عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده واُؤمن به وأتوكّل عليه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله ، وأنّ ذرّيّته ذُبحوا بشطّ الفرات , بغير ذخل ولا ترات .
اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب ، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود لوصيّة عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ، المسلوب حقّه ، المقتول بغير ذنب ـ كما قُتل ولده بالأمس ـ في بيتٍ من بيوت الله ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم .
تعساً لرؤوسهم !
ـــــــــــــــــــــ
(1) نور الأبصار / 276 .
(2) الاحتجاج ـ الطبرسي 2 / 304 ـ 305 .
الصفحة (282)
ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته , حتّى قبضته إليك محمود النقيبة ، طيّب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم تأخذه اللّهمّ فيك لومة لائم , ولا عذل عاذل .
هديته يا ربّ للإسلام صغيراً ، وحمدت مناقبه كبيراً ، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلواتك عليه وآله حتّى قبضته إليك ، زاهداً في الدنيا غير حريص عليها ، راغباً في الآخرة ، مجاهداً لك في سبيلك ، رضيته فاخترته وهديته إلى صراط مستقيم .
أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخُيَلاء ، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل بلاءنا حسناً ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه , ووعاء فهمه وحكمته ، وحجّته على أهل الأرض في بلاده لعباده ؛ أكرمنا الله بكرامته , وفضّلنا بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) على كثير ممّن خلق تفضيلاً بيّناً .
فكذّبتمونا وكفّرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً , وأموالنا نهباً ، كأنّنا أولاد ترك أو كابل ، كما قتلتم جدّنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت ؛ لحقد متقدّم , قرّت لذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم ؛ افتراء على الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين .
فلا تدعُوَنّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا , ونالت أيديكم من أموالنا ؛ فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة ( فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) .
الصفحة (283)
تبّاً لكم ! فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأنّ قد حلّ بكم ، وتواترت من السماء نقمات ، فيسحتكم بعذاب , ويذيق بعضكم بأس بعض , ثمّ تخلّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين .
ويلكم ! أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم , وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا ؟! أم بأيّة رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا ؟! قست والله قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطُبع على أفئدتكم ، وخُتم على أسماعكم وأبصاركم [سوّل لكم الشيطان وأملى لكم , وجعل على بصركم] غشاوةً فأنتم لا تهتدون .
فتبّاً لكم يا أهل الكوفة ! أيّ ترات لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) قِبَلكم , وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب (عليه السّلام) جدّي وبنيه وعترة النبيّ الأخيار صلوات الله وسلامه عليهم ؟!
وافتخر بذلك مفتخركم فقال :
نحن قتلنا عليّاً وبني علي بـسيوف هنديّة ورماحِ
وسبَينا نساءهم سبيَ تركٍ و نطـحناهم فـأيّ نطاحِ
بفيك أيّها القاتل الكثكث والأثلب(1) ، افتخرت بقتل قوم زكّاهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ! فاكظم واقع كما
ـــــــــــــــــــــ
(1) الكثكث : التراب . الأثلب : فتات الحجارة والتراب .
الصفحة (284)
أقعى أبوك ، فإنّما لكلّ امرئ ما اكتسب وما قدّمت يداه . أحسدتمونا ـ ويلاً لكم ! ـ على ما فضّلنا الله !
فما ذنبنا إن جاش دهراًً بحورنا وبحرُك ساجٍ لا يواري الدعامصا
( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ )(1) .
تحدّثت سليلة النبوّة في خطابها الرائع البليغ عن اُمور بالغة الأهمية ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسين) .
صدى خطابها
وأثّر خطاب السيدة الزكية فاطمة في نفوس الجماهير ؛ فقد وجلت منه عيونهم , ووجلت قلوبهم ، وعرفوا عظيم ما اقترفوه من الإثم , فاندفعوا ببكاء قائلين : حسبك يابنة الطاهرين ؛ فقد أحرقت قلوبنا ، وأنضجت نحورنا ، وأضمرت أجوافنا .
وأمسكت السيدة عن الكلام ، وتركت جماهير الكوفيّين في محنتهم وشقائهم .
خطاب السيّدة اُمّ كلثوم (عليها السّلام)
وانبرت حفيدة الرسول السيدة اُمّ كلثوم(2) إلى الخطابة , فأومأت إلى الناس
ـــــــــــــــــــــ
(1) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) 3 / 339 .
(2) ذهب السيد المقرّم وغيره إلى أنّ السيّدة اُمّ كلثوم هي السيدة زينب (عليها السّلام) .