بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين
وفي المرة الثانية : بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام إلى اليمن للقضاء بينهم بعد أن دخلوا الإسلام ، وهناك روايات كثيرة وصحيحة دلت على ذلك منها :
ما أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده عن علي عليه السلام ، قال : ( بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَبْعَثُنِي إِلَى قَوْمٍ أَسَنَّ مِنِّي وَأَنَا حَدِيثٌ لَا أُبْصِرُ الْقَضَاءَ قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ لِسَانَهُ وَاهْدِ قَلْبَهُ يَا عَلِيُّ إِذَا جَلَسَ إِلَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ قَالَ فَمَا اخْتَلَفَ عَلَيَّ قَضَاءٌ بَعْدُ أَوْ مَا أَشْكَلَ عَلَيَّ قَضَاءٌ بَعْدُ ) وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في حكمه على الحديث : ( إسناده صحيح )
واخرج أبن ماجه في سننه عن علي عليه السلام ، قال : ( بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْيَمَنِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَبْعَثُنِى وَأَنَا شَابٌّ أَقْضِى بَيْنَهُمْ وَلاَ أَدْرِى مَا الْقَضَاءُ قَالَ فَضَرَبَ فِى صَدْرِى بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ قَالَ فَمَا شَكَكْتُ بَعْدُ فِى قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ ) قال الألباني في حكمه على الحديث : ( صحيح )
والمرة الثالثة : خرج علي عليه السلام إلى اليمن لجباية الأموال والصدقات وفي هذا الخروج جعل علي عليه السلام أميرا على أصحابه ، وقفل راجعا إلى مكة حيث التحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وأتم الحج معه ، ثم أبدى بعض الصحابة في مكة المكرمة الشكاية على علي عليه السلام ، روى الطبري في تاريخ الطبري حيث قال : (حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، قال: ثم مضى رسول الله ص عَلَى حَجِّهِ، فَأَرَى النَّاسَ مَنَاسِكَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ سُنَنَ حَجِّهِمْ، وَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَتَهُ ..) فعبارة (ثم مضى رسول الله ص عَلَى حَجِّهِ...) تدل بصراحة على كون هذه القضية في مكة قبل مراسم الحج
وأخرج أحمد في مسنده عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ : ( اشْتَكَى عَلِيًّا النَّاسُ. قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِينَا خَطِيباً فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَشْكُوا عَلِيًّا فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لأَخْشَنُ فِى ذَاتِ اللَّهِ أَوْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ )
وقال ابن الأثير في الكامل في التاريخ تحت عنوان ذكر بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمراءه على الصدقات : ( وَفِيهَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَرَاءَهُ وَعُمَّالَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ، فَبَعَثَ الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ إِلَى صَنْعَاءَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْعَنْسِيُّ وَهُوَ بِهَا، وَبَعَثَ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ إِلَى حَضْرَمَوْتَ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ، وَبَعَثَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ الطَّائِيَّ عَلَى صَدَقَاتِ طَيِّئٍ وَأَسَدٍ، وَبَعَثَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي حَنْظَلَةَ، وَجَعَلَ الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ وَقَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ عَلَى صَدَقَاتِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَبَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى نَجْرَانَ، لِيَجْمَعَ صَدَقَاتِهِمْ وَجِزْيَتَهُمْ وَيَعُودَ، فَفَعَلَ وَعَادَ، وَلَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْجَيْشِ الَّذِي مَعَهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَسَبَقَهُمْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَقِيَهُ بِمَكَّةَ، فَعَقَدَ الرَّجُلُ إِلَى الْجَيْشِ، فَكَسَاهُمْ، كُلَّ رَجُلٍ حُلَّةً مِنَ الْبَزِّ الَّذِي مَعَ عَلِيٍّ، فَلَمَّا دَنَا الْجَيْشُ خَرَجَ عَلِيٌّ لِيَتَلَقَّاهُمْ، فَرَأَى عَلَيْهِمُ الْحُلَلَ، فَنَزَعَهَا عَنْهُمْ، فَشَكَاهُ الْجَيْشُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَشْكُوا عَلِيًّا، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَخْشَنُ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ )
واخرج البيهقي في دلائل النبوة بسند معتبر ، قال : (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَكُنْتُ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَهُ فَلَمَّا أَخَذَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ سَأَلْنَاهُ أَنْ نَرْكَبَ مِنْهَا وَنُرِيحَ إِبِلَنَا، فَكُنَّا قَدْ رَأَيْنَا فِي إِبِلِنَا خَلَلًا، فَأَبَى عَلَيْنَا، وَقَالَ: إِنَّمَا لَكُمْ مِنْهَا سَهْمٌ كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ ... قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .... فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَقِينَا مِنْ عَلِيٍّ مِنَ الْغِلْظَةَ وَسُوءِ الصُّحْبَةِ وَالتَّضْيِيقِ، فَانْتَبَذَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلْتُ أَنَا أُعَدِّدُ مَا لَقِينَا مِنْهُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطِ كَلَامِي ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، وَكُنْتُ مِنْهُ قَرِيبًا ثُمَّ قَالَ: سَعْدُ بْنَ مَالِكٍ الشَّهِيدُ! مَهْ، بَعْضَ قَوْلِكَ لِأَخِيكَ عليّ، فو الله لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَخْشَنُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ سَعْدُ بْنَ مَالِكٍ أَلَا أُرَانِي كُنْتُ فِيمَا يَكْرَهُ مُنْذُ الْيَوْمِ، وَمَا أَدْرِي لَا جَرَمَ وَاللهِ لَا أَذْكُرُهُ بِسُوءٍ أَبَدًا سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً )
ويفهم من الروايات المتقدمة وغيرها أن الخروج الثالث للإمام علي عليه السلام لليمن كان في السنة العاشرة من الهجرة سنة حجة الوداع حيث وافى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة .
كما وقد عبرت الروايات عن الشكاة بعدة ألفاظ منها : الناس ، أصحاب علي ، الجيش ، عمرو بن شاس الأسلمي ، أبو سعيد الخدري بن مالك بن سنان ، فلم تتفق الروايات على مشتك بعينه فهي مختلفة ، وكذلك لم تتفق على مكان الشكوى في المدينة أم في مكة ، قبل إتمام الحج أم بعده ، فقضية الشكوى لا ربط لها بمسألة واقعة الغدير التي نصب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها عليا عليه السلام خليفة للمسلمين ، لأنه لو كانت الشكوى قد حصلت قبل الانتهاء من مراسم الحج كما هو مضمون رواية الطبري فحينئذ لا علاقة للشكوى بواقعة الغدير المتأخرة زمانا لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قام خطيبا بعد هذه الشكوى مباشرة والتي سبقت خطبة الغدير التي كانت بعد إتمام مراسم الحج أما لو كانت الشكوى بعد إتمام مراسم الحج كما هو مضمون رواية بن الأثير فكذا سوف لن تكون خطبة الشكوى مرتبطة بحادثة الغدير لأن خطبة الشكوى كانت بعد الشكاية مباشرة في مكة وقبل تحرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيره متوجها إلى المدينة ومروره بغدير خم .
هذا وأن حديث الغدير كان بأمر من الله تعالى ولا ربط له بشكوى جيش اليمن حيث نزل الوحي على رسول الله يأمره بوجوب إبلاغ المسلمين خلافة علي عليه السلام وإمامته ولم يذكر صلى الله عليه وآله وسلم الشكوى في حديث الغدير فلو كانت الشكوى موجبة لحديث الغدير فلا بد من الإشارة لها من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أشار في خطبته في مكة .
فيتضح أن ما ذكره صاحب الشبهة تبعا للبيهقي وابن كثير وغيرهم من أن حديث الغدير كان سبب الشكوى التي وقعت من البعض إنما كان مجرد حدس واستحسان وأن الأدلة التي ذكروها لا تثبت ما زعموه .