بسم الله الرحمن الرحيم
وثانيها (المراقبة): وهو ان يراقب نفسه عند الخوض في الأعمال، فيلاحظها بالعين الكالئة، فانها إن تركت طغت وفسدت، ثم يراقب الله في كل حركة وسكون، بأن يعلم ان الله ـ تعالى ـ مطلع على الضمائر، عالم بالسرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كل نفس بما كسبت، وان سر القلب في حقه مكشوف، كما ان ظاهر البشرة للخلق مكشوف، بل اشد من ذلك، قال الله ـ سبحانه ـ:
" إن الله كان عليكم رقيباً " . وقال: " ألم يعلم بأن الله يرى؟ "
وقال رسول الله (ص): " الاحسان ان تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فانه يراك ". وفي الحديث القدسي: " إنما يسكن جنات عدن، الذين إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني، والذين انحنت اصلابهم من خشيتي، وعزتي وجلالي! إني لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب ". وحكى: " ان زليخا لما خلت بيوسف، فقامت وغطت وجه صنمها، فقال يوسف. مالك؟ أتستحيين من مراقبة جماد ولا استحيي من مراقبة الملك الجبار؟! ". وهذه المعرفة ـ اعني معرفة اطلاع الله على العباد وأعمالهم وسرائرهم وكونه رقيباً عليهم ـ إذا صارت يقيناً ـ أي خلت عن الشك ـ ثم استولت على القلب سخرت القلب وقهرته على مراعاة جانب الرقيب وصرفت الهمة إليه، والموقنون بهذه المعرفة مراقبتهم على درجتين: ـ إحداهما ـ مراقبة المقربين، وهي مراقبة التعظيم والاجلال، وهي أن يصير القلب مستغرقاً بملاحظة الجلال، ومنكسراً تحت الهيبة، فلا يبقى فيه متسع للالتفات إلى الغير، وهذا هو الذي صار همه هماً واحداً، وكفاه الله سائر الهموم، ـ واخراهما ـ مراقبة الورعين من أصحاب اليمين، وهم قوم غلب عليهم يقين اطلاع الله على ظهورهم وباطنهم، ولكن لا تدهشهم ملاحظة الجلال والجمال، بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال متسعة للالتفات إلى الأحوال والأعمال والمراقبة فيها، وغلب عليهم الحياء من الله، فلا يقدمون ولا يجمحون إلا بعد التثبت ويمتنعون عن كل ما يفتضحون به في القيامة، فانهم يرون الله مطلعاً عليهم، فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة. ثم ينبغي للعبد ألا يغفل عن مراقبة نفسه والتضييق عليها في لحظة من حركاتها وسكناتها وخطراتها وأفعالها.
وحالاته لا تخلو عن ثلاثة، لأنه إما أن تكون في طاعة، أو معصية، أو مباح. فمراقبته في الطاعة. بالقربة، والاخلاص، والحضور، والاكمال، وحراستها عن الآفات، ومراعاة الادب. ومراقبته في المعصية: بالتوبة، والندم، والإقلاع، والحياء، والاشتغال بالتكفير. ومراقبته في المباح: بمراعاة الادب، بأن يأكل بعد التسمية، وغسل اليدين، وسائر الآداب المقررة في الشرع للأكل، ويقعد مستقبل القبلة، وينام بعد الوضوء على اليد اليمنى مستقبل القبلة، وبالصبر عند ابتلائه ببلية ومصيبة، وبالشكر عند كل نعمة، ويتذكر شهود المنعم وحضوره، ويكف النفس عن الغضب وسوء الخلق عند حدوث أمر تميل النفس عنده إلى الغضب والتضجر والتكلم بما لا يحسن من الأقوال، فان لكل واحد من أفعاله وأقواله حدوداً لا بد من مراعاتها بدوام المراقبة، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، وينبغي ألا يخلو عند اشتغاله بالمباحات عن عمل هو الأفضل، كالذكر والفكر وتخليص النية، فان الطعام الذي يتناوله من عجائب صنع الله، فلو تفكر فيه وتدبر في فوائده وحكمه وما فيه من غرائب قدرة الله لكان ذلك أفضل من كثير من أعمال الجوارح، والناس عند الأكل على أقسام: (قسم) ينظرون فيه بعين التبصر والاعتبار، فينظرون في عجائب صنعته وكيفية ارتباط قوام الحيوانات به، وكيفية تقدير الله لأسبابها وخلق الشهوة الباعثة عليها وخلق الآلات المسخرة للشهوة وأمثال ذلك، وهؤلاء هم أولو الألباب. (وقسم) ينظرون فيه بعين المقت والكراهة، ويلاحظون وجه الاضطرار إليها، ويتمنون الإستغناء عنه، وعدم كونهم مقهورين مسخرين بشهوته، وهؤلاء هم الزهاد. (وقسم) يرون فيه خالقه، ويشاهدون في الصنع الصانع، ويترقون منه إلى صفات الخالق، من حيث إن كل معلول اثر من العلة، ورشحة من رشحات ذاته وصفاته، فمشاهدته تذكر العلة، بل التأمل يرشدك إلى أن دلالة كل ذرة ترى من ذرات العالم على ربك وخالقك وايجابها لحضوره عند وظهوره لديك وتوجهه إليك وقربه منك اشد واقوى من دلالة مشاهدتك بدن زيد وصورته وحركاته وسكناته على وجوده وحضوره عندك، وسر ذلك ظاهر واضح. وهؤلاء المشاهدون الصانع في كل مصنوع والخالق في كل مخلوق، هم العرفاء المحبون، إذ المحب إذا رأى صنعة حبيبه وتصنيفه وآثاره وما ينتسب إليه اشتغل قلبه بالمحبوب، وكل ما يتردد العبد فيه وينظر إليه من الموجودات هو صنع الله ـ تعالى ـ، فله في النظر منها إلى الصانع مجال إن فتحت له أبواب الملكوت. (وقسم) ينظرون فيه بعين الحرص والشهوة، وليس نظرهم إلى الطعام إلا من حيث يوافق شهوتهم وتلتذ به ذائقتهم، ولذلك يذمونه لو لم يوافق هواهم، وهؤلاء اكثر أهل الدنيا.
وثالثها ـ أي ثالث مقامات المرابطة وأعمالها ـ هو (المحاسبة) بعد العمل، فان العبد كما يختار وقتاً في أول كل يوم ليشارط فيه النفس على سبيل التوصية بالحق، ينبغي له أن يختار وقتاً في آخر كل يوم ليطالب النفس فيه بما أوصى به، ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في آخر كل سنة مع الشركاء. وهذا أمر لازم على كل سالك لطريق الآخرة معتقد للحساب في يوم القيامة. وقد ورد في الأخبار: أن العاقل ينبغي أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر في صنع الله، وساعة يخلو فيها للمطعم والمشرب. ولذلك كان الصدر الأول من الخائفين ومن تقدمنا من سلفنا الصالحين في غاية السعي والاهتمام في محاسبة النفس، بحيث كانت عندهم من الطاعات الواجبة، وكانوا أشد محاسبة لنفوسهم من سلطان غاشم، ومن شريك شحيح، ويعتقدون أن العبد لا يكون من أهل التقوى والورع حتى يحاسب نفسه اتم من محاسبة شريكه، وأن من لا يحاسب نفسه إما معتوه أحمق أو لا يعتقد بحساب يوم القيامة، إذ العاقل المعتقد به مع اهواله وشدائده وما يوجبه من الخجلة والحياء والافتضاح، إذا علم ان محاسبة النفس في الدنيا تسقطه أو توجب خفته، كيف يجوز له ان يتركها؟.
ثم كيفية المحاسبة بعد العمل: ان يطالب نفسه اولاً بالفرائض التي هي بمنزلة راس ماله، فان ادتها على وجهها شكر الله عليه ورغبها في مثلها، وان فوتتها من اصلها طالبها بالقضاء، وإن ادتها ناقصة كلفها بالجبران بالنوافل، وان ارتكب معصبة اشتغل بعتابها وتعذيبها ومعاقبتها، واستوفى منها ما يتدارك به ما فرط، كما يصنع التاجر بشريكه. وكما انه يفتش في حساب الدنيا عن الحبة والقيراط والنقير والقطمير، فيحفظ مداخل الزيادة والنقصان حتى لا يغبن في شيء منها، كذلك ينبغي ان يفتش من افعال النفس ويضيق عليها، وليتق غائلتها وحيلتها، فانها خداعة مكارة ملبسة. فليطالبها اولاً بتصحيح الجواب عن جميع ما تكلم به طول نهاره، وليتكفل بنفسه من الحساب قبل ان يتولاه غيره في صعيد القيامة، ثم بتصحيح الجواب عن جميع افعاله واحواله: من نظره، وقيامه، وقعوده، ونومه، واكله، وشربه، حتى عن سكوته لم سكت، وعن سكونه لم سكن، وعن خواطره، وافكاره، وصفاته النفسية، واخلاقه القلبية، فان خرجت عن عهدة الجواب عن الجميع، بحيث ادت الحق في الجميع، ولم يترك شيئاً مما يجب عليها ولم ترتكب شيئاً من المعاصي: حصل لها الفراغ من حساب هذا اليوم، ولم يكن شيئاً باقياً عليها، وان ادت الحق في البعض دون البعض، كان قدر ما ادت الحق فيه محسوباً لها، ويبقى غيره باقياً عليها فيثبته عليها، وليكتب على صحيفة قلبه كما يكتب الباقي على شريكه على قلبه وعلى جريدته. ثم النفس غريم يمكن ان تستوفى منها الديون، اما بعضها فبالغرامة والضمان، وبعضها برد عينه، وبعضها بالعقوبة لها على ذلك، ولا يمكن شيء من ذلك إلا بعد تحقق الحساب وتمييز الباقي من الحق الواجب عليه، فإذا حصل ذلك اشتغل بعده بالمطالبة والاستيفاء.
ورابعها ـ وهو آخر مقامات المرابطة ـ (معاتبة النفس) ومعاقبتها على تقصيرها، والمجاهدة بتكليفها الطاعات الشاقة، والزامها الرياضات الشديدة، فانه إذا حاسب نفسه، فوجدها خائنة في الأعمال، مرتكبة للمعاصي، مقصرة في حقوق الله، متوانية بحكم الكسل والبطالة في شيء من الفضائل، فلا ينبغي ان يهملها، إذ لو اهملها سهل عليه مقارفة المعاصي، وانس بها بحيث عسر بعد ذلك فطامها عنها. فينبغي للعاقل ان يعاتبها اولاً ويقول: اف لك يا نفس! اهلكتيني وعن قريب تعذبين في النار مع الشياطين والأشرار، فيا ايتها النفس الأمارة الخبيثة! اما تستحيين وعن عيبك لا تنتهين؟! فما اعظم جهلك وحماقتك! اما تعرفين ان بين يديك الجنة والنار وانت صائرة إلى إحداهما عن قريب؟ فمالك تضحكين وتفرحين وباللهو والعصيان تشتغلين؟ اما علمت ان الموت يأتى بغتة من غير أخبار، وهو اقرب إليك عن كل قريب؟ فمالك لا تستعدين له؟ اما تخافين من جبار السماوات والأرض، ولا تستحيين منه؟ تعصين بحضرته وانت عالمة بأنه مطلع عليك؟ ويحك يا نفس! جرأتك على معصية الله ان كانت لاعتقادك انه لا يراك فما اعظم كفرك، وان كانت مع علمك باطلاعه عليك فما اشد وقاحتك واقل حياؤك، وما اعجبك نفاقك، وكثرة دعاويك الباطلة! فانك تدعين الإيمان بلسانك، وأثر النفاق ظاهر عليك! فتنبهي عن رقدتك وخذي حذرك! لو ان يهودياً اخبرك في الذ اطعمتك بأنه يضرك لصبرت وتركتيه! ولو اخبرك طفل بعقرب في ثوبك نزعتيه! فقول الله وقول انبيائه المؤيدين بالمعجزات وقول الاولياء والحكماء والعلماء اقل تأثيراً عندك من قول يهودي أو طفل؟!... فلا يزال يكرر عليها أمثال هذه المواعظ والتوبيخات والمعاتبات، ثم يعاقبها ويلزمها ما يشق عليها من وظائف العبادات والتصدق بما يحبه، جبراً لما فات منها وتداركا لما فرط فيها، فإذا أكل لقمة مشتبهة ينبغي ان يعاقب البطن بالجوع، وإذا نظر إلى غير محرم يعاقب العين بمنع النظر، وإذا اغتاب مسلماً يعاقب اللسان بالصمت والذكر مدة كثيرة، وكذلك يعاقب كل عضو من اعضائه إذا صدرت منه معصية بمنعه من شهواته، وإذا استخف بصلاة الزم نفسه بصلاة كثيرة بشرائطها وآدابها. وإذا استهان بفقير أعطاه صفو ماله، وهكذا الحال في سائر المعاصي والتقصيرات.