إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مقامات مرابطة العقل للنفس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مقامات مرابطة العقل للنفس



    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    (مقامات مرابطة العقل للنفس)
    اعلم ان العقل بمنزلة تاجر في طريق الآخرة، ورأس ماله العمر، وقد استعان في تجارته هذه بالنفس، فهي بمنزلة شريكه أو غلامه الذي يتجر في ماله، وربح هذه التجارة تحصيل الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة الموصلة إلى نعيم الأبد وسعادة السرمد. وخسرانها المعاصي والسيئات المؤدية إلى العذاب المقيم في دركات الجحيم، أو نقول: رأس مال العبد في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي، وموسم هذه التجارة مدة العمر، وكما ان التاجر يشارط شريكه اولاً، ويراقبه ثانياً، ويحاسبه ثالثاً، وإن قصر في التجارة ـ بالخيانة والخسران وتضييع رأس المال ـ يعاتبه ويعاقبه ويأخذ منه الغرامة، كذلك العقل يحتاج في مشاركة النفس إلى ان يرتكب هذه الأعمال، ومجموع هذه الأعمال يسمى بـ(المحاسبة والمراقبة) تسمية الكل باسم بعض أجزائه، وقد يسمى (مرابطة) أيضاً.
    فأول الأعمال في المرابطة (المشارطة): وهي أن يشارط النفس ويأخذ منها العهد والميثاق في كل يوم وليلة مرة ألا يرتكب المعاصي، ولا يصدر منها شيء يوجب سخط الله. ولا يقصر في شيء من الطاعات الواجبة، ولا يترك ما تيسر له من الخيرات والنوافل. والأولى أن يكون ذلك بعد الفراغ عن فريضة الصبح وتعقيباتها، فيخاطب النفس ويقول لها: يا نفس! مالي بضاعة سوى. العمر، ومهما فني فني رأس المال. ووقع اليأس عن التجارة وطلب الربح، وهذا اليوم الجديد، وقد أمهلني الله فيه بعظيم لطفه، ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوماً واحداً لأعمل صالحاً، فاحسبي أنك توفيت ثم رددت، فاياك أن تضيعي هذا اليوم، فان كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها، يمكن أن يشترى بها كنزاً من الكنوز لا يتناهى نعيمها أبد الآباد. ويتذكر ما ورد في بعض الأخبار: من أن كل عبد خلقت له بازاء كل يوم وليلة من عمره أربع وعشرون خزانة مصفوفة فإذا مات تفتح له هذه الخزائن، ويشاهد كل واحد منها ويدخلها، فإذا فتحت له خزانة خلقت بازاء الساعة التي أطاع الله فيها، يراها مملوة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة، فيناله من الفرح والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار التي هي وسائل عند الملك الجبار ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عن الاحساس بألم النار، وإذا فتحت له خزانة خلقت بأزاء الساعة التي عصى الله فيها، يراها سوداء مظلمة يفوح نتنها ويغشا ظلامها، فيناله من الهول والفزع ما لو قسم على أهل الجنة لينغص عليهم نعيمها، فإذا فتحت له خزانة بازاء الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من مباحات الدنيا، لم يشاهد فيها ما يسره ولا ما يسوئه، وهكذا يعرض عليه بعدد ساعات عمره الخزائن، وعند ذلك يتحسر العبد على اهماله وتقصيره، ويناله من الغبن ما لا يمكن وصفه، وبعد هذا التذكر يخاطب نفسه ويقول: اجتهدي اليوم في أن تعمري خزائنك، ولا تدعيها فارغة عن كنوزك التي هي أسباب ملكك ولا تركني إلى الكسب والبطالة فيفوتك من درجات العليين ما يدركه غيرك فتدركك الحسرة والغبن يوم القيامة إن دخلت الجنة، إذ ألم الغبن والحسرة وانحطاط الدرجة مع وجود ما فوقها من الدرجات الغير المتناهية التي نال إليها أبناء نوعك مما لا يطاق، ثم يستأنف لها وصية في اعضائه السبعة: أعني العين، والأذن، واللسان، والفرج، والبطن، واليد، والرجل، ويسلمها إليها، لأنها رعايا خادمة لها في التجارة، ولا يتم أعمال هذه التجارة إلا بها، فيوصيها بحفظ هذه الاعضاء عن المعاصي التي تصدر عنها، وبأعمال كل منها فيما خلق لأجله، ثم يوصيها بالاشتغال بوظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة، وبالنوافل والخيرات التي تقدر عليها، وهذه شروط يفتقر إليها كل يوم، لكن إذا اعتادت النفس بتكرر المشارطة والمراقبة بالعمل بها والوفاء بحقها استغنى عن المشارطة فيها، وإن اعتادت بالعمل في بعضها لم تكن حاجة إلى المشارطة فيه، وبقيت الحاجة إليها في الباقي، وكل من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا: من ولاية، أو تجارة، أو تدريس أو امثال ذلك: لا يخلو كل يوم منه من مهم جديد، وواقعة حادثة لها حكم جديد، ولله فيها حق، فعليه أن يجدد الاشتراط على نفسه بالاستقامة عليها والانقياد للحق في مجاريها، وينبغي ان يوصيها بالتدبر في عاقبة كل أمر يرتكبه في هذا اليوم والليلة. وهذه الوصية عمدة الوصايا ورأسها، وقد روى: " أن رجلاً أتى النبي (ص) وقال: يا رسول الله اوصني، فقال له: فهل أنت مستوص إن أنا اوصيتك؟ ـ حتى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلها يقول الرجل: نعم يا رسول الله! ـ فقال له رسول الله (ص): إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فان يك راشداً فامضه، وإن يك غياً فانته " ويظهر من هذا الخبر: أن التأمل في عاقبة كل أمر اعظم ما يحصل به النجاة فينبغي ان يؤكد العهد والميثاق في ذلك عل النفس ويحذرها عن الاهمال، ويعظها كما يوعظ العبد المتمرد الآبق، فان النفس بالطبع متمردة عن الطاعات، مستعصية عن العبودية، ولكن الوعظ والتأديب يؤثر فيها، (وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين) فهذا وما يجري مجراه هو المشارطة، وهو اول مقامات المرابطة.
يعمل...
X