مدد آل الصدر

بحث
يسلط الضوء على خيال طيف السيرة العطرة لآية الله العظمى السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره الشريف)
للمستشار القانوني
رامي احمد الغالبي
يسلط الضوء على خيال طيف السيرة العطرة لآية الله العظمى السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره الشريف)
للمستشار القانوني
رامي احمد الغالبي
المقدمة
الحمد لله والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً دائماً ابدا, لا تحصي له الخلائق عددا وصلاته وسلامه على خير خلقه احمدا وعلى آله الغر الميامين صلاةً وسلاماً ازلياً سرمدا.
اما بعد.
لا يخفى على كل منصفٍ من ان السيرة العطرة للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) تختلف جذرياً عن سير جميع علماء الحوزة العلمية .
حيث ان دوره لم يقتصر على بيان الرأي الفقهي من مسائل الحلال والحرام او المسائل المستحدثة, او حتى القيام بثورة ضد الظلم والطغيان, بل انه (قدس سره) كان مصلحاً شمولياً لجميع ومرافق الحياة التي تخص الشعب العراقي خصوصاً والشعب الإسلامي عموماً, فلقد ظهر اسمه في عالم الإمكان وهو يشـرق فأخذ يعلو ويعلو فعبر لوح المحو والاثبات الى أن استقر في اللوح المحفوظ نقشه فصار وجوباً يسبق الإعلان المهدوي فعله.
وحينها راحت القلوب المؤمنة تتسابق نحوه ، عساها من ضمأ السنين بلسانه العذب تروى ، وعساها من زرع يديه تحصد ثمراً يبعد السنين العجاف عنهم ، فوجوده وجودٌ يُغاث الناس فيه ومن خطوات قدميه يعصـرون , فهو حقاً المدد الذي كان ينتظره الشعب العراقي في اصعب الظروف مع الجلاد.
ونحن إذ نسلط الضوء على خيال سيرته العطرة لا بد لنا من بيان مسألة بغاية الأهمية من أن نؤكد انه ليس لنا من فضلٍ في هذا البحث الموجز إلا إبراز ما دونه تلامذة واحباء ومريدي السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس سره), الذين تشرفنا بتقرير وتدوين ومتابعة كتاباتهم النيرة.
وإن كان لنا من إضافةٍ في هذا المجال ، فهو جهد المقل الذي لا يكاد يذكر ، وحسبي أني جمعت المقالات والتقريرات بقدر ما استطعنا للخروج بهذا البحث اليسير.
ولادته العطرة
ولد السيد الشهيد محمد محمّد صادق الصدر (قدس سره) في (17 ربيع الأول عام 1362 هـ )الموافق 23 / 3 / 1943م في مدينة النجف الأشرف.
اما نسبه الشريف فيرجع إلى الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في سلسلةٍ نسبيةٍ قليلة النظير في صحتها ووضوحها وتواترها، فهو محمد ابن السيد محمد صادق ابن السيد محمد مهدي ابن السيد إسماعيل (الذي سميت أسرة آل الصدر بإسمه) ابن السيد صدر الدين محمد ابن السيد صالح بن السيد محمد بن السيد إبراهيم شرف الدين (جد أسرة آل شرف الدين) ابن السيد زين العابدين ابن السيد نور الدين علي ابن السيد علي نور الدين ابن السيد الحسين بن السيد محمد بن الحسين ابن علي بن محمد بن تاج الدين أبي الحسن بن محمد شمس الدين بن عبد الله بن جلال الدين بن احمد بن حمزة الأصغر بن سعد الله بن حمزة الأكبر بن أبي السعادات محمد بن أبي محمد عبد الله (نقيب الطالبيين في بغداد) بن أبي الحرث محمد بن أبي الحسن علي بن عبد الله بن أبي طاهر بن أبي الحسن محمد المحدّث بن أبي الطيب طاهر بن الحسين القطعي بن موسى أبي سبحة بن إبراهيم المرتضى ابن الإمام أبي إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام).
نشأته المباركة.
نشأ سماحته في أسرةٍ علمية معروفة بالتقوى والعلم والفضل ضمّت مجموعة من فطاحل العلماء منهم جده لأمه آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين (قدس سره) ومنهم والده الحجة السيد محمد صادق الصدر (قدس سره) الذي كان آية في التقوى والتواضع والزهد والورع، وإذا كان احد يوصف بأنه قليل النظير في ذلك فان الوصف ينطبق تماماً على المرحوم السيد محمد صادق الصدر (قدس سره).
والنجف الأشرف هذه المدينة المقدسة تعطي دون حدود لمن يطلب منها لبن التقوى والمعرفة لأنها تضم باب مدينة العلم امير المؤمنين علياً(عليه السلام) الذي لا ينضب ولا يجف غديره، ومن هنا كانت بيئة النجف سبباً آخر ترك آثاره على شخصيته فتجد مجموعة من الخصال والفضائل تتجسد فيه دون رياء أو تصنع.
حيث يذكر احد المقربين من السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) إن المرحوم الحجة السيد محمد صادق الصدر شكا له ولده السيد محمداً الصدر لا من عقوقٍ ولا جفاءٍ ولا قصورٍ أو تقصير بل من كثرة عبادته وسهره في الدعاء والبكاء حتى أوشك على إتلاف نفسه فما كان من السيد محمد باقر الصدر إلاّ أن بعث إليه وطلب منه الإعتدال في العبادة فأستجاب له لأنه كان مطيعاً لأستاذه محباً له لا يعصيه ولا يخالفه.
خصاله النيرة
كان شهيدنا المفدى ذو خُلقٍ رفيعٍ مبرّأٍ من كل رياءٍ أو تصنع ويكفي الإنسان أن يعايشه دقائق ليتعرف على هذه الخصال السامية فيجدها واضحةً جليةً يغنيه العيان عن البرهان.
تخرج السيد محمد محمد صادق الصدر من (كلية الفقه في النجف الاشرف في دورتها الأولى عام 1964).
وكان من المتفوقين في دروسه الحوزوية كما تؤكد روايات زملائه من تلاميذ ابن عمه الشهيد آية الله محمد باقر الصدر (قدس سره), وبغض النظر عن مراحل دراسته التي تخطاها بتفوقٍ وجدارةٍ يكفي أن نشير إلى أن سماحته يُعد من أبرز طلاب السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) ومقرري أبحاثه الفقهية والأصولية.
ومن المعروف أن مدرسة السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) تعد أرقى مدرسة علمية في المعرفة الفقهية والأصولية عمقاً وشمولاً ودقةً وإبداعا, ويعد شهيدنا المفدى علماً من أعلام تلك المدرسة المتفوقة والمتميزة, وترجماناً واضح المعالم لأسس هذه المدرسة المباركة.
اساتذته
درس السيد الشهيد (قدس سره) جملةً من العلوم والمعارف الدينية عند مجموعةٍ من الأساتذة نذكر أهمهم على نحو الإجمال:
1. الفلسفة الإلهية، درسها عند المرحوم الحجة محمد رضا المظفر صاحب كتاب أصول الفقه والمنطق.
2. الأصول والفقه المقارن، على يد الحجة السيد محمد تقي الحكيم.
3. الكفاية درسها عن السيد الشهيد محمد باقر الصدر .
4. المكاسب درسها عند أستاذين الأول محمد باقر الصدر والثاني الملا صدر البادكوبي.
5. أبحاث الخارج وهي أعلى مستوى دراسي حوزوي حضر عند عدد من الأساتذة الفطاحل وهم:
أ. آية الله السيد محسن الحكيم.
ب. آية الله السيد محمد باقر الصدر.
ت. آية الله السيد روح الله الخميني.
ث. آية الله السيد الخوئي
رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فنال على أيدي هؤلاء الأعلام مرتبة الإجتهاد والفتوى التي أهلته للمرجعية العليا.
باشر بتدريس الفقه الإستدلالي (الخارج) للمرة الأولى عام 1978، وكانت مادة البحث من (المختصر النافع) للمحقق العلامة الحلي, وبعد فترة من الزمن باشر بإلقاء أبحاثه العالية في الفقه والأصول (أبحاث الخارج) عام 1990, واستمر متخذاً من مسجد الرأس الملاصق للصحن الحيدري الشريف مدرسة وحصناً روحياً لأنه اقرب بقعة من جسد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
تراثه العلمي.
تأثر الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) بأفكار أساتذته من العلماء والمراجع إذ أن مجرد معرفة عدد من أسماء هؤلاء الأساتذة ستساعد في توضيح الملامح الفكرية لشخصيته، فهو درس لدى آية الله الخميني (قدس سره) والشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر(قدس سره) وآية الله السيد الخوئي(قدس سره)، وآخرين، إلاّ انه إذا تجاوزنا المشترك الفقهي لهؤلاء الأعلام الثلاثة, يمكن القول انه استلهم الفكر الثوري من تجربة ودروس آية الله الخميني (قدس سره) ، واستلهم همّ المشروع التغييري في العراق من تجربة ودروس ونظريات آية الله السيد محمد باقر الصدر (قدس سره), الذي يعد أكبر مفكر إسلامي في العصر الحديث.
ولذا يمكن القول أن السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) مزج بين تجربتين وخرج بتجربته التي اعطت ثماراً لم تقل اهميةً عن ثمار التجارب السابقة, فالتجربة الخمينية التي كانت ذات طابعٍ ثوري ترجمها شهيدنا المفدى الى ثورة ضد الباطل الذي يتمثل بنظام البعث الدموي, فقد أسس اكبر ملتقى إسلامي داخل العراق الا وهو صلاة الجمعة ومن خلال هذا الملتقى الإسلامي الكبير استطاع السيد الشهيد ان يبرهن على ان الظالم يبقى مرعوباً امام إرادة الجماهير الناطقين بالحق فكانت القاعدة الشعبية لشهيدنا المفدى تكتسح كل التوقعات لدى النظام البائد.
اما التجربة الصدرية الأولى، فهو التوجه بكل الجهود والإمكانيات إلى الجانب الإصلاحي العملي الذي يحقق حضوراً تغييرياً في وسط الأمة، وأنجز أول تجربة عملية تغييرية يقودها فقيه في بلد مثل العراق بحركة إنتاج فقهي، عملي أيضاً، أي بمعنى فقه يواكب حركة الحياة، بتطوراتها، ومستجداتها، وتحدياتها وآفاقها المستقبلية، إذ انه أراد أن يربط الفقه بالواقع وأن يبعث فيه روح التجديد.
وبهذا الإستنتاج يمكن القول إن السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) كان فقيهاً عملياً واقعياً معاصراً ثورياً قد لا يتطابق في ثوريته مع السيد الخميني، وقد لا يُصنف في إنتاجه الفكري مع الفكر الصدري الأول، إلاّ انه ضمن الظروف التي عاشها استطاع أن يقترب من الاثنين وأن يوظّف منهجهما المرجعي وأن يتأثر بتجربتهما، وأن يصوغ ملامح تجربته الخاصة, ومرةً أخرى لابد من التأكيد بان قيمة هذه التجربة تنبع من كونها عراقية، بكل استثناءات العراق المعروفة، المتعلقة بالسلطة والجو السياسي والأمة، وموقع الحوزة.
ومهما يكن من أمرٍ فإن السيد الشهيد (قدس سره) ترك وراءه عدداً مهماً من المؤلفات التي قد تساعد في فهم ملامح مشروعه العام منها :
1. نظرات إسلامية في إعلان حقوق الإنسان.
2. فلسفة الحج في الإسلام.
3. أشعة من عقائد الإسلام.
4. القانون الإسلامي وجوده، صعوباته، منهجه.
5. موسوعة الإمام المهدي، صدر منها:
أ. تاريخ الغيبة الصغرى.
ب. تاريخ الغيبة الكبرى.
ت. تاريخ ما بعد الظهور.
ث. اليوم الموعود بين الفكر المادي والديني.
6. ما وراء الفقه (موسوعة فقهية)، وهو عشرة أجزاء.
7. فقه الأخلاق.
8. فقه الفضاء.
9. فقه الموضوعات الحديثة.
10. حديث حول الكذب.
11. بحث حول الرجعة.
12. كلمة في البداء.
13. الصراط القويم.
14. منهج الصالحين (وهي رسالة عملية موسعة اشتملت على المسائل المستحدثة).
15. مناسك الحج.
16. كتاب الصلاة.
17. كتاب الصوم.
18. أضواء على ثورة الإمام الحسين (عليه السلام).
19. منّة المنان في الدفاع عن القرآن
20. منهج الأصول.
21. التنجيم والسحر.
22. مسائل في حرمة الغناء.
مخطوطاته:
ان السيد الشهيد محمد صادق الصدر (قدس سره) وبالرغم ما امتاز به من كتبه المطبوعة إلاّ انه لا تزال هناك جملة من كتبه المخطوطة تنتظر الطبع ومنها:
1. الجزء السادس من موسوعة الإمام المهدي بعنوان هل إن المهدي طويل العمر.
2. البحث الخارجي الاستدلالي الفقهي حوالي 8 أجزاء.
3. دورة في علم الأصول على يد المحقق السيد الخوئي.
4. بين يدي القرآن.
5. دورة في علم الأصول على يد السيد أبي جعفر.
6. مباحث في كتاب الطهارة الاستدلالي.
7. المعجزة في المفهوم الإسلامي.
8. مبحث في المكاسب.
9. مجموعة أشعار الحياة (ديوان شعر).
10. اللمعة في أحكام صلاة الجمعة.
11. الكتاب الحبيب إلى مختصر مغني اللبيب.
12. بحث حول الشيطان.
13. تعليقه على رسالة السيد الخوئي.
14. تعليقة على كتاب المهدي لصدر الدين الصدر.
15. سلسلة خطب الجمعة.
16. فقه الكيمياء.
17. وصيته.
18. أجزاء باقي كتاب منهج الأصول.
19. شرح كتاب الكفاية.
ومن خلال قائمة المؤلفات هذه تتضح بعض اهتمامات شهيدنا المفدى بقضايا الفقه المعاصر وان كل مؤلفٍ من هذه المؤلفات شكل قضيةً من القضايا وحاجة من الحاجات الملحة للكتابة فيها.
إجازته في الرواية:
له إجازات من عدة مشايخ في الرواية أعلاها من: آية الله حسن الطهراني المعروف بـ (اغا بزرك الطهراني) صاحب الذريعة عن أعلى مشايخه وهو الميرزا حسين النوري صاحب مستدرك الوسائل، ومنهم والده الحجة آية الله السيد محمد صادق الصدر وخاله آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين, وابن عمه آية الله الحاج اغا حسين خادم الشريعة, وآية الله السيد عبد الرزاق المقرم الموسوي (صاحب كتاب مقتل الإمام الحسين (عليه السلام), وآية الله السيد حسن الخرسان الموسوي, وآية الله السيد عبد الأعلى السبزواري والدكتور حسين علي محفوظ وغيرهم.
الإعتقالات التي تعرض لها:
قام نظام صدام اللعين بإعتقال السيد محمّد محمد صادق الصدر (قدس سره) عدة مرات ومنها:
1. عام 1972 قامت السلطة البعثية بإعتقاله مع السيد الشهيد محمد باقر الصدر, والسيد محمد باقر الحكيم .
2. عام 1974 قامت السلطة البعثية باعتقاله في مديرية امن النجف, وعندما احتج على سوء معاملة السجناء نقل إلى مديرية امن الديوانية والتي كانت اشد إيذاءً للمؤمنين من بقية مديريات الأمن وقد بقي رهن الإعتقال والتعذيب النفسي والجسدي عدة أسابيع.
3. عام 1998 قامت السلطة البعثية بإستدعاء السيد الشهيد محمد صادق الصدر والتحقيق معه عدة مرات.
4. عام 1999 قامت السلطة البعثية بالتحقيق مع السيد الشهيد الصدر مرات عديدة وتهديده قبل اغتياله.
مرجعيته الشمولية
إن مرجعية السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره)، من أكثر المرجعيات الشيعية في تأريخ الحوزة العلمية إثارة ومفارقات, حيث تكمن المفارقات التي تخص مرجعيته المباركة بما يلي :
المفارقة الأولى: إن السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) لم يكن أحد من الذين عايشوه قبل تصديه للمرجعية يتوقع أن ينهض بهذا الدور الضخم والمهم والخطير في مرحلة من أكثر مراحل المسار السياسي العراقي حساسيةً وتعقيداً، إذ بدا عليه قبل هذا التصدّي للمرجعية التواضع والزهد والمثابرة والبحث والجد في دراسته والتأثر بالثورة الحسينية.
المفارقة الثانية: أن الشائع عن شخصية السيد الشهيد (قدس سره) أنها شخصية بسيطة حيث إن البعض لا يريد حتى أن يصدق بعد استشهاده، انه استطاع أن ينجز هذا التحوّل الكبير في المسار الإسلامي في العراق، وهو تحوّل أثبت الكثير من الذكاء والبراعة والإبداع.
المفارقة الثالثة: تتعلّق بزمن مشروعه التغييري، فهو زمن لا يكاد يستوعب ضخامة هذا المشروع وأبعادِه ومفرداته ومجالاته بضع سنوات استطاع فيها السيد الشهيد محمد صادق الصدر (قدس سره) إنجاز ما لا يمكن إنجازه ربما في عقود.
المفارقة الرابعة: ترتبط بالمكان الذي تحرك فيه هذا المشروع وهو العراق المحكوم إلى أعتى دكتاتورية في العالم وإلى قيود سياسية هائلة، والى تجارب سياسية، لا يمكن أن تشجع أحداً على أن يُفكّر بالقدرة على «تحييد» السلطة، ومن ثمّ الانطلاق برحلة تأسيسية متسارعة لعمل إسلامي كان قبل سنوات يستفزّ هذه السلطة في أبسط مظاهره.
منهجه الثوري
أثار مشروع السيد الشهيد محمد صادق الصدر (قدس سره) جدلاً حاداً في الواقع الإسلامي الداخلي في العراق, غير أنه جدلٌ إيجابي في محصلته النهائية، ورغم معرفة السيد الشهيد (قدس سره) بما سيثيره مشروعه من جدلٍ أو خلافٍ إلاّ انه اجتهد أن يفجر قضية الإصلاح للواقع الإسلامي وفق منهجٍ حكيم ضمن نقاطٍ علمية محكمة كما يلي :
أولاً: انه قدّم نموذجاً جديداً لتعاطي الفقيه مع السلطة، وهو نموذج يجد له مصاديق في تأريخ إشكالية العلاقة بين الفقيه الشيعي والسلطة, إلاّ أن الجديد فيه هو سلطة صدام حسين اللعين, بكل خصوصياتها الدموية، وإمكانية تحييدها لفترةٍ من الزمن، وانتزاع بعض الأدوات من يدها، والدخول معها في معادلةِ صراعٍ علنية حيث أن هذه المعادلة، بحاجةٍ إلى قراءةٍ دقيقة للمتغيرات التي مرّت بها السلطة، والمؤثرات الخارجية عليها، ومن ثمّ تثمير هذه المتغيرات والمؤثرات لصالح الشروع بإصلاحٍ ذاتي من جهة وبناءٍ إسلاميٍ جديد من جهةٍ ثانية.
لقد خاض شهيدنا المفدى هذه المعادلة والتقط كل الفرص الداخلية والخارجية لكي يكون طرفاً قوياً فيها، وهذا ما لم يُفكّر فيه فقيه أو مرجع في العراق, ولذلك فهو تحمّل ما سيقال عنه كثمن لذلك, ولو أن ما يُقال سيكون قاسياً ومريراً، فهو إزاء من كان يقول عنه بأنه (فقيه السلطة) أو (مرجع السلطة) حيث ان مثل هذه التصريحات خاصة من قبل معاصريه من الفقهاء كانت اشبه بالمساهم التبعي في جريمة اغتياله حيث ان أي ثائر عندما ينصدم بمثل هكذا تصريحات خاصة من قبل فقهاء معاصرين له سيصاب بالصدمة ويتقاعس عن الصمود امام الجلاد وسلطته الدموية , إلا ان شهيدنا المفدى (قدس سره) مارس خطاباً توضيحياً في انه ضد الظلم والمؤسسة الظالمة كما انه داعم وبشكلٍ مباشر للحوزة العلمية وفقهاءها ، وانه سائر في ارجاع السلطة الحقيقة اليها الا ان ذلك لم ينفع مع معاصريه.
ثانياً: إن أول خطوات انطلاق مشروع شهيدنا المفدى (قدس سره) ، كانت نحو بناء قاعدة شعبية متفاعلة، وجاء هذا البناء متصاعداً عبر خطوات تحرّك كبرى باتجاه الوسط الإجتماعي والعشائري، تطلّبت الخروج على المألوف المرجعي أو على العُرف المرجعي التقليدي بوضع المرجعية لبيان الحلال والحرام فقط، وقيام السيد الشهيد (قدس سره) بجولاتٍ وزياراتٍ إلى العشائر العراقية، والإطلاع على أوضاعها، وبناء علاقاتٍ رصينةٍ معها ومن ثمّ أخيراً وضع فقهٍ خاص بها اندرج في هذا السياق.
كما تطلّب بناء القاعدة الشعبية، تجاوز خطاب الفقيه المكتوب إلى خطاب الفقيه المسموع، وإلى تنشيط الإتصالات مع الناس وإلى مواكبة همومهم وشؤونهم والعمل بفقه الواقع أو فقه الحياة بكل ما تلد من جديد مع مرور الزمن، إضافة إلى التواجد الميداني معهم، وربط مصير الفقيه مع مصيرهم, وبطبيعة الحال إن هذا الواقع لم يألفه الشعب العراقي من قبل لذا فانه شكّل وضوحاً له بدور الفقيه، ومن ثمّ تعاطفاً معه.
وقد أثبتت تجربة السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس سره) إن الشعب العراقي يختزن الإستجابة للعمل الإسلامي إذ بمجرد أن تحرك شهيدنا المفدى بإتجاهه، فإنه إستجاب إستجابةً واضحة، لا تخلو من الشجاعة.
وربما أن هنالك من يقول إن استجابة هذا الشعب انطلقت في جزءٍ منها من وعيه بموقف السلطة التي سمحت للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) بالتحرك، الأمر الذي أزال جزءاً من المخاوف لديه، ومن ثمّ قرر الإلتحاق بهذه التجربة، ولذا فإن الناس الذين التحقوا بركبه (قدس سره) لم ينتفضوا كلهم بعد اغتياله.
وقد تكون وجهة النظر هذه صحيحة بشكلٍ جزئيٍ ومحدود وإذا قيست التجربة بنتائجها وكلياتها وظروفها واحتياطات السلطة وطبيعتها فإن الأمر لا يبدو كذلك، فجمهور السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) كان له رد فعل وإن كان لا يتناسب مع ما حصل بحكم الظروف الأمنية القاسية التي تقيده، إلاّ انه اختزن وعي هذه التجربة، وسيعبر هذا الوعي عن نفسهِ عاجلاً أو آجلاً في صناعة مستقبل العراق.
ثالثاً: إذا كان تأسيس القاعدة الشعبية، شكّل محوراً أساسياً من محاور المشروع التغييري للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره)، فإن المحور الثاني كان محوراً إصلاحياً للوضع الإسلامي الداخلي، أي لوضع الحوزة، وكل ما يتعلق بشؤونها بدءاً بمواصفات المرجع التي حددها (قدس سره), وما اسماه التفريق بين (المرجعية الناطقة) و(المرجعية الصامتة) ومروراً بأجهزتها الوكلائية, والتبليغية, والمالية, وانتهاءً بمناهجها ومستواها المعرفي، ومواكبتها لحركة العصر وحاجاته ومتطلباته.
رابعاً: كان المحور الآخر الذي شكّل معلماً من معالم مشروع شهيدنا المفدى التغييري, والذي يتمثل بالعلاقة بين الحوزة والأمة واكتشاف الآليات والأساليب والطرق الكفيلة بإيجاد علاقة من نوع آخر بينهما، وكانت صلاة الجمعة كما اسلفنا أكبر آلية تواصلية بين الفقيه والمجتمع وبين الحوزة والأُمّة، إذ لم يُعمل بهذه الآلية من قبل، إلاّ بشكلٍ محدود، ولوعي السيد الشهيد (قدس سره)بأهميتها فانه أعطاها أهميةً استثنائية، وأوصى بضرورةٍ أو وجوب مواصلتها حتى بعد موته.
خامساً: استطاع السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس سره) أن يُنجز كل ذلك عبر منظومةٍ مفاهيميةٍ مغايرة، وان يؤسس شبكة من المفاهيم الخاصة، مفاهيم دينية اجتماعية، ومفاهيم حول شؤون القيادة ومفاهيم حول الشؤون الثقافية والسياسية الأخرى شكّلت بمجملها نسيجاً معرفياً متجانساً، ميّزه عن سواه من الفقهاء وحدّد ملامح مشروعه وتجربته.
فلقد جاء هذا النسيج المعرفي بشيءٍ من الفرادة والخصوصية والإبتكار، فهو تجاوز المشتركات, والثوابت من خلال استيعابها وابرز معالم قراءته الخاصة لتعاليم الإسلام التي تنتمي للاجتهاد البشري، أو الفهم البشري للدين والرسالة السماوية، ولذا فهو لم ينتمي بعد استشهاده إلى تأريخ (الفقهاء التقليديين) بل إنه انتمى إلى تأريخ الفقهاء الثوريين المبدعين المطورين المجدّدين، وأضاف إلى تراكمهم المعرفي تجربةً جديدة لها فرادتها في كثير من الأمور والمسائل.
حيث أن المنظومة المفاهيمية للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس سره) لم تكن منظومة عشوائية مبعثرة, وإنما هناك قصدية واضحة في انتقاء أي مفهوم وعلاقته بالآخر، ومن ثمّ الخروج بمسمّياتٍ ومصطلحاتٍ للتجربة وبالتالي فإنها منظومة مفاهيمية تُشكل مشروعاً تغييرياً له محاوره ومعالمه ومرتكزاته الخاصة حتى وان لم يُسمِّ (قدس سره) هذا المشروع ومحاوره ومرتكزاته ومعالمه.
سادساً: إن ثورة شهيدنا المفدى (قدس سره) كانت ترجماناً واضحاً لطموح السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) الذي بقي حبيساً في صدره ولم تسمح له الظروف، لا ظروف الصراع مع السلطة، ولا ظروف المؤسسة الدينية الشيعية الداخلية، ولا ظروف الوعي المجتمعي، أن يتصدّى له، إذ على رغم المغايرة الواضحة في أمور عديدة فكرية وغير فكرية بين الصدرين الأول والثاني، ورغم احتفاظ تجربة الصدر الثاني ببعض الخصوصيات الميدانية، إلاّ أن التجربة بشكلٍ عامٍ جاءت وكأنها صدى لأماني الصدر الأول في إصلاح الحوزة وفي وجوبية توجهها نحو المجتمع وفي إبراز الوجه السياسي لحركة الإسلام.
وفيما قضى السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) معظم حياته في بحوثٍ فكرية متطوّرة بغية إرساء جذور وأساس المدرسة الإسلامية بكل أبعادها الفلسفية والإقتصادية والإجتماعية وبدأ بدايات في تطوير المناهج الحوزوية، وأعلن خطاباً نظرياً لا يخلو من النقد لواقع هذه الحوزة وتحرك سياسياً تحت ثقل الظروف الخارجية التي ربما تكون ساعدت على دفعه على تسريع الجانب السياسي العملي من مشروعه، جاء دور السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) من شقين شكّلا الإفراز العلوي الذي غيّب في مشروع الصدر الأول، الشق المتعلّق بدور الفقيه العملي الميداني الإجتماعي الإسلامي المندك في الأمة، والمرتبط معها بعد أن اكتشف آليات وأساليب تعبئتها، والشق الثاني الذي يواكب حركة التجديد الفقهي بما يتناسب مع المستجدات والتطورات.
وهكذا بدا المشروعان متغايرين في ادوارهما تبعاً لاختلاف الظروف والقدرات الذاتية، وفي نفس الوقت كمّلا بعضهما البعض في صيرورة تصاعدية تكاملية جميلة، قائمة على تواصل معرفي في حياتهما قبل الإستشهاد، وعلى رابطة دم، شاء الله أن يجعلها هكذا، ولو أنها فسّرت من البعض تفسيراً ثأرياً من السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر لدماء ابن عمه السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدست ارواحهم الزكية).
فهذه الحركات الثورية من قبل آل الصدر الكرام كان لها الدور الأساسي في حفظ المجتمع العراقي من الضياع الديني والإجتماعي فضلاً عن اعطاء الحجم الحقيقي للسلطة البعثية الدموية فقد كان حجمها اما فقهاء آل الصدر حجماً قزمياً ليس إلا.
ونحن نعتقد جازمين من ان أي ثورة ضد الباطل اتت او ستأتي ليس فيها بصمة آل الصدر فهي ثورة خاوية لا تحمل في طياتها عبق الشهادة والشجاعة العلوية, والتأريخ الحوزوي خير دليل على ذلك من سكوت مخجل من قبل اكابر المراجع والعلماء ضد تمادي السلطة البربرية في انتهاك الحرم وإضفاء الفساد بين العباد والأدهى من ذلك تمادي هذه السلطة الشيطانية في قتل رموز الحوزة وعلمائها الثائرين ولا نرى من ارباب هذه الحوزة واولي امرها أي فعلٍ يبرهن وجودها وترجمان سيرها على نهج الإمام الحسين (عليه السلام) بل ولم يسيروا حتى على نهج الإمام الحسن (عليه السلام), فقد طبقوا احاديث التقية على غير مفادها, مسببين انهياراً داخلياً لتماسك علماء الحوزة العلمية في ما بينهم نرى اثره السلبي إلى الآن مع شديد الأسف.
وقائع ما قبل الاغتيال
قد لا يبدو ضرورياً ولا مهماً، الخوض في عملية بحثية أو استنتاجية لتأكيد مسؤولية البعث الشيطاني في العراق عن اغتيال السيد الشهيد محمد محمّد صادق الصدر(قدس سره) ، لأسباب معروفة ومكررة، وتندرج كبديهياتٍ في المعرفة العراقية، وحتى العربية والعالمية، بعد معرفة العالم، كل العالم بملف نظام صدام حسين اللعين في ارتكاب الجريمة، وفي كونه مشروع عنف داخلي وخارجي، اغتال وقتل واعدم عشرات الآلاف من كوادر العراق وبالأخص الحركة الإسلامية، والرموز الدينية والعلمائية.
إن شهيدنا المفدى (قدس سره) وبكل تأكيد تحول إلى رمزٍ يقود ظاهرة إسلامية مليونية، إلاّ أن رموز العراق لا تبرز على صفحات الإعلام العربي إلاّ بعد التصفية والقتل على يد نظام صدام اللعين, الذي مهد لإغتيال السيد الشهيد (قدس سره) عبر تحركات واحتياطات كبيرة، كشفت عنها صحيفة (القبس) الكويتية نقلا عن مصادر عراقية حيث في ضوء تلك التوجيهات (وضعت كافة قوات الحرس الجمهوري في حالة إستعدادٍ قصوى تحت غطاءٍ مشروع تدريبي أعطي الاسم الرمزي (الفارس الذهبي) يستخدم فيه العتاد الحقيقي وصممت الفرضيات طبقاً لحصول تهديدات جوية وتدخل قوات محمولة جواً، تستهدف احتلال أهداف حساسة داخل العراق لإثارة الإضطراب.
كما تضمّن المشروع الممارسة على تنفيذ التنقلات الإستراتيجية تحت ظل التهديد الجوي, وفي ظروف إستيلاء مفارز من القوات الخاصة المعادية للسيطرة على مفارق الطرق المهمة والنقاط الحرجة, كالجسور والمناطق التي تتعذر فيها الحركة خارج الطرق.
كما تم نقل بعض ألوية الحرس الجمهوري من المنطقة الشمالية إلى منطقة الفرات الأوسط.
وكان لقرار فصل محافظة المثنى عن قيادة منطقة الفرات الأوسط بقيادة المجرم (محمد حمزة الزبيدي) وإلحاقها بمنطقة العمليات الجنوبية بقيادة المجرم (علي حسن المجيد) صلة بالتدبير لعملية الإغتيال, وذلك لتخفيف العبء عن قيادة الفرات الأوسط التي تقود محافظات بابل, وواسط, والقادسية, والنجف, وكربلاء والمثنى.
وفي ليلة تنفيذ عملية الإغتيال كانت قوات فرقة حمورابي حرس جمهوري في منطقة الصويرة (قرب واسط) وفرقة نبوخذ نصر حرس جمهوري في كربلاء، فضلاً عن الألوية التي نقلت من المنطقة الشمالية في حالة إنتشارٍ قتالي الأمر الذي مهّد للسيطرة المبكرة على الوضع كأحد أساليب الردع المسبق.
وبالإضافة إلى هذا الإستباق الأمني الإحتياطي الذي جاء قبل تنفيذ الإغتيال، فإن هنالك أنواعاً من التصعيد في المواجهة بين شهيدنا المفدى (قدس سره) والسلطة البعثية الإجرامية، كانت كلها تُنذر بوقوع الجريمة، ففي شهر رمضان الذي سبق الإغتيال حاولت السلطة أن تتدخل في مسار صلاة الجمعة في الكثير من المدن العراقية، والتي يُقيمها وكلاء السيد الشهيد في هذه المدن وكان هذا التدخل ضمن الآليات التالية:
1. حاولت أن تبتز هؤلاء الوكلاء من خلال الطلب المتكرر منهم بالدعاء لحاكم بغداد ولم يكن هذا الطلب جديداً، بل إن السلطة ساومت به قبل أكثر من سنة، إلاّ أنها لم تصل إلى نتيجة، وقررت أن تستخدم لهذا الطلب ورقة ضغط من أجل تصعيد المواجهة.
2. وعندما فشلت في انتزاع الدعاء لصدام حسين, بما يُسيء إلى هذه الظاهرة, ويحاول أن يصورها على أنها ظاهرة السلطة لكن دون جدوى، بعد هذا الفشل راحت تلجأ إلى أسلوبها التهديدي المعروف من اجل إيقاف هذه الصلاة التي أصرّ السيد الشهيد (قدس سره) على إقامتها وأوصى بذلك حتى بعد استشهاده، بعدما أصر على رفض الدعاء لصدام اللعين بهذه الصلاة مهما كان الثمن.
3. وفي سياق هذا التهديد حاولت السلطة أن تفرض أئمة جمعة تابعين لوزارة الأوقاف التي تديرها، إلاّ أن كل محاولاتها في هذا الإطار فشلت هي الأخرى لأن الناس رفضوا الصلاة وراء عملاء السلطة هؤلاء.
4. وتطورت المواجهة بعد ذلك إلى صدامات سبقت إغتيال شهيدنا المفدى (قدس سره) في عددٍ من مدن العراق، منها الناصرية، سقط فيها عدد من الشهداء، واعتقلت السلطة عدداً من وكلاء السيد الشهيد (قدس سره).
5. واصلت السلطة تحرشاتها عندما قامت (بعملية إنزال على مسجد الكوفة ) الذي له أثرٌ تأريخي إجتماعي كبير في نفوس عامّة المسلمين, وبذريعة المناورة العسكرية قامت قوات الأمن, ورجالات السلطة, والجيش الشعبي, بفتح الأبواب الرئيسية بالقوة، وكانت هنالك قوة عسكرية متحصنة داخل المسجد، واعتبرت العملية استفزازاً لمشاعر المصلين والمؤمنين بشكلٍ عام، وتأتي انتهاكاً لحرمة أماكن العبادة كما اعتاد النظام على هذه الممارسات لنشر الإرهاب والخوف.
6. لم توقف كل هذه الإجراءات السيد الشهيد محمّد محمد صادق الصدر(قدس سره) عن الإستمرار في المواجهة والمطالبة العلنية من على منبر صلاة الجمعة بإطلاق سراح وكلائه المعتقلين من خلال هتافات أمر جمهور المصلين بترديدها.
ويذكر إن السيد الشهيد محمد محمّد صادق الصدر(قدس سره) عمل على ترسيخ الوعي الإسلامي لدى جمهور المصلين من خلال أسلوب الشعار، وتحويل المطالب والمقولات المهمة إلى شعارات يرددها ويأمر الجمهور بترديدها, في سياق خطابه الذي اتسم بالوضوح ولعل هذه الظاهرة هي الأولى من نوعها في العراق حيث لم يعتد الشارع العراقي على أن يردد الفقيه الشعار بنفسه مع الجمهور وبالتأكيد إن الشعار له فلسفته الخاصة في صناعة الوعي.
وفي ظل رفض السيد الشهيد (قدس سره) ووكلائه المتكرّر لطلبات السلطة في الدعاء لحاكم بغداد، وفي سياق تصاعد وتيرة المواجهة ضاعفت السلطة من طلباتها فأقدم المجرم (حمزة الزبيدي) ونيابةً عن صدام اللعين, على مطالبة شهيدنا المفدى (قدس سره) قبل يومين من عملية الإغتيال بفتوى لـ (تحرير الكعبة) وأخرى لتأييد دعوة صدام الشعوب العربية للإطاحة بحكّامها، وثالثة تتعلق بإغتيال الشهيدين البروجردي والغروي ورابعة لإعلان الجهاد بما يتوافق وسياسات صدام.
بالإضافة إلى رفض الدعاء وطلبات (إصدار الفتاوى) تلك فان الصراع مع السلطة على طول خطٍ ما قبل وقوع جريمة الإغتيال إستبطن رفضاً صدرياً لأمورٍ عديدة تُحقق رغبة السلطة إذ لم يكن اغتيال السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس سره) مفاجئاً، وسبقته سلسلة من الأحداث والمواجهات الساخنة منذ شهر عاشوراء, وشهر شعبان, وشهر رمضان الماضي على اغتياله، حيث طلبت السلطات منه منع المسيرة السنوية التي يقوم بها عشرات الآلاف من المشاة من مختلف مدن العراق متوجهين إلى كربلاء، لكنه أصدر أمراً إلى الناس بالتوجه إلى المدينة، وذلك خرقاً للمنع الذي كان النظام البعثي الإجرامي أصدره بالشكل الذي لا يضر بالدولة ولا يمت إلى سياستها وكيانها بأية صلة.
بعد ذلك اتصل صدام حسين بالسيد الشهيد تليفونياً وطلب منه منع التحرك فرفض, فأصدر أمراً بوضعه في الإقامة الجبرية واعتقل وكلاؤه في المدن العراقية، حتى خرق الصدر أمر الإقامة الإجبارية مع ولديه مصطفى ومؤمل.
وواقع الحال إن المواجهة في أشكالها السرية والعلنية بدأت بشكل حاد بين شهيدنا المفدى والسلطة مُنذ الأسابيع الأولى لإقامة صلاة الجمعة وحتى اغتياله.
وقد برزت مؤشرات واضحة قبل أن يشرع السيد الشهيد (قدس سره) بصلاة الجمعة، , فقرر النظام العمل على تحجيم مرجعية السيد الشهيد (قدس سره) بكل الوسائل فسحب منه حق التأييد لطلبة الحوزة العلمية لغير العراقيين في النجف الأشرف, للحصول على الإقامـة، كما حاول الإيحاء للعامة إن السيد الشهيـد محمد محمّد الصـدر(قدس سره) هو مرجع السلطة للتقليل من شأنه، لأن إعلان مثل هذا الأمر يُثير حساسية الناس ونفورهم، ومارس ضغوطاً شتى على وكلائـه وزوّاره، وقام بنشر عيونه وجلاوزته حول منزلـه ومجالس دروسـه، ولما لم تنفع مثل هذه الأساليب حاول التقرب إليه وتقديم كل ما يطلبه مقابل مدح الطاغيـة أو النظام، أو على الأقل تحاشي كل ما من شأنه أن يُفهم من قبل الناس بأنـه حديث ضـد السلطة، ولما فشل في ذلك أيضاً إتخذ قراره قبل أكثر من ثلاثة أشهر بإغتياله، حيث أصدر حزب البعث الإجرامي تعميماً إلى أعضائه يتضمن إتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر والإستعداد للمرحلة القادمة, التي ربما ستشهد حالة اضطرابات ومواجهات حسب ما جاء في التعميم بدعوى إن هنالك معلومات تفيد أن المخربين سيقومون بإغتيال السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره), ويومها بدأت استعدادات النظام.
الجريمة النكراء
كان من عادة السيد الشهيد (قدس سره) أن يُقيم مجلس التعزية في (البرانية) يوم الجمعة، ليلة السبت وينتهي المجلس في الساعـة الثامنة مساءاً، وبعدها يخرج سماحته إلى بيته مع ولديه، حيث يوصلانه إلى هناك ويعودان إلى داريهما.
وفي الليلة التي أستشهد فيها خرج السيد على عادته مع ولديه بلا حماية ولا حاشيـة نظراً لأن المسافـة إلى البيت كانت قريبـة، وفيما كانوا يقطعون الطريق إلى بداية منطقة (الحنانة) في إحدى ضواحي النجف القريبة وعند الساحة المعـروفة بـ (ساحة ثورة العشرين) جاءت سيارة اميريكة الصنع (اولدزموبيل) ونزل منها مجموعـة من عناصر البعث الإجرامي وبأيديهم أسلحة رشاشة وفتحوا النار على سيارة السيد، فقتل أولاده على الفور، وبقي (قدس سره) على قيد الحياة, لكنه نُقل إلى المستشفى مصاباً برأسه ورجليه، وبقي قرابة الساعة بالمستشفى, ثمّ قضى نحبه شهيداً على نهج اجداده الطاهرين.
وبعد إستشهاده حضر جمع من مسؤولي السلطة إلى المستشفى، وذهب آخرون إلى بيتهِ ولم يسمحوا بتجمهر المعزّين أو الراغبين بتشييع جنازته، ولذا قام ولدا السيد الشهيد بتشييعه ليلاً ومعهم ثمانية رجال وبعض النساء، حيث تم دفنه في المقبرة الجديدة في وادي (الغري).
إن ردود الفعل الداخلية الغاضبة ضد الإغتيال دفعت السلطة إلى المضي في إعداد سيناريو للهروب من مسؤولية الإغتيال.
فقد أعلنت مديرية الأمن العامة عن إعتقال أربعة رجال دين شيعة، واتهمتهم بإغتيال السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) وولديه، والمعتقلون الأربعة هم: (الشيخ عبد الحسين عباس الكوفي)، (والشيخ علي كاظم حماز)، (والطالبان في الحوزة العلمية احمد مصطفى حسن الاردبيلي، وحيدر علي حسين) وأدعى بيان المديرية إن متهماً خامساً لا يزال هارباً، وان الهدف من إغتيال السيد الشهيد (قدس سره) كان لإجل إحداث فتنة لخدمة المخططات الأميركية الصهيونية، ووصف المعتقلين بأنهم مخابرات وعملاء مأجورون.
وفيما بعد عرض تلفزيون نظام بغداد تسجيلاً روى فيه المعتقلون الذين يرتدون زي رجال الدين الشيعة عملية إغتيال السيد الشهيد (قدس سره) ونجليه (مصطفى ومؤمل)، غير إن هذا التسجيل الذي تم في أقبية التعذيب لم ينطل على أحد ولم يحجب حقيقة قيام سلطة صدام اللعين بإغتيال شهيدنا المفدى ونجليه الطاهرين.
ويذكر أن السلطة الحاكمة في العراق أعلنت بعد ثلاثة أسابيع عن تنفيذ حكم الإعدام بهؤلاء الأربعة الذين اتهمتهم السيد الشهيد (قدس سره) وإرجاع أسبابه إلى (صراعاتٍ مرجعية) كما زعمت.
ردود الأفعال على جريمة الإغتيال
كان لحادث إغتيال شهيدنا المفدى صدىً كبير بين جموع المؤمنين في داخل العراق وخارجه تمثلت في ما يلي :
اولاً : ردود الأفعال الداخلية.
حفر السيد الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر(قدس سره) حضوراً عميقاً في قلوب العراقيين وضمائرهم، وتحوّل هذا الحضور إلى حبٍ ورابطة قلّما تجسّدت بين الشعب العراقي وبين فقيه من الفقهاء، ولا يمكن حصر مظاهر وتجليات هذا الحب في سلوكية الناس قبل وبعد اغتيال الصدر الثاني، فبعض هذه المظاهر والتجليات كانت تعكسها صور ودرجات التفاعل معه المعلنة من خلال خطب الجمعة.
لقد تحوّل شهيدنا المفدى إلى رمزٍ وقضيةٍ في الوجدان العراقي والعراقيون بمعظمهم, لا يريدون أن يصدّقوا أن الصدر اغتيل.
وبعد اغتياله واظب اغلبهم على أداء صلاة الجمعة رغم الأجواء الأمنية المشحونة بالتوتر والإختناق.
لقد كان شهيدنا المفدى (قدس سره) يمثّل لهم الطموح والأمل والصدق والقيادة التي يريدون، وبعد اغتياله توقعت الكثير من الصحف العربية والأجنبية حدوث إنتفاضات في معظم المدن العراقية وهذا ما حصل بالفعل.
فبعد اغتيال السيد الشهيد (قدس سره) اندلعت من جامع المحسن في مدينة الثورة, تظاهرات صاخبة أغلقت الشوارع الرئيسية للمدينة من جهة قناة الجيش, وساحة المظفر والحبيبية, وحي جميلة، ورفعت شعارات ضد صدام حسين وندّدت بإغتيال السيد الشهيد (قدس سره) وقذفت جداريات صدام بالوحل، وهرعت قوات فدائيي صدام يقودها المجرم قصي صدام, الذي اتخذ موقع قيادة له في نقطة قريبة من قناة الجيش, ليوجّه عملية قمع الانتفاضة بنفسه وأكد شهود عيان توجه الدبابات وعدد من المدرعات والسيارات التي تحمل (الدوشكات) الأحادية والثنائية, نحو المدينة وأخمدت الإنتفاضة في اليوم الأول لها , بعد سقوط ما يقرب من 50 قتيلاً وجرح 200 آخرين فيما سقط 17 قتيلاً في صفوف الجيش وكذلك اندلعت مظاهرات, ومواجهات في مدينة الناصرية، ولعل هذا يُفسر اصطحاب وزارة إعلام بغداد عدداً من مراسلي الصحف إلى بعض أجزاء مدينتي الثورة والناصرية بعد انتهاء المواجهات.
أما مدينة النجف الأشرف فقد حدثت فيها صدامات محدودة بعد حادث الإغتيال حيث كانت مطوقة بالدبابات, والأسلحة الثقيلة بشكلٍ لم يحصل من قبل إطلاقاً كما أن دوريات السلطة كانت تملأ الأزقة والشوارع التي كانت شبه خالية من الناس.
ويكاد يتفق الجميع على أن هذه الإحتجاجات والصدامات والاضطرابات قد حصلت في عدة مدن من العراق في رد فعل غاضب على هذه الجريمة النكراء.
لقد قام الشعب العراقي بإنتفاضة محدودةٍ كرد فعلٍ على اغتيال السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) لأنه يُدرك تماماً انه لا يملك أدوات هذا الفعل، ولأن قيادته التي كان يراهن عليها قد اغتيلت إلاّ أن اللافت هو انه بعد هذه الانتفاضة المحدودة فإن أعمالاً ثأرية منظّمة قد بدأت داخل العراق، وأن وضعاً من تحدّي السلطة عبر عدم الإلتزام بأوامرها قد تبلور بشكلٍ أكبر، وان صلاة الجمعة رغم معارضة السلطة أقيمت في أكثر من مدينة عراقية، ولو أنها توقفت في مسجد الكوفة، وكل ذلك يدلّل على أن ردوداً مؤجّلة قد تفجّر داخلياً انتقاماً لأغتيال السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس سره) الذي تحوّل قبره إلى مزارٍ يومي لآلاف العراقيين.
فاللافت إن ردود الفعل، لا سيما العسكرية أخذت سيراً تصاعدياً، ولقد شكّلت عمليات يوم 19 / 3 / 1999 في مدينة البصرة مفاجأة للسلطة الإجرامي, وذلك عندما سقطت لعدة ساعات بيد الثوار وتم فيها مقتل محافظ البصرة ومدير الأمن فيها، كما تم في هذه العملية محاكمة أكثر من عشرين عنصراً حزبياً وامنياً، تم إعدامهم على الفور، وان العمليات التي سبقت هذه العملية أظهرت تطوّراً نوعياً في القدرة على الخداع والتمويه واللجوء إلى أساليب تغطية معقّدة إذ إن سياراتٍ فخمة وحديثة معظمها من نوع (شبح مرسيدس) أخذت تجوب المدن الرئيسية في العراق، وعندما تقترب من المسؤولين في الحزب, أو الدولة، سواء كانوا في سياراتهم أم راجلين فإن من في داخل السيارات المذكورة يفتحون النار على المسؤول، وتنطلق السيارة من دون إرتباكٍ إلى واجهتها بعد تنفيذ أفرادها المهمة المكلّفين بها.
ولقد سجّلت العديد من هذه الحوادث في مدن بغداد والحلة وكركوك والسماوة ، بعد أن باتت الأجهزة الأمنية شبه عاجزة عن ملاحقة هذه السيارات لعدم تمييزها عن سيارات المسؤولين الكبار فضلاً عن إنها سيارات حديثة وسريعة, يصعب على المفارز والدوريات ملاحقتها، وقد أطلق المواطنون على هذه السيارات تسمية (سيارات السيد) نسبة إلى السيد الشهيد السيد محمد محمّد صادق الصدر(قدس سره).
كما أن معلومات من داخل العراق تقول إن الثوار في إحدى هذه العمليات استخدموا الملابس والإشارات التي يستخدمها فدائيو صدام حسين.
ثانياً : ردود الأفعال الخارجية.
ومن ردود فعل الشارع العراقي، إلى ردود فعل العراقيين في الخارج بأعدادهم الكبيرة الموزّعة على دول عربية وإسلامية وأوروبية، فإن هنالك مشتركاً في قوى رد الفعل هذا مع فارق في سياقاته وطرق التعبير عنه، فلربما لم يحصل في تأريخ تواجد العراقيين في الخارج ردّ فعل لهم على حدث معين، مهما كان هذا الحدث، مثلما حصل في موقفهم إزاء خبر استشهاد السيد الصدر (قدس سره), فبالإضافة إلى بيانات الإستنكار التي أصدرتها الحركات والأحزاب العراقية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والسياسية فإن المسيرات والمظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت في إيران وسوريا ولبنان والأردن ودول أوروبية وأميركا واستراليا وأماكن أخرى من العالم كانت من الشمولية والقوة والتحدي ما أظهر لأول مرة حضوراً عراقياً مؤثراً ومتفاعلاً مع ما يحصل داخل العراق.
إذ إن ظاهرة السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) لم تمثل أملاً لعراقيي الداخل وحسب، بل إنها مثّلت أملاً مشحوناً بالجدل للكثير من كوادر وقواعد الحركة الإسلامية خارج العراق، التي أُصيب بعضها بالإنشقاقات والتعدُّد السلبي.
لقد توحد الجميع في إستنكار إغتيال السيد الشهيد (قدس سره) حتى من كان يعتقد لجهلٍ مركب أن السيد الصدر هو مرجع السلطة,إلاّ إن هذا التوحّد جاء متأخراً ويعبّر عن تتويج قسري أو غير طبيعي للمواقف فرضه حادث الإغتيال، إذ إن زمن ما قبل الحادث اختزن تناقضاً حاداً بين مواقف الحركات والأحزاب بين داعم للظاهرة ومحارب لها، واختزن تناقضاً حاداً في سياسة المحاربين لها بين موقفهم من الإغتيال، وموقفهم قبل الإغتيال، والذي تسبب في إحدى الحالات بإحتجاجات عنيفة بسبب الموقف السلبي من مرجعية السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس سره).
على أية حال، لم تقتصر ردود الفعل على اغتيال السيد الشهيد (قدس سره) على العراقيين في الخارج، وإنما تم إستنكار هذا العمل من الجمهورية الإسلامية إيران، ومن مراكز عديدة للشيعة في العالم، وفي لبنان حالت هذه الجريمة دون استقبال رئيس المجلس النيابي نبيه بري لوزير خارجية النظام الحاكم في العراق محمد سعيد الصحاف، ومن خلال ما تقدم يمكن القول:
اولاً: إن رد الفعل الخارجي للعراقيين على اغتيال السيد الشهيد (قدس سره) شكّل حالة تكاد تكون إستثنائية على وتيرة تعاطيهم مع الأحداث داخل العراق، فلقد جاء هذا الرد قوياً وممزوجاً بالإحساس بالمظلومية التي لحقت به، وحجم الخسارة التي حلّت بالشعب العراقي بفقدانه.
ثانياً كما إن هذا الرد جاء شمولياً، لم يستثن تقريباً كل أماكن تواجد العراقيين في الخارج.
ثالثاً: كذلك اصبح ردّ مندّد بعملية الإغتيال ليس من قبل الحركات الإسلامية العراقية فقط، إنما من قبل معظم الأحزاب والحركات العراقية المعارضة الأُخرى، بالإضافة إلى تنديد واستنكار وسائل الإعلام، وشيعة العالم ومنظمات حقوق الإنسان في العالم، وأحزاب وحركات إسلامية وعلمانية عربية وبالأخص في لبنان.
فسلام عليك سيدي ابا مصطفى يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيّاً مع الأولياء والصالحين وحسن اولئك رفيقا.
تعليق