بسم الله الرحمن الرحيم
علاقة العصمة بعلم الغيب
المخلوقات في هذا الوجود لم تُخلَق على وجه الاستقلال، وإنّما لُوحظ فيها المخلوقات الأُخرى التي تحيط بها، فالكون كلٌّ مترابط ويتحرّك بطريقة منظّمة وهَدْيٍ إلهيّ مقدَّر: الّذي أعطى كلَّ شَيءٍ خَلْقَه ثمّ هَدى وقال تعالى: والشمسُ تَجري لمُستقرٍّ لها ذلك تقديرُ العزيزِ العليم والقَمرَ قَدَّرْناه مَنازلَ حتّى عادَ كالعُرجُونِ القديم لا الشمسُ يَنبغي لها أن تُدرِكَ القمرَ ولاَ اللّيلُ سابقُ النهارِ وكلٌّ في فَلَكٍ يَسبحُون
بناءً على ذلك، فالموجودات في المجموعة الكونيّة يؤثّر بعضُها في البعض الآخر، والإنسان لا يُستثنى من هذا القانون، فهو مخلوق ضمن هذ القانون، وبالتالي خاضع إلى قانونيّته، فمن جهة أنّه يتأثر في هذا الكون فواضح؛ لأنّ الشمس إذا ارتفعت أو اقتربت سوف تؤثّر على الحياة بما فيها الإنسان،
ومن الجهة الثانية أنّ الإنسان يؤثّر على مَن حوله من الموجودات، فهذه الجهة تحتاج إلى مزيد من البيان، قال تعالى: وضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قريةً كانتْ آمِنةً مُطمئنّةً يأتيها رِزقُها رَغَداً مِن كلِّ مكانٍ فَكَفَرتْ بأنُعمِ اللهِ فأذاقَها اللهُ لِباسَ الجُوعِ والخوفِ بما كانوا يَصنعُون
مفهوم الآية أنّ الاستقرار والهدوء والحركة الهادفة في العلاقة وبين أفراد الجماعة والعمل والإنتاج والرخاء ووفرة السلع وسيادة الأمن في كلّ صوره، كلُّ هذه الأُمور وغيرها تشكّل ظواهرَ سليمة جاءت بسبب كون أهل القرية قد التزموا الشكر بمفرداته العمليّة، كالعدالة والمحبّة والمساواة، ولمّا تخلّت القرية عن هذه القيم ولم تجعل الله محوراً لنشاطها وحياتها، وكفرت بماضيها التوحيديّ المشرق واستبدلته بالآلهة المتعدّدة كالتبعيّة للإنسان القويّ، أو طاعة النفس والشيطان وحبّ المال والسلطة، هذه الارتباطات ستؤول إلى: سوء التوزيع وسيادة الظلم وعدم الاطمئنان وشيوع الخوف والفقر والطبقيّة، فلم يَعُد العيش في هذه القرية بعد ذلك سعيداً أبداً.
الكفر والفسق والنفاق، وأيّ موقف فكريّ أو سلوكيّ صادر من الإنسان، بالنتيجة له امتداد وتأثير بما حوله، وليس بصحيح حصر المسألة بالجانب الماديّ مِن فعل الإنسان، وإنّما تدخل المواقف القلبيّة والاعتقاديّة في هذا الإطار أيضاً، لأنّ الاعتقاد فعل، فالكفر الذي هو عمل باطنيّ له مؤثّرات خارجيّة على مَن حوله من المخلوقات الأُخرى، ومسيرة الإنسان نفسه خاضعة لقراراته الاعتقاديّة الباطنيّة، ولذا تسأل الملائكة عن هذا المخلوق الجديد آدم ـ من خلال ربطها بين الفسق وفعل سفك الدماء، الناتج عن الإرادة ـ وعن مصيره وحياته وحركته في الأرض وكيفيّة تعامله مع المجموعة الكونيّة؛ لأنّهم ضمن معلوماتهم أنّ الكون خاضع لنظام كونيٍّ واحد حسبما يعمل به الجميع، ولابدّ لهذا المخلوق الطارئ على الكون أن يكون منسجماً مع نظامه، ولمّا كان قد صُمِّم بطريقة تجعله يخالف النظام الكونيّ، لذا سوف ينتج سفك الدماء والخراب والدمار في هذا الكون، لأنّ الفوضى تحدث بوجود الإرادة التي تؤدّي إلى الكفر أحياناً وإمكانيّة اختراق النظام والالتفاف عليه، فهذا المخلوق الجديد وجوده خطر لا على نفسه فحسب، بل على الكون كلّه: أتَجعَلُ فيها مَن يُفسدُ فيها ويَسفِكُ الدماء...
لكن الله سبحانه وتعالى أجاب على التساؤل الذي صرّحت به الملائكة؛ لتخوّفها من تولّي هذا المخلوق مقاليدَ الخلافة، فقال: إنّي أعلمُ ما لا تَعلمون * وعَلّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها صنع هذا المخلوق، وأودعَ فيه من العلمَ بما يتلائم مع مهامّه الإلهيّة والتي تعينه على تحقيق الغايات، فعلِمُ الإنسان بالأسماء كلّها هبة منه سبحانه، لقد أطلعه على حقائق الأشياء وأطلعه على الكون كلّه وعلى الأنظمة الحاكمة فيه، ثم ما هو موقعه من هذا الوجود وكيف يؤثّر فيه لغرض استخدامه لصالح أهدافه وغاياته: وكلَّ شيءٍ أحصيناهُ في إمامٍ مُبين وإيداع هذا العلم ممّن بعده إلى سلسلة الأنبياء عليهم السّلام حتّى خاتَمهم محمّد صلّى الله عليه وآله، وبعده السلسلة الطاهرة من آله عليهم السّلام.
وهذا العلم هو الذي يُدرِك بواسطته المعصومُ حقائقَ الأشياء، كما هي وبرؤية واضحة، وبشكل لا يقبل الشكّ، فالعلم الذي يتّصف بهذه الميّزة يؤدي إلى العصمة حتماً. وتقريب هذا التصور مثاله:
هناك قانون له مردوداته على حياة الإنسان، قد يُدركه الإنسان ولكن قد لا يدرك آثاره ومردوداته؛ لأنّه لا يمتلك علماً ورؤية بالآثار المترتّبة على مخالفته، مثل أكل مال اليتيم، يقول القرآن الكريم: إنّما يأكلونَ في بُطونِهم ناراً
المعصوم يمتلك علماً يرى فيه أنّ مال اليتيم نار، وغير المعصوم قد يراه مالاً يتلذّذ به فلا يرى أنّه نار مُحرقة، فالمعصوم عنده علم ووضوح بتأثير هذا التصرّف ومردوداته، كما نرى نحن ونعلم بقانون الجاذبيّة الذي جعَلَنا نمتنع عن المخالفة مع وجود القدرة على المخالفة فينا. أما الأثر المترتّب على أكل مال اليتيم فلا نعلم به، أي إنّنا لا نمتلك علماً نرى من خلاله قوانينَ الوجودات كلّها. يوسف عليه السّلام يستطيع أن يعمل الفاحشة؛ لأنّه يمتلك الإرادة الحرّة في ممارستها، إلاّ أن يوسف عليه السّلام يرى الزنا فاحشة بحكم وضوحه وعلمه بهذه القانونيّة، فليس معناه أنّه لا يمتلك اللذّة ولا الإرادة، بل إنّ لديه علماً بآثار هذا القانون، فلا يخالفه إطلاقاً.
من هنا نجد أتْباع مدرسة أهل البيت عليهم السّلام يقولون بعصمة أئمّتهم جميعاً، بما فيهم الإمام الجواد عليه السّلام وإن كان صبيّاً ابنَ سبع سنين، فهو عالم بكل شيءٍ ليس فقط بأحكام الصلاة أو الحج، بل بكلّ شيءٍ، ولا يعصي الله تعالى، بل ولا يُخطئ.
والدولة بأجهزتها مع محاولاتها، كلّما حاولت تكذيب هذه الحقيقة فإنّها لم تنجح، جاؤوا بالإمام الجواد عليه السّلام وهو صبيّ، وجمعوا العلماء وعلى رأسهم القاضي يحيى بن أكثم، ويجلس في مكانه ( كقاضٍ ) ويلتفت إلى الإمام الجواد عليه السّلام قائلاً: يا ابن رسول الله، أسألك ؟
فقال له الإمام عليه السّلام: قم واجلس مجلس السائل من المسؤول ؟
ويقوم يحيى بن أكثم بشيبته ويجلس متأدّباً بين يدي الإمام عليه السّلام جلسة السائل من المسؤول.. فكّر يحيى بن أكثم، ماذا يسأل الإمامَ عليه السّلام ؟ هل يسأله عن الصلاة وأحكامها ؟ وهو عالمٌ بأنّ الإمام عليه السّلام وعائلته يؤدّون الصلاة يومياً، فإذاً هو عارف بالصلاة وأحكامها، فكّر بأنّ هذا الصبيّ في بغداد ولم يذهب إلى الحجّ، فقال له: يا ابن رسول الله، ما قولك في مُحْرِمٍ قتَلَ صيداً ؟
فأجابه الإمام عليه السّلام: قتَلَه في حلٍ أو حَرَم، عالِماً كان المُحرم أم جاهلاً، قتَلَه عمداً أو خطأ، حرّاً كان المُحرم أم عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أم معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد كان أم من كباره، مصرّاً على ما فعل أو نادماً، في اللّيل كان قتلُه للصيد أم نهاراً، مُحْرِماً كان بالعمرة إذ قتله، أو بالحجّ كان محرماً ؟
فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز، ثم أجاب الإمامُ عن المسألة كما هو مفصَّلٌ ذلك في الكتب
وهذه الحادثة تشير إلى امتلاك الإمام عليه السّلام للعصمة المسدَّدة المتضمّنة للعلم الحضوريّ
والعلم الذي يمتلكه الإمام المعصوم ويتسلّط بواسطته على معرفة الأشياء، وبه تتمّ أغراض الرسالة، موهوب منه سبحانه بدون كسب من الإمام، بهدف أن تكون للإمام قدرة تامّة لتحقيق الغرض الإلهيّ الذي ينبغي إنجازه على أكمل وجه، ويُظهره على الدِّين كلِّه: عالِمُ الغَيبِ فلا يُظْهِر على غَيبهِ أحَداً * إلاّ مَن آرتضَى مِن رسولٍ
والعلم المفاض للإمام بأيّ سبب كان، سواء بإلهام أو نَقْر في الأسماع، أو بتعليمٍ من الرسول ـ ويمتدّ إلى معرفة الغيب ـ فهو غير العلم الذي يختصّ به سبحانه، فذاك مكفوف عمّن سوى الله، وحتّى الملائكة المقرَّبين والأنبياء المرسَلين، وهو الغيب المطلق.
ولذا، فالعلم المفاض يتمّ إما بشكل تعليميٍّ غير طبيعيّ، كما هو في الكتب الإلهيّة المنزَلة على رسله بواسطة أمين الوحي، وهي تتضمّن الأحكام والإخبار بالأحداث السالفة والحاضرة وحتّى المستقبليّة، لكلّ نبيّ بحسب نوع رسالته، قال تعالى: تلكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بعضَهم على بعضٍ منهم مَن كلّم اللهُ ورَفَع بعضَهم درجاتٍ...
وإمّا أن يتمّ بشكلٍ عمليّ، مثل المعجزات، فتجري على يديه ولا ينال الرسول إلاّ قيمتها العمليّة، أمّا حقيقتها العلميّة فقد لا يملكها ولا يقف عليها، وقد يحصل عليها كحقيقة إحياء الموتى فإنّها من الغيب الخاصّ به سبحانه. ولكن لا مانع من تعليمه لغيره وإفاضته على بعض رسله، كما ورد في حقّ إبراهيم الخليل عليه السّلام ، قال تعالى: وإذ قالَ إبراهيمُ ربّ أرِني كيفَ تُحْيي المَوتى...
ويفترق علم الإمام عن علم الله سبحانه، بأنّ علمه سبحانه قديم وسابق على المعلومات، وهو عين ذاته. أمّا العلم الحضوريّ للإمام، فلا يشارك علمَ الله في شيء من هذه الأُمور؛ لأنّ علم الإمام حادث ومسبوق بالمعلومات، وهو غير الذات فيه وإنّما حضوره عند الإمام بمعنى انكشاف المعلومات فعلاً لديه، فلا يشارك اللهَ في علمه.