حذار ياشباب
الآفة هي الوباء الذي يأكل عافية الأشياء، فإذا أصابت الزرع آفة دمّرته فلا يثـمر، وإذا أصابت الإنسان آفـة حطّـمت قدراته فأقعدته عن العطاء.
وأخطر الآفات تلك التي تُهدِّد حياة الشباب على وجه الخصوص، ذلك أنّ هذه الشريحـة التي تمثِّل ربيع العمر وريعان الصبا، مرشحة للبناء والبذل والتغيير والتجديد، فإذا ما داهمتها آفة في الجسد أو الأخلاق أحالتها إلى حطام وخراب، فلا يرتجى منها خير.
فهل انتشار الآفات بين الشباب بهذا الشكل الفظيع، مؤامرة؟ لا نستبعد ذلك.
فلقد عمل تجّار المخـدّرات والجـنس على إحراق زهرة عمر الشباب وسحقها تحت الأقدام بغية الكسب المادي والربح الوفير.
وعمل تجّار السياسة على إغراق الشباب بالملاهي والملذّات كي يصرفوهم عن الانشغال بالشؤون السياسية، والمطالبة بحقوقهم المشروعة.
وعمل تجّار الإعلام على جعلهم هدفاً لأغراضهم الخبيثة في العنف والجنس والإنجرار إلى المتع المحرّمة، والإهتمام بغير المهم.
وحتى لولم تكن مؤامرة، فإنّ ضحايا الآفات الجنسية والتخديرية والعنفيّة من الشباب يمثلون خسائر فادحة لا تقلّ فداحة عن خسائر الحـروب وضحاياها، الأمر الذي يضع أولياء الأمر من الآباء والمربين والعلماء والخـطباء والقادة أمام مسؤولية جسيمة لإنقاذ هذه الشريحة التي تمثِّل عماد المجتمع، وقلبه النابض، وحركته المتدفقة، من براثن هذه الآفات التي لا تُحصى خسائرها.
ويمكن تصنيف الآفات التي تفتك بالشباب اليوم، فتقتطع جزءاً ثميناً من المجـتمع، أو تقتلع عدداً من أشجاره اليانعة المثمرة، أو تصيبه بالشلل المؤقّت، إلى:
1ـ آفة التدخين.
2ـ آفة الخمر.
3ـ آفة المخدّرات.
4ـ آفة الجنس.
5ـ آفة العنف.
6ـ آفة السرقة.
7ـ آفة الإنتحار.
8ـ آفة البطالة.
9ـ آفة الأعمال المحرّمة.
لكنّنا قبل الدخول في مناقشة كلّ آفة من هذه الآفات من حيث أسبابها، وأضرارها وطرق مكافحتها، نحـبّ أن نقف عند بعض المفاهيم التي تعتبر مداخل أو منافذ رئيسة للمناقشة، وهي:
1ـ العادة والتقليد.
2ـ المتعة واللذّة.
3ـ الحرِّيّة والجريمة.
4ـ الإرادة والغريزة.
5ـ الشهوة والذلّة.
6ـ الحلال والحرام.
7ـ الأعمال والنتائج.
1- العادة والتقليد:
أن تعتاد على شيء يعني أن تألفه، فإذا اعتدت على طعام معيّن، أو لباس معيّن، أو سلوك معيّن، فإنّك تألفه للدرجة التي يصعب معها أن تُقلع أو تتخلّى عنه.
وللعادة محاسنها، ولها مساوئها.
فالعادات الحسنة هي التي نُعبِّر عنها بالقول (جرت العادة) أو (وفقاً للعادة الجارية) أو (جرياً على العادة المتبعة) وهي ممّا تعارف عليه الناس ودرجوا عليه فبات موضع استحسانهم. فالعادة جرت مثلاً أن يُحسن الجار إلى جاره، فيتفقّده ويعوده في مرضه ويعينه في حاجته، ويفرح لفرحه ويحزن لحزنه، فهذه عادة حسنة.
وهناك عادات سيِّئة لا يقبلها الذوق العام ولا العرف السائد، وإنّما تنشأ من الإعتياد على القبيح والضارّ والمسيء والمخدش للحياء والعقل والدين.
ولذلك فإنّ الإمـام علـياً (عليه السلام) حينما رأى في طريقه إلى صـفِّين جماعة قد هرعوا إليه يتراكضون على جانـبي دابّتـه، سـألهم عن ذلك، فقالوا: «خُلقٌ نعظِّم به اُمراءنا» فنهاهم عن ذلك لأنّه اعتبره عادة سيِّئة وخلقاً لا يليق بالعامّة أو الرعيّة.
وهذا يعني أنّنا قد نتصرّف أحياناً بوحي العادة تصرّفات غير مدروسة، ولو تأمّـلنا فيها، في مضارها ونتائجها، فلربّما أعدنا النظر فيما اعتدنا عليه. ولذلك فإنّ الشاعر الذي يقول: «لكلّ إمرئ من دهره ما تعوّدا» ينظر إلى تمكّن العادة من النفس وتحكّمها فيها. ولذلك ورد عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: «اعـتياد الكذب يورث الفقر». كما أنّ اعتياد أي عادة سيِّئة يورث الشقاء والمتاعب.
ونفس الشيء يـقال عن (التقلـيد) فهو ألفة لما اعتاد عليه الآخرون، ومجاراة لعاداتهم وتقاليدهم حتّى ولو كانت مرفوضة، فالتقليد مأخوذ من عقد القلادة، فكما تطوّق القلادة الجيد، تطوّق العادة والتقليد النفس فتأسرها، فإذا نظرت إلى المقلّد رأيته لايعمل بموجب وعي ومعرفة وعلم ويقين ومنطق عقلي، فلقد رأى الناس هكذا يفعلون، وهذه هي حجّته الوحيدة في الدفاع عن نفسه، فهو في ذلك يشبه الببغاء التي تحكي وتردِّد ما تُلقّن به.
ولذلك اعتبر التقليد باطلاً في معرفة العقائد، إذ لابدّ من الفحص والتدقيق وعدم الإعتماد على ما قاله الآخرون في هذه العقيدة أو تلك، فالإسلام يطالب أتباعه بالخروج من أجواء الألفة لما كان عليه الآباء والأجداد والإعتياد والتقليد، إلى أجواء البحث والتفكير والتأمّل، ذلك أنّ الأجواء الأولى هي أجواء تدعو إلى الخمول والخدر والتبعية السلبية والضلال والتخلّف، أمّا الأجواء الثانية فهي أجواء تدعو إلى التفكّر والغوص إلى العمق واستجلاء الأبعاد.
ولذلك ترى أنّ الذين ينغمسون في الشهوات لا يقدرون على اكتساب الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، بعكس الذين يتحكّمون بشهواتهم ويكبحون جماحها. يقول الإمام علي (عليه السلام): «طهِّروا أنفسكم من دنس الشهوات تدركوا رفيع الدرجات».
ولو تأمّلنا في عباداتنا لرأيناها وسائل جادّة ومؤثرة في كسر طوق العادة، فالصلاة كسر لعادة الغفلة، والصوم كسر لعادة الشهوة، والزكاة كسر لعادة الحرص، والزُّهد والجهاد كسر لحالة التعلّق بالدنيا.
ولكنّ ذلك ليس قاعدة ثابتة، فقد تتحوّل العبادة نفسها إلى عادة وحينئذ يسقط أو يضعف تأثيرها. فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «لا يغرّنّكم الرجل في كثرة صلاته وصيامه، فقد تكون عادة اعتادها، حتّى إذا تركها استوحش، وإنّما اختبروه بصدق الحديث وأداء الأمانة».
العادة ليست قدراً.. جرّب أن لا تنام الظهر حتّى لو اعتدت على ذلك من قبل، فستتمكّن بعد أن تعاني في البداية من صعوبة قابلة للتحمّل. وجرّب أن تمتنع عن أطعمة وأشربة معيّنة كالشاي أو القهوة أو المشروبات الغازية، وستجد أنّ بإمكانك أن تفعل ذلك. فأنت أقوى من عادتك .. أنت صنعتها وأنت الذي يمكنك أن تتخلّى عنها، فإذا أرخيت لها الزمام أحالتك إلى عبد أسير .
يقول الإمام علي (عليه السلام): «إنّما الجاهل مَن استعبدته المطالب». ويقول الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام): «لاتعط نفسك ما ضرّه عليك أكثر من نفعه».
إنّ النفس كثيرة الشبه بالطفل، فالطفل إن تتركه يعتاد الرضاعة فإنّه يشبّ عليها، وإن تفطمه ينفطم ثمّ لا يلبث أن ينسى الرضاع. فالفطام هو أوّل تجربة للطفل مع كسر العادة، وإذا ما بلغ وأصبح مكلّفاً بالصيام فإنّه يمارس فطاماً من نوع آخر، أي أنّنا بالفطام أو الصيام نبدأ بصناعة النفوس المقاومة الكبيرة.
وإذا كانت النفوسُ كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ
فالفطام والصوم أو أيّة محاولة لكسر العادة واجتناب الوقوع تحت تأثيرها رياضة ذات فوائد جمّة. يقول علي (عليه السلام): «وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر».
2- المتعة واللذّة:
هناك جملـة من المتع واللذائذ والشهوات الحسِّيّة التي تدخل البهجة إلى النفس، كالطعام والشراب والجنس، والحصول على المال، واكتساب القوّة والقدرة لتلبية هذه الحاجات والتمايز على الآخرين.
كما أنّ هناك متعاً ولذّات روحـيّة؛ كالفوز والنجاح والإنجاز والإبداع، وإسعاد الآخرين، ورضا الوالدين، ورضا الله، والإستقامة، والقيام بأعمال البرّ والإحسان والخير والصلاح.
وقد عملت الثقافة الغربية على تكريس مبدأ اللذّة، فلقد اعتبر (فرويد) الإرضاء الحرّ للرغبات الجنسية شرطاً أساسياً لسلامة النفس، وأنّ الذين يصابون بأمراض نفسية إنّما يعانون من كبت غريزة اللذّة.
وقد اتّضح أنّ إشباع الرغبات والمتع الغريزية قد يؤدِّي إلى اللذّة الجسدية، لكنّه يتسبّب في آلام أيضاً، فالبغاء أو الزنا يخلق مشاكل جسدية ونفسية كثيرة، وقد تبعث الخمرة على النشوة لكنّ مخاطرها كبيرة، وهكذا الحال بالنسبة للمخدّرات والسرقة والجريمـة. ولذلك جاء في الحـديث: «مَن تسرّع إلى الشهوات، تسرع إليه الآفات».
يقول عالم النفس (الكسيس كارل): «هـناك اليوم أشخاص كثيرون يعيشون مما يقرب من الحياة الحيوانية، يبحثون عن القيم المادية، ولهـذا السبب فإنّ حـياة هؤلاء أرذل كثيراً من حياة الحـيوانات، لأنّ القيم المعنوية هي الوحيدة التي تمنحنا الضياء والسعادة».
فالضياء، وهو نور القيم والأخلاق والدين، لاينبعث من اللذائذ المحرّمة. والسعادة، وهي الشعور بالراحة النفسية والطمأنينة القلبية، لاتتأتّى من خلال المعاصي والذنوب، فكم من الذين يمارسون هذه المتع والشهوات، يحدّثونك عن القلق، وتأنيب الضمير، والرغبة في التخلّص من الحياة، والشعور بالتعاسة الكاملة، فأين هي ثمار لذّاتهم؟!
فاللذّة الحقيقيّة هي التي يجتنيها الإنسان من الأشياء التي أحلّها الله له، فأكل العنـب مثلاً لذيذ، لكنّ صـناعة مادّة مسكّرة من العنب، قد تجلب لذّة السكر، لكنّها تجلب معه مضار كثيرة، سنتعرّف عليها لاحقاً، أي يصحّ أن نقول عنها أنّها (لذّة آثمة) أو (لذّة محرّمة) أو (لذّة مؤلمة) وحتّى لو لم نشعر بألمها المادِّي، فإنّ ألمها الروحيّ والنفسي كبير.. يكفي أن تشعر أنّك تعصي الله فيما أمرك حتّى تشعر بالألم العميق.
إنّ القيم والأخلاق والدين عاصم يحفظ لك – بعلامات مروره وإشاراته الضوئية – سلامتك وسلامة الآخرين، ويقيك الحوادث المؤسفة.. وينجيك من المزالق والمطبات والأخطاء.. فهو صمام أمان.. وقارب نجاة. وبدون الإلتزام الديني والخلقي لا يمكن السيطرة على الإنسان. فقد ورد في الحديث: «ولع النفس بالشهوات يغوي ويردي»، وجاء أيضاً: «إذا غلبت عليكم أهواؤكم أوردتكم موارد الهلكة».
فلابدّ للشاب أو الفتاة من أن يضبطا لذاتهما، ولا يُطلقا لها العنان، أي أن ينفّسا عنها عبر القنوات الطبيعية التي أحلّها الله تعالى، فما من حاجة أساسية وغريزية إلاّ وقد رسم الله طريق تلبيتها من حلال.
تلفّت يمنة ويسرة لترى أنّ الذين يبحثون عن المتع المنحرفة واللّذّة المحرّمة يعانون من آلام كثيرة، فهم ـ على سبيل المثال ـ ينشدون الهدوء والراحة والسعادة، لكنّهم يعيشون في الواقع الأرق والقلق والهموم والأمراض النفسية التي تعجز عيادات الطبّ النفسي أحياناً عن إيجاد علاج شاف لها، بل تراهم السبب في الكثير من الآلام التي يسببونها لغيرهم. يقول الحديث الشريف: «يستدلّ على شرّ الرجل بكثرة شرهه وشدّة طمعه».
3- الحرِّيّة والجريمة:
لا نتحدّث هنا عن الحرِّيّة المنضبطة فهي طموحنا جميعاً، وقد عمل الإسلام على تحرير الإنسان من أي قيد يشلّ إرادته ويغلق عقله، بأن جعله عبداً لله فقط، ورفض أيّة عبودية أخرى، ليعيش الإنسان حرِّيّته في حدود ما رسمه الله له.
أمّا الحرِّيّة المنفلتة.. أو التي لاتراعي قيداً ولا شرطاً ولا نظاماً، أو تلك التي أباحها القانون الغربي في الجنس والخمر في سنّ معيّنة، فإنّنا لا نعتبرها حرِّيّة، فكلّ ما يعرّض الإنسان والمحيطين به إلى المخاطر والأذى فهو فساد، وهو ليس بحرِّيّة، بل هو قيد واستعباد وأسر.
فمدمن المخدّرات ـ مثلاً ـ الذي لا يتمـكّن من الإقلاع عنها، مقيّد بقيد شديد، وهو عبد للعقار الذي يتعاطاه، لأنّه يسيّره كما يريد، وهو يستجيب له كلّما ألحّ عليه، مثلما كان يفعل (السيِّد) بـ(العبد) أيّام الرقيق.
ولذلك فعندما نقرن بين (الحرِّيّة) وبين (الجريمة) فلأنّ هذا هو الذي يحصل الآن، ففي قبال أيّة حرِّيّة مطلقة تجد ثمة جريمة أو عدّة جرائم. فحرِّيّة الجنس تقابلها جرائم: اختلاط الأنساب، الإجهاض، الإغتصاب، الإعتـداء الجنسي على الأطفال، الشذوذ الجنسي، ناهيك عمّا ينجم من ممارسة هذه الحرِّيّة من أمراض أعيت الطبّ في علاجها.
إنّ من حقّ كلّ شاب وفتاة أن يعيشا إنسانيتهما بلا تعسّف ولا قمع ولا اضطهاد، لكن ليس من حقّهما أن يسيئا إلى هذا الحقّ، فالحـرِّيّة التي يدعو إليها الإسلام وننادي بها ليست التي تنتهي عندما تبدأ حرِّيّة الآخرين فحسب، بل الحرِّيّة التي لا تعدّي ولا ضرر فيها على صحّة وسلامة وأخلاق الفرد نفسه.
يقول بعض المعنيين بتربية الشباب: «إنّ الذين ينسجمون مع قرارات الخلق، ومعايير المجتمع، إنّما يمتازون بوجدان هادئ وضمير مطمئن، وهؤلاء يتمكّنون من أن يقضوا عمرهم براحة مع سلامة المعنويات وراحة البال. وبعكسهم المصابون بإنحرافات، والذين يميلون إلى الأساليب غير القانونية والأخلاقية والمكبوتون».
وهذا يعني أنّ الحرِّيّة المنفلتة أو المطلقة لا تحقق السـعادة، كما هو تصوّر بعض الغربيين، وبعض الشرقيين الذين يعيشون الكبت والحرمان، بل الحرِّيّة الملتزمة هي التي تحقق ذلك.
4- الإرادة والغريزة:
يشترك الإنسان مع الحـيوان في عدّة غرائز، كغريزة الغضب والعنف، وغريزة الجنس، وغريزة حبّ الطعام، ويختلف عنه في أنّه قادر على السيطرة على غضبه إذا هاج (والكاظمين الغيظ)(آل عمران/ 134). وقادر على التحكّم بفرجه من خلال التعفّف وتوظيف غريزة الجنس فيما أحلّه الله من تشريع الزواج (والّذين هم لفروجهم حافظون * إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين * فمَن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) (المؤمنون/ 5-7). وقادر على التحكّم ببطنه من خلال الصـيام بالامتناع عن الأطعمة المحـلّلة، أو الامتناع عن الأطعمة المحرّمة (كلوا واشربوا ولا تسرفوا)(الأعراف/ 31).
فـ(الغريزة) عند الانسان كحالة حيوانية، تقابلها (الإرادة) كحالة إنسانية. والإرادة هي التي تحدّ جموحنا، وتقف حكماً حكيماً لحسم صراع الرغبات المتصارعة فينا. ويرى عالم النفس (يونغ) أنّ مقابل كلّ رغبة، وكلّ احساس وعاطفة توجد حالة ضدّ، وهي تكمل إحداها الأخرى، ويسمّي ذلك بـ(قانون التكامل). ويعتقد (يونغ) أنّ الشخص العصبي هو الذي تكون لديه إحدى هذه الحالات أو الإحساسات، أو العواطف المتضادّة من طرف واحد، أي ليس هناك ما ينظّمها أو يكبحها.
وفي مفاهيمنا الإسـلامية، فإنّنا نصطلح على ذلك بالتوازن والإعتدال، فالإرادة وهي قدرة باطنية تحتاج إلى تدريب وتنمية، هي التي تخفّف من غلواء الشهوة واندفاعها بالاتِّجاهات الخاطئة، فهي كالمقود في السيارة يعيدها إلى الطريق إذا انحرفت عنه، وكالكابح الذي يتحكّم بها عند الإنزلاق.
5- الشهوة والذلّة:
كثيراً ما جرّت الشهوة الطاغية إلى ذلّة، حتّى ليمكن القول إنّ الذلّة هي رفيق مرافق للشهوة فلا تتركها لوحدها، والسبب في ذلك بسيط، فالشهوة حينما تستولي على إنسان فإنّها تسترقّه، أي تستعبده حتّى يلبّي نداءها، ولأجل أن يصل إلى إشباع الشهوة أو النزوة أو الرغبة الملحّة، فإنّه يقدّم بعض أو كلّ ماء وجهه أحياناً.
جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «لا ينبغي أن يكون للمؤمن حاجة تذلّهُ» أي لا ينبغي أن يقع أسير عادة أو إدمان تجعله يضحّي بسمعته وبشخصيّته وبعزّته من أجل نيلها أو بلوغها.
ففي أحد السجون كان السجين صلباً عنيداً لم يتمكّن الجلاد من انتزاع اعتراف منه، لكنّه لمّا كان مدخّناً مدمناً على التدخين، ألحّت عليه الرغبة في التدخين فانهار واعترف.
وقد أراد الله العزيز للمؤمن أن يكون عزيزاً دائماً، كبيراً دائماً.. فلا تستصغره الرغبة أو تذلّه الحاجة. ففي الحديث: «لقد فوّض الله للمؤمن أموره كلّها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً».
ولعلّك اطّلعتَ على قصص بعض المدمنين للمخدّرات، ورأيت كيف أنّهم مستعدون للتفريط بكلّ شيء من أجل أن ينالوا جرعة منها، حتّى أنّ بعض الفتيات المدمنات كنّ مستعدّات لبيع أجسادهنّ مقابل الحصول على عقار مخدّر.
6- الحلال والحرام:
تمثل الشريعة الإسلامية في داخل كلّ واحد من أتباعها إشارات (المسموح) و(الممنوع).. أي أنّها تخطّط لنا طريق السير في الحياة والسعي في مناكبها، إلاّ أنّ ثمة حدوداً محدودة، اصطلح عليها القرآن (حدود الله) أمرنا أن لا نتعدّاها (تلك حدود الله فلا تقربوها)(البقرة/ 187). ولو تأمّلنا في كلّ (ممنوع) في الشريعة، لرأينا ما يلي:
أ. أنّه ينطوي على ضرر أو أكثر سواء أدركنا ذلك الضرر أو لم ندركه.
ب. إنّ المنع ليس لحماية الشخص من نفسه فقط، بل لحماية الآخرين الذين يلحق بهم الضرر أيضاً.
ج. المنع امتحان لطاعة الإنسان وامتثاله، أو ارتكابه للممنوع جرأة على الله العظيم الذي منعنا فخالفناه.
د. إنّ ارتكاب أي ممنوع يشجّع على ارتكاب ممنوعات أخرى.
فلقد اتّضح أنّ بعض المدمنين على المخدّرات كانوا في فترة سابقة من المدمنين على التدخين أو على شرب الخمر.
ولذا فإنّ ثقافة الحـلال والحرام التي يـتربّى عليها الشاب أو الفتاة منذ وقت مبكر، تفعل فعلها في سلوكهما المتأخر، فإذا أقدما على محرّم تذكّرا أنّه اجتراء وتجاوز وتعدّ على الحدود، وانّه مفسدة لهما ولغيرهما، أي أن يكون لديهما جهاز تحسّس مانع من اقتراف المنـكر، وقد تبيّن من دراسة سلوك المدمنين أنّ أحد أسباب إدمانهم هو ضعف أو إنعدام الشعور الديني الواقي من الإنحراف، أي ضمور الوازع أو الضمير أو ما يسمّى بـ(التقوى).
7- الأعمال والنتائج:
ومن الأمور التي تجعلنا نقدم على عمل أو نمتنع عنه هو التأمّل في نتائجه، فإذا كانت طيِّبة وخيِّرة ونافعة أقدمنا عليه، وإذا كانت سيِّئة وخبيثة ومضرّة اجتنبناه، وتلك هي الحكمة في شخصيّة الشاب أو الفتاة، فحساب النتائج عملية عقلية، وهو دليل الوعي والتصرّف المتزن، ولذلك أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع هذا الإسلوب الحكيم في كلّ عمل نقوم به «إذا هممت بأمر فتدبّر عاقبته فإن كان رشداً فامضِ وإن كان غيّاً فانتهِ».
فتدبُّر العاقبة، والموازنة بين المفاسد والمنافع، يحدّ من الإندفاع نحو المنكر، فشارب الخمر حينما يقف على النتائج المترتبة على السكر، سيرى أنّها مذهلة ومروّعة ومدمّرة، وقد توقّف بعض المدمنين فعلاً بعد ما اطّلعوا على ما يسبِّبه من فظائع.
غير أنّ الربط بين العمل ونتائجه قد يكون نافعاً في المراحل الأولى للإبتلاء بآفة من الآفات التي سنأتي عليها، وإلاّ فبعد أن تستفحل الآفة ويستعر أوارها وتأخذ مأخذها من أعصاب المدمن وشهـوته، فإنّه لا يربط بين العمل والنتائج الكبيرة من حيث ما ينتهي إليه من نهايات مؤسفة، وإنّما يربط بين العمل وبين نتائجه الآنية التي يقطف فيها اللذّة التي تشبه عود الثقاب فهي سريعة الإشتعال سريعة الإنطفاء.
ولعلّ من بين أهم عوامل تدبّر العاقبة، حساب ما يجرّه الإدمان من إثم سيبقى يلاحقه إلى يوم الدين، في حين أنّ اللذّة تفنى وتندثر.
عوامل إنحراف الشباب:
بعد التعرّف على بعض المفاهيم التي ترتبط بموضوع الآفات التي تفتك بالشباب، لابدّ أيضاً من التعرّف على العوامل التي تؤدِّي إلى إنحراف الشباب بصفة عامّة، بحيث يلجأون إلى الأساليب الملتوية والضارّة لمعالجة انحـرافهم، وهي عوامل كثيرة نلتقط أهمّها:
1- التربية الأسرية: فالبيت الذي يضطهد أبناءه، والذي تنخر فيه الخلافات والصراعات الدائمة بين الأبوين، والذي يقع فيه الإنفصال والطلاق، والذي ينشغل عنه أحد الأبوين أو كلاهما في أعمال تستهلك الوقت، أو الذي لا يمارس فيه الأب والأم مسؤولية المتابعة والمراقبة والمحاسبة، والذي يدمن فيه الأب المخدّرات، بيت مرشّح لتسرّب وتسيّب أبنائه وبناته ووقوعهم في أحضان الإنحراف.
2- رفاق السُّوء: ولهم التأثير الأكبر بعد الأسرة، فإذا وقع الشاب أو الفتاة في قبضة شباب منحرفين أو فتيات منحرفات، فإنّ عدوى الإنحراف سـتنتقل إليهم إن عاجلاً أو آجلاً. ويزداد الطين بلّة إذا كان البيت متصدّعاً من الداخل، فإنّ شلّة (الأصدقاء) ستقوم بدور التعويض السلبي لقيادة الشاب إلى التهلكة.
فمن خلال قراءتنا لقصص المدمنين اتّضح أنّ أحد أهمّ الأسباب الدافعة إلى الادمان كانت علاقات الصداقة السيِّئة التي زيّنت لهم المنكر.
3- وسائل الإعلام: وذلك من خلال ما تبثّه أحياناً من أفلام العنف والسرقة والعري والجنس والبحث عن المجد الفارغ، والسلطة القائمة على القهر والابتزاز، وما تروّج له من صور سيِّئة عن واقع الشباب وانغماسهم في الملذّات، وما تبثه من قصص بعض المتشائمين واليائسـين والمحـبطين الذين يجدون ملاذهم في التهام المخدّرات والإقبال عليها بشراهة، وانعدام وسائل التوعية الرشيدة في المقابل.
4- الوضع المادي: لقد اتّضح من خلال دراسات ميدانية أجريت على عينات من المدمنين أنّ (الغنى) و(الفقر) كلاهما عاملان من عوامل الإدمان، ففي حين يجد الثري المال مبذولاً للاغراق في الشهوات والإقبال على المخدّرات، يبحث الفقير عما يهرب فيه من واقعه، وإذا تورط في تعاطي المخدّرات لسبب أو لآخر فإنّه سيجد نفسه مضطراً للسرقة حتى يحصل على المال الذي يؤمّن له المخدّر الذي أدمنه.
5- الوضع النفسي المضطرب: والناتج عن فشل في علاقة عاطفية، أو فشل دراسي، أو عقدة نمت وترعرعت في بيت يمارس سلطة خانقة، أو ازدواجية سلوكية، أو إنسحاق أمام سلطة سياسية باغية، أو تكرّر الاحباطات والخيبات، وما إلى ذلك من عوامل الضغط النفسي التي تدفع إلى الإنحراف.
لائحـة الآفات:
1ـ آفة التدخين:
ونبتدئ بالتدخين لا لأنّه الأخطر بين الآفات الأخرى، فكلّ آفة لها درجتها من الخطورة، لكنّ التدخين كثيراً ما كان منفذاً للإدمان على آفات أخرى، فهو النار الصغيرة التي تتلوها خطوات نحو جهنّم.
ونبدأ به نظراً لشـيوعه بين الشـباب، حتّى أصبح جزءاً من (موضة العصر) أن يدخّن الشـاب ليماشي نظراءه من المدخنين، وليثبت لهم أنّه قد أصبح كبيراً، وها هو يدخل عالم الكـبار من باب الدخان!!
وللأسف فإنّ الشاب الذي يتصوّر أنّ الرجولة هي (دخان) فانّ رجولته سرعان ما تندثر في الجوّ الإجتماعي كما يندثر الدخان في أوّل هبّة ريح. فللرجولة مقاييس واعتبارات نأمل من كلّ شاب التعرّف عليها من خلال نظرة الدين إلى الرجل، ونظرة المجتمع الواعي المنصف إلى الرجل، فالرجولة علم وأخلاق وعمل وإبداع وبطولة ومروءة، وليس دخاناً تتناثر حلقاته في الفضاء.
وقبل أن نتعرّف على مضارّ التدخين، دعونا نتعرّف على فوائده.
فهل في التدخين فوائد؟
يقول بعض المدخنين إنّه يجلب الراحة النفسية، فأنت حينما تنفث دخان السيجارة، فكأنّك تنفث همومك معها.
ويقول آخرون أنّ التدخين يساعد على الإنتاج والإبداع والمذاكرة خاصّة بالنسبة للكتّاب والأدباء والطلبة، أي أنّها تخلق جوّاً مساعداً.
ويقول صنف ثالث، أنّها ـ أي السيجارة ـ عامل من عوامل التسلية والإستمتاع.
وهذه الفوائد المدّعاة إن هي إلاّ أوهام نفسية يتخيّلها المدخنون، أو يضعونها كمبررات لإستعمال التبغ، وإلاّ ما علاقة نفث الهموم باحتراق السيجارة؟
ألا يمكن أن نحصل على الراحة النفسية بأساليب أكثر حضارية، وأنفع للصحّة، وأوفر للجيب؟ أليس إستنشاق الهواء الطلق النقي والقيام بعمليات شهيق وزفـير تساعدان على تنقية الرئتين من هوائهما الفاسـد، وبالتالي تنقِّي الدم وتنزاح بعض الهمـوم وينشرح الصّدر؟ هذا فضلاً عن أنّ الأدلّة العلمية تؤكِّد أنّ التدخين لايسبب الإسترخاء ـ كما يتوهّم المدخنون ـ بل يؤدِّي إلى القلق والعصبية والتململ، وكلّها مظاهر تجدها عند عامّة المدخنين.
ثمّ أين وجه الربط بين الإبداع وبين الدخان؟ وهل كان المبدعون دائماً مدخـنين؟ وهل الإبـداع عملية تأمّل داخلي أم إحتراق خارجي؟ إنّ لحظات الصفاء والتأمّل والتفكير قد تحتاج إلى أجواء نقيّة لا يلفّها ضباب الدخان، فما هي إلاّ العادة تجعل الأديب أو الكاتب يتخيّل أنّ ابداعه قرين سيجارته.
وهكذا بالنسبة لمن يراها شكلاً من أشكال الإستمتاع في جلسة أو مناسبة عائلية أو اخوانية، فهل عدم المدخن وسائل الإستمتاع الأخرى، فلم يبق إلاّ هذا التسميم للجوّ المحيط وللجوّ الداخلي للرئتين؟!
مضارّ التدخين ومخاطره:
1- إنّ مكوّنات السيجارة ـ كما يقول الخبراء ـ هي: (الاسبتين والأمونيا) اللتان تدخلان في تكوين المنظفات، و(البوتان) وهو نوع من أنواع الوقود الخفيف، و(الميثانول) الذي يدخل في صناعة وقود الصواريخ، و(أوّل أوكسيد الكربون) الذي يخرج من عادمات السيارات، و(النيكوتين) وهو المادّة المسؤولة عن حدوث الإدمان في التدخـين، كما ثبت أنّها مادّة مسرطنة، و(القار) وهو المادة المستخدمة في رصف الشوارع!!
2- التدخين يزيد من خطر الإصابة بما يلي: السكتة الدماغية، الأزمات القلبية، الربو الشعبي، التهاب الشعب الهوائية، النفاخ الرئوي، تمدّد الشعب والحويصلات الهوائية في الرئة، وسرطان الرئة.
3- التدخـين يسهم في الإصابة بتصلّب الشرايين، وارتفاع ضغط الدم، ويزيد من خطرهما على القلب والمخ، ومختلف أجهزة الجسم.
4- التدخين يسبب فقدان الشهية.
أرقام مخيـفة:
- إنّ الأمراض التي يسببها ألف طن من التبغ تتطلّب علاجاً تقدّر تكاليفه المادية بحدود (11) مليون دولار أميركي.
- يؤكّد أطباء الرئة في برلين أنّ شخصاً واحداً يموت في العالم كلّ ثمان ثوان بسبب التدخـين. كما أنّ هناك حوالي (4) ملايين شخص يموتون سنوياً في سن مبكرة من جرّاء ذلك. جاء ذلك في مؤتمرهم السنويّ الأخير.
- يقدّر علماء بريطانيون من فريق علمي تابع لجامعة بريستول في انجلترا أنّ كلّ سيجارة تقتطع في المتوسط (11) دقيقة من عمر المدخنين الذكور. وأشار الفريق إلى أنّ أعمار المدخنين تقلّ بنحو ستّة أعوام ونصف عن أعمار غير المدخنين.
- خطر التدخين يشتد بدرجة كبيرة لدى الشباب والصبية الذين يتورّطون في هذه العادة السـيِّئة تقليداً للكبار وإثباتاً للرجولة، ذلك أنّهـم يتعرّضون للأزمات القلبية، والسكتات الدماغية في الثلاثينيات والأربعينيات.
- الدخان المنبعث من أنوف المدخنين وأفواههم يلوّث الهواء الذي يستنشقه غير المدخنين، فيتعرّضون لنفس المخاطر التي تهدّد حياة المدخنين. ويعرف ذلك بـ(التدخين السلبي)، وهو يمثِّل إعتداءً صارخاً على حقّ غير المدخنين في إستنشاق هواء نظيف خال من التلوّث، ويجعلهم مدخنين رغم أنوفهم.
- ازداد عدد المدخنات عشرات الأضعاف، حيث تتصور المرأة أنّ التدخين مظهر من مظاهر الحرِّيّة الشخصية، وأنّه يضعها على قدم المساواة مع الرجل.
- ينفق الكثيرون حوالي نصف دخلهم في شراء السجائر التي يدخنونها.
- تشير الأدلّة إلى أنّ السجائر التي تباع في الدول النامية تحتوي على ما يقرب من ضعف كمِّية القطران والنيكوتين الموجودة في مثيلاتها في أوروبا وأميركا.
- تؤكِّد البحوث أنّ ثلث المدخنين ـ على الأقل ـ يلقون حتفهم بسبب التدخين.
- يقول الخبراء: ليس هناك أيّ أمل في العثور على سيجارة مأمونة العواقب.
- إنّ الوقت الإضافي الذي يضيّعه المدخنون يقلّص معدل الإنتاج.
- حسب منظمة الصحّة العالمية، فإنّ التدخين مسؤول بشكل مباشر عن نسبة 30% من الوفيات بالسرطان.
- توصّل عدد من الباحثين الأميركيين إلى أدلّة جديدة على أنّ تدخين الاُم أثناء الحمل يزيد من إحتمالات أن يدخّن طفلها في سن صغيرة!
- تحتوي السجائر على أعلى تركيز من القطران، يليها السيجار، ثمّ دخان الغليون والنارجيلة.
كيف يحدث الإدمان؟
يقول الخبراء المختصّون والأطبّاء: «خلال عشر ثوان فقط من إستنشاق الدخان من السيجارة تدخل جرعة من النيكوتين مباشرة وبسرعة إلى المخ. وهذا الإندفاع يؤدِّي إلى إفراز عدد من المواد في المخ. ومع مرور الوقت يودِّي وجود هذه المواد في المخ، خاصّة الدويامين والنورأدرينالين، إلى أن يصبح المدخّن مدمناً على النيكوتين».
يقول د. كريس سيتل وهو ممارس عام في مدينة مانشيستر البريطانية، وخبير في التدخين، أنّ معظم المدخنين لا يواصلون التدخين بحكم العادة، ولكنّهم يفعلون ذلك لأنّهم أصبحوا مدمنين على النيكوتين.
إنّك حين تضعف فلا تقول (لا) لمدخّن يقدّم لك سيجارة.. فإنّك تقضي على نفسك بأن تضع قدمك على طريق الإدمان.
لا تقل: (واحدة فقط) أو (القليل لا يضرّ) أو (هذه المرّة لا بأس) أو (هذا مجرّد تسلية) أو (الكثير من أصدقائي يفعل هذا.. هل بقيت عليَّ ؟) فهذه هي المقدّمات التي جرّت إلى الإدمان.
مكافحة التدخين وتحريمه:
هناك عدّة إجراءات اتّخذت لمكافحة التدخين، لكنّنا لا نعتبر الإجراء الذي اتّخذته شركات الدخان في الكتابة على علبة السجائر (التدخين يضرّ بصحّتك ننصحك بالإمتناع عنه) منها، ذلك أنّ هذه العبارة ـ إذا كان هناك مَن يقرأها من المدخنين ـ ليست إلاّ عبارة ترغيب، فحال علبة السجائر الجميلة حال الفتاة المتبرّجة التي تقول لك لا تقترب منِّي.. إنّها تدعوك إليها بصدّها عنك.
فمن الإجراءات المتّخذة، محاصرة المدخنين في كلّ مكان، حيث تتّسع رقعة الأماكن التي تحظر التدخين ولم تعد المواصلات والمطارات والمدارس ودورات المياه وحدها التي لا تسمح بالتدخـين، بل المصانع والمتاجر والمساجد وغيرها، وهو إجراء جدير بالتقدير على الأقل بالنسبة لحديثي العهد بالتدخين، وإلاّ فالمرء حريص على ما مُنع..
ومنها إعلانات تلفزيونية تظهر مضار التدخين بشكل مصوّر وحيّ، ومنها خطوط هاتفية مجانية، ومواقع على شبكة الانترنيت، لتقديم المساعدة للأشخاص الراغبين في الانقطاع عن التدخين. ومنها اخـتراع لعلبة سجائر ناطقة تطلق تحذيراً للمـدخِّن من الإصابة بالسرطان فور فتح العلبة. ومنها وضع صور لأعضاء بشرية تالفة جرّاء التدخين على علب السجائر، ومنها زيادة أسعار السجائر لتقليل مبيعاتها.
ومع تحفّظنا على الإجراءات التي لم تتخلّ عن (علبة السجائر) فإنّنا نرى أنّ هذه المكافحة الإعلامية لا تفعل فعلها، أو ربّما تؤدِّي إلى نتائج متواضعة محدودة، ما لم يبادر المدخن نفسه إلى اتّخاذ القرار المناسب وهو العزم على الإقلاع عن التدخين، وتنفيذ العزم وعدم التراجع عنه، فهذا هو الإجراء الأهم.
أمّا الرأي الشرعي في مسألة التدخين، فنأخذ منه القول بالحرمة، حيث يستند القائلون بالتحريم إلى قوله تعالى: (يحلّ لهم الطّيِّبات ويحرِّم عليهم الخبائث)(الأعراف/ 157). معتبرين التدخين من الخبائث.
ومنهم مَن يستند إلى قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما) (البقرة/ 219). فكلّ ما كان إثمه وضرره أكبر من نفعه فهو حرام. وضرر التدخين ـ كما هو ثابت طبِّياً ـ أكبر بكثير من منافعه. وإذا عرف الإنسان بأنّ التدخين سوف يوقعه في مرض مميت ولو بعد عشر سنين، بحيث صار لدى الأطباء واضحاً أنّ التدخين يؤدِّي إلى التهلكة فعندئذ يحرم إستعماله.
وقد وصل الأمر ببعض الفقهاء إلى إصدار فتوى يحق للزوجة فيها الطلاق إذا تضرّرت من تدخين زوجها.
ويشير الفقهاء أيضاً إلى مخاطر التدخين السلبي، وهو إستنشاق الدخان من قبل غير المدخنين، والذي يقال إنّ ضرره أكثر من التدخين ذاته، ويرون أنّ الحرمة تأتي من ضررين: ضرر شخصي يصيب المدخن نفسه، وضرر إجتماعي يصيب المحيطين به. فلو كان المدخن في غرفة أو سيارة أو مصعد ومعه شخص أو شخصان أو أكثر فلا يجوز له التدخين لأنّ المكان مشترك، فكما أنّ له حقاً فيه فإنّ لهم فيه حقاً أيضاً.
والغريب أنّ أغلب المدخنين يدركون خطر التدخين، وتراودهم الرغبة في الإقلاع عنه، وقد يحاولون ذلك مراراً لكنّهم يضعفون أمام السيجارة، الأمر الذي يعني الترك غير الجاد،
وغير النابع من الإرادة، وإلاّ ففي الحديث «ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة». والنيّة هنا هي الإرادة.
وقد وضع بعض المهتمين في علاج التدخين طريقة للإمتناع عنه تقوم على التخطيط للإقـلاع، وتحـديد تأريخ لهذا الإقلاع، والتفكير الدائم بالأمور التي تجعله تقلع عنه، كأن يكتب الأشياء التي يكرهها في التدخين، والأخرى التي يحبّها فيه، والأخرى التي يكسبها منه ليوازن ويقارن بينها. وأن يتحدّث مع مَن يستطيعون مساعدته كالطبيب والصيدلي والمرشد الصحّي.
وإذا كنتَ تدخن مع القهوة فجرّب مشروباً آخر حتى لا تحصل حالة اقتران، وابحث عن المنتجات التي تحلّ محل النيكوتين، وتفاخر بإقلاعك عن التدخين، بل وكافئ نفسك على تركه.. أطفئ السيجارة بسحق عقبها، وارم بعيداً مطفأة السجائر والولاعات.
هذا وقد أكّدت دراسة طبّية عالمية أنّ التحسّن في صحّة الفرد يبدأ فور إقلاعه عن التدخين، وأنّ هناك تغييرات فسيولوجية واكلينيكية إيجابية تطرأ على الدم ووظائف الجسم بعد عشرين دقيقة فقط من إطفائه للسيجارة، وانّ الدم يتخلّص من النيكوتين بعد (8) ساعات، موضّحة إنّ الآثار السلبية للتدخين تختفي تماماً من جسم المقلع عن التدخين بعد عشر سنوات، حيث يصبح كما لو أنّه لم يدخّن من قبل.
2- آفة الخمر:
الآفة الثانية التي تفتك بالشباب، فتعطّل عقولهم وتتركهم في غيبوبة، هي الخمر، وهو في اللّغة «كلّ ما خامر العقل وحجبه». وقد حرّمها القرآن في قوله تعالى: (إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان فاجتنبوه) (المائدة/ 90). والرجس كلّ ما اشتدّ فحشه وقبحه.
هذا الرجس وهذه الآفة والطامّة الكبرى، لها أضرار كثيرة، نذكر منها:
أ. يساعد على تسبب جلطات القلب والذبحة الصدرية وخاصّة مع التدخين، فكلتا المادتين تساهم في انسداد الشرايين التاجية، فالخمر يرسّب الدهون والكلوليسترول، والدخان يسبب إنقباض الشرايين وتضييق مجراها، والخمر، علاوة على ذلك، يصيب عضلة القلب بالتسمّم.
ب. يقضي على حيويّة المعدة حيث يصيبها بالقرحة، ويؤذي الكبد أيضاً.
ج. يؤدِّي أحياناً إلى الإصابة بالجنون وإلى الإنتحار لما يسبّبه من آلام عصبية.
د. يكسـب الطبع صفة الخبث ويذهب الحشمة والوقار والإحترام.
هـ. يوقع العداوة والبغضاء، ويصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة وعن الواجبات الدينـية الأخرى، وذلك قوله تعالى: (إنّما يريدُ الشّـيطانُ أن يوقعَ بينكم العـداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون) (المائدة/ 91)؟!
و. الهلوسات التي تعتري المخمور .
ز. الرجفة والصرع والقيء والأرق.
ح. إلتهاب المخ والإصابة بضعف الذاكرة.
ط. الشكّ في الزوجة الفاضلة.
ي. الإعتقاد بأنّ كلّ الناس ضدّه.
ك. الضعف الجنسي.
ل. يتسبّب في أمراض العضلات.
م. يتسبّب في العمى.
ن. وإذا شربته الحامل فإنّ الجنين يمكن أن يصاب باضطرابات مختلفة وتشوّهات، وتأخير في النمو الجسمي والنفسي والذكاء.
يتبع
الآفة هي الوباء الذي يأكل عافية الأشياء، فإذا أصابت الزرع آفة دمّرته فلا يثـمر، وإذا أصابت الإنسان آفـة حطّـمت قدراته فأقعدته عن العطاء.
وأخطر الآفات تلك التي تُهدِّد حياة الشباب على وجه الخصوص، ذلك أنّ هذه الشريحـة التي تمثِّل ربيع العمر وريعان الصبا، مرشحة للبناء والبذل والتغيير والتجديد، فإذا ما داهمتها آفة في الجسد أو الأخلاق أحالتها إلى حطام وخراب، فلا يرتجى منها خير.
فهل انتشار الآفات بين الشباب بهذا الشكل الفظيع، مؤامرة؟ لا نستبعد ذلك.
فلقد عمل تجّار المخـدّرات والجـنس على إحراق زهرة عمر الشباب وسحقها تحت الأقدام بغية الكسب المادي والربح الوفير.
وعمل تجّار السياسة على إغراق الشباب بالملاهي والملذّات كي يصرفوهم عن الانشغال بالشؤون السياسية، والمطالبة بحقوقهم المشروعة.
وعمل تجّار الإعلام على جعلهم هدفاً لأغراضهم الخبيثة في العنف والجنس والإنجرار إلى المتع المحرّمة، والإهتمام بغير المهم.
وحتى لولم تكن مؤامرة، فإنّ ضحايا الآفات الجنسية والتخديرية والعنفيّة من الشباب يمثلون خسائر فادحة لا تقلّ فداحة عن خسائر الحـروب وضحاياها، الأمر الذي يضع أولياء الأمر من الآباء والمربين والعلماء والخـطباء والقادة أمام مسؤولية جسيمة لإنقاذ هذه الشريحة التي تمثِّل عماد المجتمع، وقلبه النابض، وحركته المتدفقة، من براثن هذه الآفات التي لا تُحصى خسائرها.
ويمكن تصنيف الآفات التي تفتك بالشباب اليوم، فتقتطع جزءاً ثميناً من المجـتمع، أو تقتلع عدداً من أشجاره اليانعة المثمرة، أو تصيبه بالشلل المؤقّت، إلى:
1ـ آفة التدخين.
2ـ آفة الخمر.
3ـ آفة المخدّرات.
4ـ آفة الجنس.
5ـ آفة العنف.
6ـ آفة السرقة.
7ـ آفة الإنتحار.
8ـ آفة البطالة.
9ـ آفة الأعمال المحرّمة.
لكنّنا قبل الدخول في مناقشة كلّ آفة من هذه الآفات من حيث أسبابها، وأضرارها وطرق مكافحتها، نحـبّ أن نقف عند بعض المفاهيم التي تعتبر مداخل أو منافذ رئيسة للمناقشة، وهي:
1ـ العادة والتقليد.
2ـ المتعة واللذّة.
3ـ الحرِّيّة والجريمة.
4ـ الإرادة والغريزة.
5ـ الشهوة والذلّة.
6ـ الحلال والحرام.
7ـ الأعمال والنتائج.
1- العادة والتقليد:
أن تعتاد على شيء يعني أن تألفه، فإذا اعتدت على طعام معيّن، أو لباس معيّن، أو سلوك معيّن، فإنّك تألفه للدرجة التي يصعب معها أن تُقلع أو تتخلّى عنه.
وللعادة محاسنها، ولها مساوئها.
فالعادات الحسنة هي التي نُعبِّر عنها بالقول (جرت العادة) أو (وفقاً للعادة الجارية) أو (جرياً على العادة المتبعة) وهي ممّا تعارف عليه الناس ودرجوا عليه فبات موضع استحسانهم. فالعادة جرت مثلاً أن يُحسن الجار إلى جاره، فيتفقّده ويعوده في مرضه ويعينه في حاجته، ويفرح لفرحه ويحزن لحزنه، فهذه عادة حسنة.
وهناك عادات سيِّئة لا يقبلها الذوق العام ولا العرف السائد، وإنّما تنشأ من الإعتياد على القبيح والضارّ والمسيء والمخدش للحياء والعقل والدين.
ولذلك فإنّ الإمـام علـياً (عليه السلام) حينما رأى في طريقه إلى صـفِّين جماعة قد هرعوا إليه يتراكضون على جانـبي دابّتـه، سـألهم عن ذلك، فقالوا: «خُلقٌ نعظِّم به اُمراءنا» فنهاهم عن ذلك لأنّه اعتبره عادة سيِّئة وخلقاً لا يليق بالعامّة أو الرعيّة.
وهذا يعني أنّنا قد نتصرّف أحياناً بوحي العادة تصرّفات غير مدروسة، ولو تأمّـلنا فيها، في مضارها ونتائجها، فلربّما أعدنا النظر فيما اعتدنا عليه. ولذلك فإنّ الشاعر الذي يقول: «لكلّ إمرئ من دهره ما تعوّدا» ينظر إلى تمكّن العادة من النفس وتحكّمها فيها. ولذلك ورد عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: «اعـتياد الكذب يورث الفقر». كما أنّ اعتياد أي عادة سيِّئة يورث الشقاء والمتاعب.
ونفس الشيء يـقال عن (التقلـيد) فهو ألفة لما اعتاد عليه الآخرون، ومجاراة لعاداتهم وتقاليدهم حتّى ولو كانت مرفوضة، فالتقليد مأخوذ من عقد القلادة، فكما تطوّق القلادة الجيد، تطوّق العادة والتقليد النفس فتأسرها، فإذا نظرت إلى المقلّد رأيته لايعمل بموجب وعي ومعرفة وعلم ويقين ومنطق عقلي، فلقد رأى الناس هكذا يفعلون، وهذه هي حجّته الوحيدة في الدفاع عن نفسه، فهو في ذلك يشبه الببغاء التي تحكي وتردِّد ما تُلقّن به.
ولذلك اعتبر التقليد باطلاً في معرفة العقائد، إذ لابدّ من الفحص والتدقيق وعدم الإعتماد على ما قاله الآخرون في هذه العقيدة أو تلك، فالإسلام يطالب أتباعه بالخروج من أجواء الألفة لما كان عليه الآباء والأجداد والإعتياد والتقليد، إلى أجواء البحث والتفكير والتأمّل، ذلك أنّ الأجواء الأولى هي أجواء تدعو إلى الخمول والخدر والتبعية السلبية والضلال والتخلّف، أمّا الأجواء الثانية فهي أجواء تدعو إلى التفكّر والغوص إلى العمق واستجلاء الأبعاد.
ولذلك ترى أنّ الذين ينغمسون في الشهوات لا يقدرون على اكتساب الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، بعكس الذين يتحكّمون بشهواتهم ويكبحون جماحها. يقول الإمام علي (عليه السلام): «طهِّروا أنفسكم من دنس الشهوات تدركوا رفيع الدرجات».
ولو تأمّلنا في عباداتنا لرأيناها وسائل جادّة ومؤثرة في كسر طوق العادة، فالصلاة كسر لعادة الغفلة، والصوم كسر لعادة الشهوة، والزكاة كسر لعادة الحرص، والزُّهد والجهاد كسر لحالة التعلّق بالدنيا.
ولكنّ ذلك ليس قاعدة ثابتة، فقد تتحوّل العبادة نفسها إلى عادة وحينئذ يسقط أو يضعف تأثيرها. فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «لا يغرّنّكم الرجل في كثرة صلاته وصيامه، فقد تكون عادة اعتادها، حتّى إذا تركها استوحش، وإنّما اختبروه بصدق الحديث وأداء الأمانة».
العادة ليست قدراً.. جرّب أن لا تنام الظهر حتّى لو اعتدت على ذلك من قبل، فستتمكّن بعد أن تعاني في البداية من صعوبة قابلة للتحمّل. وجرّب أن تمتنع عن أطعمة وأشربة معيّنة كالشاي أو القهوة أو المشروبات الغازية، وستجد أنّ بإمكانك أن تفعل ذلك. فأنت أقوى من عادتك .. أنت صنعتها وأنت الذي يمكنك أن تتخلّى عنها، فإذا أرخيت لها الزمام أحالتك إلى عبد أسير .
يقول الإمام علي (عليه السلام): «إنّما الجاهل مَن استعبدته المطالب». ويقول الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام): «لاتعط نفسك ما ضرّه عليك أكثر من نفعه».
إنّ النفس كثيرة الشبه بالطفل، فالطفل إن تتركه يعتاد الرضاعة فإنّه يشبّ عليها، وإن تفطمه ينفطم ثمّ لا يلبث أن ينسى الرضاع. فالفطام هو أوّل تجربة للطفل مع كسر العادة، وإذا ما بلغ وأصبح مكلّفاً بالصيام فإنّه يمارس فطاماً من نوع آخر، أي أنّنا بالفطام أو الصيام نبدأ بصناعة النفوس المقاومة الكبيرة.
وإذا كانت النفوسُ كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ
فالفطام والصوم أو أيّة محاولة لكسر العادة واجتناب الوقوع تحت تأثيرها رياضة ذات فوائد جمّة. يقول علي (عليه السلام): «وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر».
2- المتعة واللذّة:
هناك جملـة من المتع واللذائذ والشهوات الحسِّيّة التي تدخل البهجة إلى النفس، كالطعام والشراب والجنس، والحصول على المال، واكتساب القوّة والقدرة لتلبية هذه الحاجات والتمايز على الآخرين.
كما أنّ هناك متعاً ولذّات روحـيّة؛ كالفوز والنجاح والإنجاز والإبداع، وإسعاد الآخرين، ورضا الوالدين، ورضا الله، والإستقامة، والقيام بأعمال البرّ والإحسان والخير والصلاح.
وقد عملت الثقافة الغربية على تكريس مبدأ اللذّة، فلقد اعتبر (فرويد) الإرضاء الحرّ للرغبات الجنسية شرطاً أساسياً لسلامة النفس، وأنّ الذين يصابون بأمراض نفسية إنّما يعانون من كبت غريزة اللذّة.
وقد اتّضح أنّ إشباع الرغبات والمتع الغريزية قد يؤدِّي إلى اللذّة الجسدية، لكنّه يتسبّب في آلام أيضاً، فالبغاء أو الزنا يخلق مشاكل جسدية ونفسية كثيرة، وقد تبعث الخمرة على النشوة لكنّ مخاطرها كبيرة، وهكذا الحال بالنسبة للمخدّرات والسرقة والجريمـة. ولذلك جاء في الحـديث: «مَن تسرّع إلى الشهوات، تسرع إليه الآفات».
يقول عالم النفس (الكسيس كارل): «هـناك اليوم أشخاص كثيرون يعيشون مما يقرب من الحياة الحيوانية، يبحثون عن القيم المادية، ولهـذا السبب فإنّ حـياة هؤلاء أرذل كثيراً من حياة الحـيوانات، لأنّ القيم المعنوية هي الوحيدة التي تمنحنا الضياء والسعادة».
فالضياء، وهو نور القيم والأخلاق والدين، لاينبعث من اللذائذ المحرّمة. والسعادة، وهي الشعور بالراحة النفسية والطمأنينة القلبية، لاتتأتّى من خلال المعاصي والذنوب، فكم من الذين يمارسون هذه المتع والشهوات، يحدّثونك عن القلق، وتأنيب الضمير، والرغبة في التخلّص من الحياة، والشعور بالتعاسة الكاملة، فأين هي ثمار لذّاتهم؟!
فاللذّة الحقيقيّة هي التي يجتنيها الإنسان من الأشياء التي أحلّها الله له، فأكل العنـب مثلاً لذيذ، لكنّ صـناعة مادّة مسكّرة من العنب، قد تجلب لذّة السكر، لكنّها تجلب معه مضار كثيرة، سنتعرّف عليها لاحقاً، أي يصحّ أن نقول عنها أنّها (لذّة آثمة) أو (لذّة محرّمة) أو (لذّة مؤلمة) وحتّى لو لم نشعر بألمها المادِّي، فإنّ ألمها الروحيّ والنفسي كبير.. يكفي أن تشعر أنّك تعصي الله فيما أمرك حتّى تشعر بالألم العميق.
إنّ القيم والأخلاق والدين عاصم يحفظ لك – بعلامات مروره وإشاراته الضوئية – سلامتك وسلامة الآخرين، ويقيك الحوادث المؤسفة.. وينجيك من المزالق والمطبات والأخطاء.. فهو صمام أمان.. وقارب نجاة. وبدون الإلتزام الديني والخلقي لا يمكن السيطرة على الإنسان. فقد ورد في الحديث: «ولع النفس بالشهوات يغوي ويردي»، وجاء أيضاً: «إذا غلبت عليكم أهواؤكم أوردتكم موارد الهلكة».
فلابدّ للشاب أو الفتاة من أن يضبطا لذاتهما، ولا يُطلقا لها العنان، أي أن ينفّسا عنها عبر القنوات الطبيعية التي أحلّها الله تعالى، فما من حاجة أساسية وغريزية إلاّ وقد رسم الله طريق تلبيتها من حلال.
تلفّت يمنة ويسرة لترى أنّ الذين يبحثون عن المتع المنحرفة واللّذّة المحرّمة يعانون من آلام كثيرة، فهم ـ على سبيل المثال ـ ينشدون الهدوء والراحة والسعادة، لكنّهم يعيشون في الواقع الأرق والقلق والهموم والأمراض النفسية التي تعجز عيادات الطبّ النفسي أحياناً عن إيجاد علاج شاف لها، بل تراهم السبب في الكثير من الآلام التي يسببونها لغيرهم. يقول الحديث الشريف: «يستدلّ على شرّ الرجل بكثرة شرهه وشدّة طمعه».
3- الحرِّيّة والجريمة:
لا نتحدّث هنا عن الحرِّيّة المنضبطة فهي طموحنا جميعاً، وقد عمل الإسلام على تحرير الإنسان من أي قيد يشلّ إرادته ويغلق عقله، بأن جعله عبداً لله فقط، ورفض أيّة عبودية أخرى، ليعيش الإنسان حرِّيّته في حدود ما رسمه الله له.
أمّا الحرِّيّة المنفلتة.. أو التي لاتراعي قيداً ولا شرطاً ولا نظاماً، أو تلك التي أباحها القانون الغربي في الجنس والخمر في سنّ معيّنة، فإنّنا لا نعتبرها حرِّيّة، فكلّ ما يعرّض الإنسان والمحيطين به إلى المخاطر والأذى فهو فساد، وهو ليس بحرِّيّة، بل هو قيد واستعباد وأسر.
فمدمن المخدّرات ـ مثلاً ـ الذي لا يتمـكّن من الإقلاع عنها، مقيّد بقيد شديد، وهو عبد للعقار الذي يتعاطاه، لأنّه يسيّره كما يريد، وهو يستجيب له كلّما ألحّ عليه، مثلما كان يفعل (السيِّد) بـ(العبد) أيّام الرقيق.
ولذلك فعندما نقرن بين (الحرِّيّة) وبين (الجريمة) فلأنّ هذا هو الذي يحصل الآن، ففي قبال أيّة حرِّيّة مطلقة تجد ثمة جريمة أو عدّة جرائم. فحرِّيّة الجنس تقابلها جرائم: اختلاط الأنساب، الإجهاض، الإغتصاب، الإعتـداء الجنسي على الأطفال، الشذوذ الجنسي، ناهيك عمّا ينجم من ممارسة هذه الحرِّيّة من أمراض أعيت الطبّ في علاجها.
إنّ من حقّ كلّ شاب وفتاة أن يعيشا إنسانيتهما بلا تعسّف ولا قمع ولا اضطهاد، لكن ليس من حقّهما أن يسيئا إلى هذا الحقّ، فالحـرِّيّة التي يدعو إليها الإسلام وننادي بها ليست التي تنتهي عندما تبدأ حرِّيّة الآخرين فحسب، بل الحرِّيّة التي لا تعدّي ولا ضرر فيها على صحّة وسلامة وأخلاق الفرد نفسه.
يقول بعض المعنيين بتربية الشباب: «إنّ الذين ينسجمون مع قرارات الخلق، ومعايير المجتمع، إنّما يمتازون بوجدان هادئ وضمير مطمئن، وهؤلاء يتمكّنون من أن يقضوا عمرهم براحة مع سلامة المعنويات وراحة البال. وبعكسهم المصابون بإنحرافات، والذين يميلون إلى الأساليب غير القانونية والأخلاقية والمكبوتون».
وهذا يعني أنّ الحرِّيّة المنفلتة أو المطلقة لا تحقق السـعادة، كما هو تصوّر بعض الغربيين، وبعض الشرقيين الذين يعيشون الكبت والحرمان، بل الحرِّيّة الملتزمة هي التي تحقق ذلك.
4- الإرادة والغريزة:
يشترك الإنسان مع الحـيوان في عدّة غرائز، كغريزة الغضب والعنف، وغريزة الجنس، وغريزة حبّ الطعام، ويختلف عنه في أنّه قادر على السيطرة على غضبه إذا هاج (والكاظمين الغيظ)(آل عمران/ 134). وقادر على التحكّم بفرجه من خلال التعفّف وتوظيف غريزة الجنس فيما أحلّه الله من تشريع الزواج (والّذين هم لفروجهم حافظون * إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين * فمَن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) (المؤمنون/ 5-7). وقادر على التحكّم ببطنه من خلال الصـيام بالامتناع عن الأطعمة المحـلّلة، أو الامتناع عن الأطعمة المحرّمة (كلوا واشربوا ولا تسرفوا)(الأعراف/ 31).
فـ(الغريزة) عند الانسان كحالة حيوانية، تقابلها (الإرادة) كحالة إنسانية. والإرادة هي التي تحدّ جموحنا، وتقف حكماً حكيماً لحسم صراع الرغبات المتصارعة فينا. ويرى عالم النفس (يونغ) أنّ مقابل كلّ رغبة، وكلّ احساس وعاطفة توجد حالة ضدّ، وهي تكمل إحداها الأخرى، ويسمّي ذلك بـ(قانون التكامل). ويعتقد (يونغ) أنّ الشخص العصبي هو الذي تكون لديه إحدى هذه الحالات أو الإحساسات، أو العواطف المتضادّة من طرف واحد، أي ليس هناك ما ينظّمها أو يكبحها.
وفي مفاهيمنا الإسـلامية، فإنّنا نصطلح على ذلك بالتوازن والإعتدال، فالإرادة وهي قدرة باطنية تحتاج إلى تدريب وتنمية، هي التي تخفّف من غلواء الشهوة واندفاعها بالاتِّجاهات الخاطئة، فهي كالمقود في السيارة يعيدها إلى الطريق إذا انحرفت عنه، وكالكابح الذي يتحكّم بها عند الإنزلاق.
5- الشهوة والذلّة:
كثيراً ما جرّت الشهوة الطاغية إلى ذلّة، حتّى ليمكن القول إنّ الذلّة هي رفيق مرافق للشهوة فلا تتركها لوحدها، والسبب في ذلك بسيط، فالشهوة حينما تستولي على إنسان فإنّها تسترقّه، أي تستعبده حتّى يلبّي نداءها، ولأجل أن يصل إلى إشباع الشهوة أو النزوة أو الرغبة الملحّة، فإنّه يقدّم بعض أو كلّ ماء وجهه أحياناً.
جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «لا ينبغي أن يكون للمؤمن حاجة تذلّهُ» أي لا ينبغي أن يقع أسير عادة أو إدمان تجعله يضحّي بسمعته وبشخصيّته وبعزّته من أجل نيلها أو بلوغها.
ففي أحد السجون كان السجين صلباً عنيداً لم يتمكّن الجلاد من انتزاع اعتراف منه، لكنّه لمّا كان مدخّناً مدمناً على التدخين، ألحّت عليه الرغبة في التدخين فانهار واعترف.
وقد أراد الله العزيز للمؤمن أن يكون عزيزاً دائماً، كبيراً دائماً.. فلا تستصغره الرغبة أو تذلّه الحاجة. ففي الحديث: «لقد فوّض الله للمؤمن أموره كلّها ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً».
ولعلّك اطّلعتَ على قصص بعض المدمنين للمخدّرات، ورأيت كيف أنّهم مستعدون للتفريط بكلّ شيء من أجل أن ينالوا جرعة منها، حتّى أنّ بعض الفتيات المدمنات كنّ مستعدّات لبيع أجسادهنّ مقابل الحصول على عقار مخدّر.
6- الحلال والحرام:
تمثل الشريعة الإسلامية في داخل كلّ واحد من أتباعها إشارات (المسموح) و(الممنوع).. أي أنّها تخطّط لنا طريق السير في الحياة والسعي في مناكبها، إلاّ أنّ ثمة حدوداً محدودة، اصطلح عليها القرآن (حدود الله) أمرنا أن لا نتعدّاها (تلك حدود الله فلا تقربوها)(البقرة/ 187). ولو تأمّلنا في كلّ (ممنوع) في الشريعة، لرأينا ما يلي:
أ. أنّه ينطوي على ضرر أو أكثر سواء أدركنا ذلك الضرر أو لم ندركه.
ب. إنّ المنع ليس لحماية الشخص من نفسه فقط، بل لحماية الآخرين الذين يلحق بهم الضرر أيضاً.
ج. المنع امتحان لطاعة الإنسان وامتثاله، أو ارتكابه للممنوع جرأة على الله العظيم الذي منعنا فخالفناه.
د. إنّ ارتكاب أي ممنوع يشجّع على ارتكاب ممنوعات أخرى.
فلقد اتّضح أنّ بعض المدمنين على المخدّرات كانوا في فترة سابقة من المدمنين على التدخين أو على شرب الخمر.
ولذا فإنّ ثقافة الحـلال والحرام التي يـتربّى عليها الشاب أو الفتاة منذ وقت مبكر، تفعل فعلها في سلوكهما المتأخر، فإذا أقدما على محرّم تذكّرا أنّه اجتراء وتجاوز وتعدّ على الحدود، وانّه مفسدة لهما ولغيرهما، أي أن يكون لديهما جهاز تحسّس مانع من اقتراف المنـكر، وقد تبيّن من دراسة سلوك المدمنين أنّ أحد أسباب إدمانهم هو ضعف أو إنعدام الشعور الديني الواقي من الإنحراف، أي ضمور الوازع أو الضمير أو ما يسمّى بـ(التقوى).
7- الأعمال والنتائج:
ومن الأمور التي تجعلنا نقدم على عمل أو نمتنع عنه هو التأمّل في نتائجه، فإذا كانت طيِّبة وخيِّرة ونافعة أقدمنا عليه، وإذا كانت سيِّئة وخبيثة ومضرّة اجتنبناه، وتلك هي الحكمة في شخصيّة الشاب أو الفتاة، فحساب النتائج عملية عقلية، وهو دليل الوعي والتصرّف المتزن، ولذلك أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع هذا الإسلوب الحكيم في كلّ عمل نقوم به «إذا هممت بأمر فتدبّر عاقبته فإن كان رشداً فامضِ وإن كان غيّاً فانتهِ».
فتدبُّر العاقبة، والموازنة بين المفاسد والمنافع، يحدّ من الإندفاع نحو المنكر، فشارب الخمر حينما يقف على النتائج المترتبة على السكر، سيرى أنّها مذهلة ومروّعة ومدمّرة، وقد توقّف بعض المدمنين فعلاً بعد ما اطّلعوا على ما يسبِّبه من فظائع.
غير أنّ الربط بين العمل ونتائجه قد يكون نافعاً في المراحل الأولى للإبتلاء بآفة من الآفات التي سنأتي عليها، وإلاّ فبعد أن تستفحل الآفة ويستعر أوارها وتأخذ مأخذها من أعصاب المدمن وشهـوته، فإنّه لا يربط بين العمل والنتائج الكبيرة من حيث ما ينتهي إليه من نهايات مؤسفة، وإنّما يربط بين العمل وبين نتائجه الآنية التي يقطف فيها اللذّة التي تشبه عود الثقاب فهي سريعة الإشتعال سريعة الإنطفاء.
ولعلّ من بين أهم عوامل تدبّر العاقبة، حساب ما يجرّه الإدمان من إثم سيبقى يلاحقه إلى يوم الدين، في حين أنّ اللذّة تفنى وتندثر.
عوامل إنحراف الشباب:
بعد التعرّف على بعض المفاهيم التي ترتبط بموضوع الآفات التي تفتك بالشباب، لابدّ أيضاً من التعرّف على العوامل التي تؤدِّي إلى إنحراف الشباب بصفة عامّة، بحيث يلجأون إلى الأساليب الملتوية والضارّة لمعالجة انحـرافهم، وهي عوامل كثيرة نلتقط أهمّها:
1- التربية الأسرية: فالبيت الذي يضطهد أبناءه، والذي تنخر فيه الخلافات والصراعات الدائمة بين الأبوين، والذي يقع فيه الإنفصال والطلاق، والذي ينشغل عنه أحد الأبوين أو كلاهما في أعمال تستهلك الوقت، أو الذي لا يمارس فيه الأب والأم مسؤولية المتابعة والمراقبة والمحاسبة، والذي يدمن فيه الأب المخدّرات، بيت مرشّح لتسرّب وتسيّب أبنائه وبناته ووقوعهم في أحضان الإنحراف.
2- رفاق السُّوء: ولهم التأثير الأكبر بعد الأسرة، فإذا وقع الشاب أو الفتاة في قبضة شباب منحرفين أو فتيات منحرفات، فإنّ عدوى الإنحراف سـتنتقل إليهم إن عاجلاً أو آجلاً. ويزداد الطين بلّة إذا كان البيت متصدّعاً من الداخل، فإنّ شلّة (الأصدقاء) ستقوم بدور التعويض السلبي لقيادة الشاب إلى التهلكة.
فمن خلال قراءتنا لقصص المدمنين اتّضح أنّ أحد أهمّ الأسباب الدافعة إلى الادمان كانت علاقات الصداقة السيِّئة التي زيّنت لهم المنكر.
3- وسائل الإعلام: وذلك من خلال ما تبثّه أحياناً من أفلام العنف والسرقة والعري والجنس والبحث عن المجد الفارغ، والسلطة القائمة على القهر والابتزاز، وما تروّج له من صور سيِّئة عن واقع الشباب وانغماسهم في الملذّات، وما تبثه من قصص بعض المتشائمين واليائسـين والمحـبطين الذين يجدون ملاذهم في التهام المخدّرات والإقبال عليها بشراهة، وانعدام وسائل التوعية الرشيدة في المقابل.
4- الوضع المادي: لقد اتّضح من خلال دراسات ميدانية أجريت على عينات من المدمنين أنّ (الغنى) و(الفقر) كلاهما عاملان من عوامل الإدمان، ففي حين يجد الثري المال مبذولاً للاغراق في الشهوات والإقبال على المخدّرات، يبحث الفقير عما يهرب فيه من واقعه، وإذا تورط في تعاطي المخدّرات لسبب أو لآخر فإنّه سيجد نفسه مضطراً للسرقة حتى يحصل على المال الذي يؤمّن له المخدّر الذي أدمنه.
5- الوضع النفسي المضطرب: والناتج عن فشل في علاقة عاطفية، أو فشل دراسي، أو عقدة نمت وترعرعت في بيت يمارس سلطة خانقة، أو ازدواجية سلوكية، أو إنسحاق أمام سلطة سياسية باغية، أو تكرّر الاحباطات والخيبات، وما إلى ذلك من عوامل الضغط النفسي التي تدفع إلى الإنحراف.
لائحـة الآفات:
1ـ آفة التدخين:
ونبتدئ بالتدخين لا لأنّه الأخطر بين الآفات الأخرى، فكلّ آفة لها درجتها من الخطورة، لكنّ التدخين كثيراً ما كان منفذاً للإدمان على آفات أخرى، فهو النار الصغيرة التي تتلوها خطوات نحو جهنّم.
ونبدأ به نظراً لشـيوعه بين الشـباب، حتّى أصبح جزءاً من (موضة العصر) أن يدخّن الشـاب ليماشي نظراءه من المدخنين، وليثبت لهم أنّه قد أصبح كبيراً، وها هو يدخل عالم الكـبار من باب الدخان!!
وللأسف فإنّ الشاب الذي يتصوّر أنّ الرجولة هي (دخان) فانّ رجولته سرعان ما تندثر في الجوّ الإجتماعي كما يندثر الدخان في أوّل هبّة ريح. فللرجولة مقاييس واعتبارات نأمل من كلّ شاب التعرّف عليها من خلال نظرة الدين إلى الرجل، ونظرة المجتمع الواعي المنصف إلى الرجل، فالرجولة علم وأخلاق وعمل وإبداع وبطولة ومروءة، وليس دخاناً تتناثر حلقاته في الفضاء.
وقبل أن نتعرّف على مضارّ التدخين، دعونا نتعرّف على فوائده.
فهل في التدخين فوائد؟
يقول بعض المدخنين إنّه يجلب الراحة النفسية، فأنت حينما تنفث دخان السيجارة، فكأنّك تنفث همومك معها.
ويقول آخرون أنّ التدخين يساعد على الإنتاج والإبداع والمذاكرة خاصّة بالنسبة للكتّاب والأدباء والطلبة، أي أنّها تخلق جوّاً مساعداً.
ويقول صنف ثالث، أنّها ـ أي السيجارة ـ عامل من عوامل التسلية والإستمتاع.
وهذه الفوائد المدّعاة إن هي إلاّ أوهام نفسية يتخيّلها المدخنون، أو يضعونها كمبررات لإستعمال التبغ، وإلاّ ما علاقة نفث الهموم باحتراق السيجارة؟
ألا يمكن أن نحصل على الراحة النفسية بأساليب أكثر حضارية، وأنفع للصحّة، وأوفر للجيب؟ أليس إستنشاق الهواء الطلق النقي والقيام بعمليات شهيق وزفـير تساعدان على تنقية الرئتين من هوائهما الفاسـد، وبالتالي تنقِّي الدم وتنزاح بعض الهمـوم وينشرح الصّدر؟ هذا فضلاً عن أنّ الأدلّة العلمية تؤكِّد أنّ التدخين لايسبب الإسترخاء ـ كما يتوهّم المدخنون ـ بل يؤدِّي إلى القلق والعصبية والتململ، وكلّها مظاهر تجدها عند عامّة المدخنين.
ثمّ أين وجه الربط بين الإبداع وبين الدخان؟ وهل كان المبدعون دائماً مدخـنين؟ وهل الإبـداع عملية تأمّل داخلي أم إحتراق خارجي؟ إنّ لحظات الصفاء والتأمّل والتفكير قد تحتاج إلى أجواء نقيّة لا يلفّها ضباب الدخان، فما هي إلاّ العادة تجعل الأديب أو الكاتب يتخيّل أنّ ابداعه قرين سيجارته.
وهكذا بالنسبة لمن يراها شكلاً من أشكال الإستمتاع في جلسة أو مناسبة عائلية أو اخوانية، فهل عدم المدخن وسائل الإستمتاع الأخرى، فلم يبق إلاّ هذا التسميم للجوّ المحيط وللجوّ الداخلي للرئتين؟!
مضارّ التدخين ومخاطره:
1- إنّ مكوّنات السيجارة ـ كما يقول الخبراء ـ هي: (الاسبتين والأمونيا) اللتان تدخلان في تكوين المنظفات، و(البوتان) وهو نوع من أنواع الوقود الخفيف، و(الميثانول) الذي يدخل في صناعة وقود الصواريخ، و(أوّل أوكسيد الكربون) الذي يخرج من عادمات السيارات، و(النيكوتين) وهو المادّة المسؤولة عن حدوث الإدمان في التدخـين، كما ثبت أنّها مادّة مسرطنة، و(القار) وهو المادة المستخدمة في رصف الشوارع!!
2- التدخين يزيد من خطر الإصابة بما يلي: السكتة الدماغية، الأزمات القلبية، الربو الشعبي، التهاب الشعب الهوائية، النفاخ الرئوي، تمدّد الشعب والحويصلات الهوائية في الرئة، وسرطان الرئة.
3- التدخـين يسهم في الإصابة بتصلّب الشرايين، وارتفاع ضغط الدم، ويزيد من خطرهما على القلب والمخ، ومختلف أجهزة الجسم.
4- التدخين يسبب فقدان الشهية.
أرقام مخيـفة:
- إنّ الأمراض التي يسببها ألف طن من التبغ تتطلّب علاجاً تقدّر تكاليفه المادية بحدود (11) مليون دولار أميركي.
- يؤكّد أطباء الرئة في برلين أنّ شخصاً واحداً يموت في العالم كلّ ثمان ثوان بسبب التدخـين. كما أنّ هناك حوالي (4) ملايين شخص يموتون سنوياً في سن مبكرة من جرّاء ذلك. جاء ذلك في مؤتمرهم السنويّ الأخير.
- يقدّر علماء بريطانيون من فريق علمي تابع لجامعة بريستول في انجلترا أنّ كلّ سيجارة تقتطع في المتوسط (11) دقيقة من عمر المدخنين الذكور. وأشار الفريق إلى أنّ أعمار المدخنين تقلّ بنحو ستّة أعوام ونصف عن أعمار غير المدخنين.
- خطر التدخين يشتد بدرجة كبيرة لدى الشباب والصبية الذين يتورّطون في هذه العادة السـيِّئة تقليداً للكبار وإثباتاً للرجولة، ذلك أنّهـم يتعرّضون للأزمات القلبية، والسكتات الدماغية في الثلاثينيات والأربعينيات.
- الدخان المنبعث من أنوف المدخنين وأفواههم يلوّث الهواء الذي يستنشقه غير المدخنين، فيتعرّضون لنفس المخاطر التي تهدّد حياة المدخنين. ويعرف ذلك بـ(التدخين السلبي)، وهو يمثِّل إعتداءً صارخاً على حقّ غير المدخنين في إستنشاق هواء نظيف خال من التلوّث، ويجعلهم مدخنين رغم أنوفهم.
- ازداد عدد المدخنات عشرات الأضعاف، حيث تتصور المرأة أنّ التدخين مظهر من مظاهر الحرِّيّة الشخصية، وأنّه يضعها على قدم المساواة مع الرجل.
- ينفق الكثيرون حوالي نصف دخلهم في شراء السجائر التي يدخنونها.
- تشير الأدلّة إلى أنّ السجائر التي تباع في الدول النامية تحتوي على ما يقرب من ضعف كمِّية القطران والنيكوتين الموجودة في مثيلاتها في أوروبا وأميركا.
- تؤكِّد البحوث أنّ ثلث المدخنين ـ على الأقل ـ يلقون حتفهم بسبب التدخين.
- يقول الخبراء: ليس هناك أيّ أمل في العثور على سيجارة مأمونة العواقب.
- إنّ الوقت الإضافي الذي يضيّعه المدخنون يقلّص معدل الإنتاج.
- حسب منظمة الصحّة العالمية، فإنّ التدخين مسؤول بشكل مباشر عن نسبة 30% من الوفيات بالسرطان.
- توصّل عدد من الباحثين الأميركيين إلى أدلّة جديدة على أنّ تدخين الاُم أثناء الحمل يزيد من إحتمالات أن يدخّن طفلها في سن صغيرة!
- تحتوي السجائر على أعلى تركيز من القطران، يليها السيجار، ثمّ دخان الغليون والنارجيلة.
كيف يحدث الإدمان؟
يقول الخبراء المختصّون والأطبّاء: «خلال عشر ثوان فقط من إستنشاق الدخان من السيجارة تدخل جرعة من النيكوتين مباشرة وبسرعة إلى المخ. وهذا الإندفاع يؤدِّي إلى إفراز عدد من المواد في المخ. ومع مرور الوقت يودِّي وجود هذه المواد في المخ، خاصّة الدويامين والنورأدرينالين، إلى أن يصبح المدخّن مدمناً على النيكوتين».
يقول د. كريس سيتل وهو ممارس عام في مدينة مانشيستر البريطانية، وخبير في التدخين، أنّ معظم المدخنين لا يواصلون التدخين بحكم العادة، ولكنّهم يفعلون ذلك لأنّهم أصبحوا مدمنين على النيكوتين.
إنّك حين تضعف فلا تقول (لا) لمدخّن يقدّم لك سيجارة.. فإنّك تقضي على نفسك بأن تضع قدمك على طريق الإدمان.
لا تقل: (واحدة فقط) أو (القليل لا يضرّ) أو (هذه المرّة لا بأس) أو (هذا مجرّد تسلية) أو (الكثير من أصدقائي يفعل هذا.. هل بقيت عليَّ ؟) فهذه هي المقدّمات التي جرّت إلى الإدمان.
مكافحة التدخين وتحريمه:
هناك عدّة إجراءات اتّخذت لمكافحة التدخين، لكنّنا لا نعتبر الإجراء الذي اتّخذته شركات الدخان في الكتابة على علبة السجائر (التدخين يضرّ بصحّتك ننصحك بالإمتناع عنه) منها، ذلك أنّ هذه العبارة ـ إذا كان هناك مَن يقرأها من المدخنين ـ ليست إلاّ عبارة ترغيب، فحال علبة السجائر الجميلة حال الفتاة المتبرّجة التي تقول لك لا تقترب منِّي.. إنّها تدعوك إليها بصدّها عنك.
فمن الإجراءات المتّخذة، محاصرة المدخنين في كلّ مكان، حيث تتّسع رقعة الأماكن التي تحظر التدخين ولم تعد المواصلات والمطارات والمدارس ودورات المياه وحدها التي لا تسمح بالتدخـين، بل المصانع والمتاجر والمساجد وغيرها، وهو إجراء جدير بالتقدير على الأقل بالنسبة لحديثي العهد بالتدخين، وإلاّ فالمرء حريص على ما مُنع..
ومنها إعلانات تلفزيونية تظهر مضار التدخين بشكل مصوّر وحيّ، ومنها خطوط هاتفية مجانية، ومواقع على شبكة الانترنيت، لتقديم المساعدة للأشخاص الراغبين في الانقطاع عن التدخين. ومنها اخـتراع لعلبة سجائر ناطقة تطلق تحذيراً للمـدخِّن من الإصابة بالسرطان فور فتح العلبة. ومنها وضع صور لأعضاء بشرية تالفة جرّاء التدخين على علب السجائر، ومنها زيادة أسعار السجائر لتقليل مبيعاتها.
ومع تحفّظنا على الإجراءات التي لم تتخلّ عن (علبة السجائر) فإنّنا نرى أنّ هذه المكافحة الإعلامية لا تفعل فعلها، أو ربّما تؤدِّي إلى نتائج متواضعة محدودة، ما لم يبادر المدخن نفسه إلى اتّخاذ القرار المناسب وهو العزم على الإقلاع عن التدخين، وتنفيذ العزم وعدم التراجع عنه، فهذا هو الإجراء الأهم.
أمّا الرأي الشرعي في مسألة التدخين، فنأخذ منه القول بالحرمة، حيث يستند القائلون بالتحريم إلى قوله تعالى: (يحلّ لهم الطّيِّبات ويحرِّم عليهم الخبائث)(الأعراف/ 157). معتبرين التدخين من الخبائث.
ومنهم مَن يستند إلى قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما) (البقرة/ 219). فكلّ ما كان إثمه وضرره أكبر من نفعه فهو حرام. وضرر التدخين ـ كما هو ثابت طبِّياً ـ أكبر بكثير من منافعه. وإذا عرف الإنسان بأنّ التدخين سوف يوقعه في مرض مميت ولو بعد عشر سنين، بحيث صار لدى الأطباء واضحاً أنّ التدخين يؤدِّي إلى التهلكة فعندئذ يحرم إستعماله.
وقد وصل الأمر ببعض الفقهاء إلى إصدار فتوى يحق للزوجة فيها الطلاق إذا تضرّرت من تدخين زوجها.
ويشير الفقهاء أيضاً إلى مخاطر التدخين السلبي، وهو إستنشاق الدخان من قبل غير المدخنين، والذي يقال إنّ ضرره أكثر من التدخين ذاته، ويرون أنّ الحرمة تأتي من ضررين: ضرر شخصي يصيب المدخن نفسه، وضرر إجتماعي يصيب المحيطين به. فلو كان المدخن في غرفة أو سيارة أو مصعد ومعه شخص أو شخصان أو أكثر فلا يجوز له التدخين لأنّ المكان مشترك، فكما أنّ له حقاً فيه فإنّ لهم فيه حقاً أيضاً.
والغريب أنّ أغلب المدخنين يدركون خطر التدخين، وتراودهم الرغبة في الإقلاع عنه، وقد يحاولون ذلك مراراً لكنّهم يضعفون أمام السيجارة، الأمر الذي يعني الترك غير الجاد،
وغير النابع من الإرادة، وإلاّ ففي الحديث «ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة». والنيّة هنا هي الإرادة.
وقد وضع بعض المهتمين في علاج التدخين طريقة للإمتناع عنه تقوم على التخطيط للإقـلاع، وتحـديد تأريخ لهذا الإقلاع، والتفكير الدائم بالأمور التي تجعله تقلع عنه، كأن يكتب الأشياء التي يكرهها في التدخين، والأخرى التي يحبّها فيه، والأخرى التي يكسبها منه ليوازن ويقارن بينها. وأن يتحدّث مع مَن يستطيعون مساعدته كالطبيب والصيدلي والمرشد الصحّي.
وإذا كنتَ تدخن مع القهوة فجرّب مشروباً آخر حتى لا تحصل حالة اقتران، وابحث عن المنتجات التي تحلّ محل النيكوتين، وتفاخر بإقلاعك عن التدخين، بل وكافئ نفسك على تركه.. أطفئ السيجارة بسحق عقبها، وارم بعيداً مطفأة السجائر والولاعات.
هذا وقد أكّدت دراسة طبّية عالمية أنّ التحسّن في صحّة الفرد يبدأ فور إقلاعه عن التدخين، وأنّ هناك تغييرات فسيولوجية واكلينيكية إيجابية تطرأ على الدم ووظائف الجسم بعد عشرين دقيقة فقط من إطفائه للسيجارة، وانّ الدم يتخلّص من النيكوتين بعد (8) ساعات، موضّحة إنّ الآثار السلبية للتدخين تختفي تماماً من جسم المقلع عن التدخين بعد عشر سنوات، حيث يصبح كما لو أنّه لم يدخّن من قبل.
2- آفة الخمر:
الآفة الثانية التي تفتك بالشباب، فتعطّل عقولهم وتتركهم في غيبوبة، هي الخمر، وهو في اللّغة «كلّ ما خامر العقل وحجبه». وقد حرّمها القرآن في قوله تعالى: (إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان فاجتنبوه) (المائدة/ 90). والرجس كلّ ما اشتدّ فحشه وقبحه.
هذا الرجس وهذه الآفة والطامّة الكبرى، لها أضرار كثيرة، نذكر منها:
أ. يساعد على تسبب جلطات القلب والذبحة الصدرية وخاصّة مع التدخين، فكلتا المادتين تساهم في انسداد الشرايين التاجية، فالخمر يرسّب الدهون والكلوليسترول، والدخان يسبب إنقباض الشرايين وتضييق مجراها، والخمر، علاوة على ذلك، يصيب عضلة القلب بالتسمّم.
ب. يقضي على حيويّة المعدة حيث يصيبها بالقرحة، ويؤذي الكبد أيضاً.
ج. يؤدِّي أحياناً إلى الإصابة بالجنون وإلى الإنتحار لما يسبّبه من آلام عصبية.
د. يكسـب الطبع صفة الخبث ويذهب الحشمة والوقار والإحترام.
هـ. يوقع العداوة والبغضاء، ويصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة وعن الواجبات الدينـية الأخرى، وذلك قوله تعالى: (إنّما يريدُ الشّـيطانُ أن يوقعَ بينكم العـداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون) (المائدة/ 91)؟!
و. الهلوسات التي تعتري المخمور .
ز. الرجفة والصرع والقيء والأرق.
ح. إلتهاب المخ والإصابة بضعف الذاكرة.
ط. الشكّ في الزوجة الفاضلة.
ي. الإعتقاد بأنّ كلّ الناس ضدّه.
ك. الضعف الجنسي.
ل. يتسبّب في أمراض العضلات.
م. يتسبّب في العمى.
ن. وإذا شربته الحامل فإنّ الجنين يمكن أن يصاب باضطرابات مختلفة وتشوّهات، وتأخير في النمو الجسمي والنفسي والذكاء.
يتبع
تعليق