إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

دراسات في مناهج التفسير 1و2و3و4و5

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دراسات في مناهج التفسير 1و2و3و4و5

    الدرس الأول: التفسير والتأويل
    أهداف الدرس

    1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما
    2- أن يدرك الحاجة إلى التفسير


    11
    التفسير

    أ- لغة:
    التفسير من فَسَرَ، بمعنى أبان وكشف.

    ويقال "فسّر" للدلالة على التكثير، تنزيلاً لما يعانيه المفسّر من كدّ الفكر لتحصيل المعاني الدقيقة.

    ب- اصطلاحاً: هو: إزاحة الإبهام عن اللفظ القرآني المشكل، أي المشكل في إفادة المعنى المقصود، أو الكشف عن الإبهام في الجُمل والكلمات القرآنية، وتوضيح مقاصدها وأهدافها.

    الحاجة إلى التفسير


    إذا كان القرآن الكريم قد أنزله الله نوراً وهدىً وتبياناً لكلّ شيء
    ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا1 ،﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ2 ،﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ3 ، وإذا

    13
    كان قد جاء ليكون بنفسه أحسن تفسيراً ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا4.
    فما هي الحاجة إلى علم التفسير؟
    يمكن الإجابة عن هذا السؤال بذكر الأسباب التالية:

    1- إنّ القرآن الكريم جاء تشريعاً للأصول والمباني، وأَجْمَلَ في البيان إيكالاً إلى تبيين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تفاصيل ما نُزّل إليهم.

    قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزلت عليه الصلاة ولم يُسمَّ لهم ثلاثاً، ولا أربعاً، حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الّذي فسّر لهم ذلك"
    5.

    2- احتواء القرآن على معانٍ دقيقة ومفاهيم رقيقة، مثل أسرار الخليقة والوجود وصفاته تعالى، وهي فوق مستوى البشرية آنذاك، ليقوم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتبيينها وشرح تفاصيلها.

    3- اشتمال القرآن على بيان حوادث غابرة وأمم خالية، جاء ذكرها لأجل العظة والاعتبار إلى جنب عادات جاهلية كانت معاصرة، عارضها وشدّد النكير عليها، مثل نهيه عن دخول البيوت من ظهورها
    6 ، ومسألة النسيء7... فقطعها من جذورها. وكل هذه الأمور جاءت مجملة بحاجة إلى شرح وبيان لا تتمّ إلّا من خلال التفسير بالمأثور.

    4- جاء في القرآن الكريم كلمات عربية غريبة صعبةالفهم على عامة الناس وهي على أفصح وأبلغ وجه، فكانت بحاجة إلى شرح وبيان وتفسير.


    14
    ولذا قال الراغب في المفردات: فالتفسير إمّا أن يستعمل في غريب الألفاظ نحو: "البحيرة" و"السائبة" و"الوصيلة" أو في وجيز كلام يبيّن ويشرح، لقوله: ﴿ مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ8 أو في كلام مضمّن بقصّة لا يمكن تصوّره إلّا بمعرفتها، نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ9 وقوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا10.

    التأويل

    حظي معنى التأويل باهتمام المحقّقين والمفسّرين منذ عهد بعيد، وقيل فيه كلام كثير. وجاءت لفظة التأويل سبع عشرة مرّة في القرآن، إحداها عند تقسيم آيات القرآن إلى مُحْكم ومتشَابَه
    11 ؛ أي في الآية السابعة من سورة آل عمران، يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ففي هذه الآية يُبيّن الله تعالى أنّ من في قلوبهم زيغ يتّبعون الآيات المتشابهة طلباً للفتنة ورغبة في تأويل المتشابه.

    وهناك موضوعات مهمّة في هذا البحث لا بدّ من التعرّض لها، وهي:


    15
    أ- معنى التأويل:

    في اللغة التأويل:
    من الأَوْل، وهو الرجوع إلى حيث المبدأ؛ فتأويل الشيء إرجاعه إلى أصله وحقيقته، فكان تأويل المتشابه توجيه ظاهره إلى حيث مستقرّ واقعه الأصيل.

    والتشابه قد يكون في كلام إذا أوجب ظاهر تعبيره شبهةً في نفس السامع، أو كان مثاراً للشبهة.

    وقد يكون التشابه في عمل كان ظاهره مريباً، كما في أعمال قام بها صاحب النبيّ موسى عليه السلام ، بحيث لم يستطع النبيّ موسى عليه السلام الصبر عليها دون استجوابه، والسؤال عن تصرّفاته تلك المريبة!

    ب- استعمالات التأويل في القرآن الكريم


    جاء استعمال لفظ "التأويل" في القرآن على ثلاثة وجوه:

    1ـ تأويل المتشابه: بمعنى توجيهه حيث يصحّ ويقبله العقل والنقل، إمّا في متشابه القول، كما في قوله تعالى:
    ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ12 أو في متشابه الفعل، كما في قوله:﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا13 ، ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا14.

    2ـ تعبير الرؤيا:
    وقد جاء متكرّراً في سورة يوسف في سبعة مواضع15.
    قال تعالى:
    ﴿َيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ16.

    3ـ مآل الأمر وعاقبته:
    وما ينتهي إليه الأمر في نهاية المطاف، قال تعالى:

    16
    ﴿وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً17، أي أَعوَد نفعاً وأحسن عاقبة.

    4- المراد الحقيقي والواقعي من الآية:
    وهو ما يعبّر عنه ببطن القرآن، ولا يعتمد التأويل على ظاهر اللفظ ولا على القرائن اللفظية، ومن هنا كان خطاب النبي يوسف عليه السلام:
    ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا18فإن تفسير الرؤيا أنّه رأى أحد عشر كوكباً ورأى الشمس والقمر كل ذلك رآه ساجداً له، ولكن بعد مرور الزمن والابتلاءات تمّ تأويل هذه الرؤيا بما لا يظهر من الألفاظ المستعملة في آية الرؤيا، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن"، سئل الإمام الباقر عليه السلام عن هذا الحديث فقال: "ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن يجري كما تجري الشمس والقمر"19.

    الفرق بين التفسير والتأويل


    كان التأويل في استعمال السلف مترادفاً مع التفسير، وقد دأب عليه أبو جعفر الطبري في "جامع البيان". لكنّه في مصطلح المتأخّرين جاء متغايراً مع التفسير، فالتفسير هو: رفع الإبهام عن اللفظ المشكل، فمورده: إبهام المعنى بسبب تعقيد حاصل في اللفظ.

    وأمّا التأويل: فهو دفع الشبهة عن المتشابه من الأقوال والأفعال، فمورده حصول شبهة في قول أو عمل، أوجبت خفاء الحقيقة (الهدف الأقصى أو المعنى المراد) فالتأويل إزاحة هذا الخفاء.

    فالتأويل هو: بيان المراد الحقيقي للآية التي لا تفهم من خلال الألفاظ، والتي تكون بعيدة عن القرائن اللفظية الظاهرة، والتفسير يكون برفع الخفاء


    17
    بالاعتماد على الظاهر من اللفظ والقرائن، بينما التأويل يكون بيان المعنى الحقيقي والواقعي من دون ذلك الاعتماد.

    التأويل عند الطباطبائي

    قال العلّامة الطباطبائي: "فسّر قوم من المفسّرين التأويل بالتفسير وهو المراد من الكلام... وقالت طائفة أخرى أنّ المراد بالتأويل هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ... وهذا المعنى هو الشائع عند المتأخّرين كما أنّ المعنى الأوّل هو الّذي كان شائعاً بين قدماء المفسّرين..."
    20 واستنتج العلّامة بعد ذكره وتفنيده لكلِّ الآراء، ما يلي:
    "إنّ الحقّ في تفسير التأويل أنّه الحقيقة الواقعية الّتي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة، وأنّه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها، وأنّه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ، بل هي من الأمور العينيّة المتعالية من أن يُحيط بها شبكات الألفاظ، وإنّما قيّدها الله تعالى بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهي كالأمثال تُضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع...، ولم يستعمل القرآن لفظ التأويل... إلّا في المعنى الّذي ذكرناه"21.

    ومن الشواهد على هذا الاستخدام لكلمة التأويل ما ورد في قصّتي "موسى والخضر" و"يوسف" وما شابه ذلك.

    ففي قصّة النبيّ يوسف:
    ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ22.

    18
    وبعد مضي سنوات طويلة وحوادث كثيرة، جاء تأويل هذه الرؤيا في السورة بالشكل التالي:﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا23.

    فما رآه النبيّ يوسف في الرؤيا يعود إلى سجود أبيه وأمّه وإخوته، وهذا التأويل والرجوع من قبيل رجوع المثال إلى الممثّل والواقع الخارجي.

    هل يعلم التأويل غير اللّه؟


    يثار السؤال المذكور في ضوء ما ورد في الآية السابعة من سورة آل عمران:
    ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب24. فقد وقع خلاف مهمّ حتّى في قراءة الآية وتلاوتها، وهو حسب قول البعض أهمّ اختلاف في القراءات وأعمقه معنى في القرآن كلّه. ويدور الاختلاف حول الوقف أو عدمه بعد كلمة "الله" في الآية الشريفة:﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ.

    فالقول بالوقف يعني أنّ علم التأويل عند الله وحده، وأما القول بالعطف فمعناه أنّ علم التأويل ليس لله وحده، وإنّما الراسخون في العلم لديهم علم بالتأويل أيضاً.

    يعتقد العلّامة الطباطبائي أنّ العلم بالتأويل لا يختصّ بالله تعالى وذلك استناداً إلى أدلّة من الآيات والروايات.


    19
    فمن الآيات القرآنيّة:

    ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ
    25 ولا شبهة في ظهور الآية في أنّ المطّهرين من عباد الله يمسّون القرآن الكريم، وهم آل البيت عليهم السلام:﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا26.

    ومن الروايات:


    عن بريد بن معاوية قال: "قلت للباقر عليه السلام: قول الله تعالى:
    ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال: يعني تأويل القرآن كلّه إلّا الله والراسخون في العلم، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد علّمه الله جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل، وما كان الله منزلاً عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، فقال الذين لا يعلمون: ما نقول إذا لم نعلم تأويله؟ فأجابهم الله: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا
    .27

    وعن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:
    "﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم نحن نعلمه"28.

    وعن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "نحن الراسخون في العلم، فنحن نعلم تأويله"
    29.
    هوامش
    1- سورة النساء، الآية: 174.
    2- سورة آل عمران، الآية: 138.
    3- سورة الجاثية، الآية: 20.
    4- سورة الفرقان، الآية: 33.
    5- الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني، تحقيق: علي أكبر الغفّاري: ج 1، ص 286، دار الكتب الإسلامية، 1986م.
    6- سورة البقرة، الآية: 189.
    7- سورة التوبة، الآية: 37.
    8- سورة المائدة، الآية: 103، والبحيرة هي الناقة إذا ولدت عشرة أبطن، شقّوا أذُنها وتركوها، فلا تُركب ولا يُحمل عليها، والسائبة: إذا ولدت خمسة أبطن، تسيّب في المرعى، فلا تردّ عن حوض ولا كلاء، والوصيلة: إذا ولدت الشاة توأمين ذكراً وأنثى، فلا يُذبح الذكر، ويقال وصلت أخاها فيتركونها لأجلها.
    9- سورة التوبة، الآية: 37.
    10- سورة البقرة، الآية: 189.
    11- المحكم هو ما لا يحتمل إلّا معنى واحد، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً متعدّدة، وعرّف الشيخ الطوسي المحكم بأنه: ما أنبأ لفظه عن معناه من غير اعتبار أمر ينضمّ إليه.. والمتشابه: ما كان المراد به لا يُعرف بظاهره بل يحتاج إلى دليل، وذلك ما كان محتملاً لأمور كثيرة أو أمرين، ولا يجوز أن يكون الجميع مراداً فإنّه من باب المتشابه، وإنّما سمّي متشابهاً لاشتباه المراد منه بما ليس بمراد. التبيان، الشيخ الطوسي، ج 1، ص 9.
    12- سورة آل عمران، الآية: 7.
    13- سورة الكهف، الآية: 78.
    14- سورة الكهف، الآية: 82.
    15- الآيات: 6ـ 21ـ 36ـ 44ـ 45ـ 100ـ 101.
    16- سورة يوسف, الآية: 6.
    17- سورة الإسراء، الآية: 35.
    18- سورة يوسف، الآية: 100.
    19- بصائر الدرجات، محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار، ص 195، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1381هـ.
    20- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 44 و49، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، ط 2، 1391هـ.
    21- م.ن، ج 3، ص 49.
    22- سورة يوسف، الآية: 4.
    23- سورة يوسف، الآية: 100.
    24- سورة آل عمران، الآية: 7.
    25- سورة الواقعة، الآيات: 77ـ 79.
    26- سورة الأحزاب، الآية: 33. انظر: تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 3، ص 55.
    27- تفسير العياشي، مصدر سابق، ج1، ص293، الحديث رقم: 646.
    28- م.ن، الحديث: 647.
    29- م.ن، الحديث 648.


    يتبع

  • #2
    الدرس الثاني: أصول التفسير
    أهداف الدرس:
    1- أن يتعرّف الطالب إلى أصول التفسير ومداركه
    2- أن يميّز بين أقسام أخبار الآحاد


    23
    تمهيد

    الظنّ على نحوين، ظنّ معتبر يمكن الاعتماد عليه، وظنّ غير معتبر منهيّ عنه لا يمكن الاعتماد عليه، لذلك لا يجوز أن يُعتمد في تفسير كلام الله تعالى إلّا على ما ثبت اعتباره وحجيّته كالظواهر الظنية، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنّ غير الحجّة، ولا على الاستحسان، ولا على غيرهما ممّا لم تثبت حجيّته، كقول المفسِّر قديماً كان أم حديثاً، موافقاً كان أم مخالفاً وذلك للنهي عن متابعة الظنّ.

    فقد ورد الكثير من الآيات والروايات المانعة عن القول بغير علم واتباع الظنّ والافتراء على الله تعالى، قال تعالى:
    ï´؟وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌï´¾1 وقال سبحانه: ï´؟قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَï´¾2 ويقول سبحانه: ï´؟وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًاï´¾3 ومن الروايات: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

    25
    "ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي"4 وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار"5.

    ما يلاحظه المفسِّر في عملية التفسير

    وبالجملة: لا محيص عن الاعتماد في ذلك على ما ثبت اعتباره، وعُلمت حجيّته من طريق الشرع، أو من حكم العقل، فإذاً لا بدّ للمفسِّر لاستكشاف مراد الله تبارك وتعالى من ملاحظة الأمور التالية في عملية التفسير:
    أوّلاً: اتّباع ظواهر الكتاب، الّتي يفهمها العارف بالعربية الفصيحة، فإنّ ظواهر الكتاب حجّة.

    ثانياً: الاستناد إلى ما ثبت عن المعصوم من نبيّ أو إمام في بيان مراد الله تبارك وتعالى.

    ثالثاً: اتباع ما حكم به العقل الفطري الصحيح، الّذي هو المرجع لإثبات أساس التوحيد، واتّصاف الكتاب بالإعجاز المثبت للرسالة، فإنّه لا ريب في حجيّته.

    ولا بدّ من التكلُّم في هذه الأمور الثلاثة الّتي هي أصول التفسير ومداركه.

    1 - أدلّة حجيّة ظواهر الكتاب

    أ- لا ينبغي الارتياب في أنّ القرآن الكريم إنّما أُنزل، وأتى به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليفهم الناس معانيه، ويتدبّروا آياته، ويجعلوا أعمالهم مطابقة لأوامره ونواهيه.

    ومن المعلوم أنّ الشارع المقدّس لم يخترع لنفسه طريقة خاصّة لإفهام


    26
    مقاصده، بل خاطب الناس بالطريقة المألوفة المتداولة في فهم المقاصد من طريق الألفاظ والعبارات، وحينئذٍ فلا محيص عن القول باعتبار ظواهر الكتاب كظواهر سائر الكتب الموضوعة للتفهيم وإرادة المقاصد، كيف وقد حثّ الكتاب بنفسه الناس على التدبّر في آياته، واعترض على عدم التدبّر؟!

    ب- إنّ القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة على النبوّة والرسالة، ولو لم تكن العرب عارفة بمعاني القرآن، ولم تكن تفهم مقاصده من ألفاظه وآياته، بل لو كان من قبيل الألغاز وغير قابل للفهم، لم يكن وجه لاتّصافه بالإعجاز.

    ج- حديث الثقلين المعروف بين الفريقين، الدالّ على لزوم التمسّك بهما، ولا يكفي في ذلك مجرّد الاعتقاد بأنّه قد نزل من عند الله تعالى، بل للعمل بما فيه، وهذا يقتضي حجيّة ظواهره.

    د- الروايات المتواترة، الدالّة على عرض الأخبار على الكتاب، وطرح ما خالف منها.

    هـ- الروايات الكثيرة الدالّة على استدلال الأئمّة عليهم السلام بالكتاب في موارد كثيرة.

    2- قول المعصوم

    لا إشكال في أنّ قول المعصوم نبيّاً كان أو إماماً حجّة في مقام كشف مراد الله تبارك وتعالى من ألفاظ كتابه العزيز، وآيات قرآنه المجيد، أمّا النبيّ فواضح، وأمّا الإمام فلأنّه أحد الثقلين اللذين أُمرنا بالتمسُّك بهما، والاعتصام بحبلهما، فراراً عن الجهالة، واجتناباً عن الضلالة، فمع ثبوت قوله في مقام التفسير، ووضوح صدوره عنه عليه السلام لا شبهة في لزوم الأخذ به. وذلك مع ثبوت قوله إمّا بالتواتر، أو بالخبر الصحيح المعتبر أو المحفوف بالقرائن القطعيّة.


    27
    وهذه الأحاديث الّتي وصلتنا تنقسم إلى أقسام متنوِّعة، ولكنّ التقسيم الّذي يفيدنا هو ما يلي:

    الأحاديث المتواترة: وهي عبارة عن خبر جماعة (يفيد بنفسه القطع وليس بانضمام القرائن) يستحيل تواطؤهم على الكذب، وفي النتيجة يوجب العلم بمضمون الخبر.

    وبعبارة أخرى: هو نقل الروايات لإحدى القضايا بصور متعدِّدة وبطرق مختلفة بحيث يحصل الاطمئنان بعدم كذب مضمونها؛ لأنّه من غير الممكن عادة أن يتّفق جميع الرواة على الكذب. وتُعتبر الأحاديث المتواترة حجّة في التفسير؛ لأنّها تفيد العلم، فلا بدّ من الأخذ بها في التفسير والعمل بمضمونها
    6.

    أخبار الآحاد: وهي الروايات الّتي لم تصل إلى حدّ التواتر (أي الروايات المنقولة بطريق أو بطريقين ونحو ذلك)، وتقسّم أخبار الآحاد إلى ثلاثة أقسام:

    أ الخبر الواحد المحفوف بالقرائن: أي الخبر غير المتواتر والذي يصل عن طريق معتبر ومحفوف بقرائن وشواهد تفيد الصدق واليقين بصدوره عن المعصوم (كما في بعض خطب نهج البلاغة) أو تكون موافقة لظاهر القرآن، وهذا القسم حجّة في التفسير أيضاً.

    ب أخبار الآحاد الضعيفة: وهي الأخبار غير المتواترة وليس لها سند معتبر، ولذلك لا يوجد اطمئنان بصدورها عن المعصوم، وهذا النوع من الأحاديث يرِد كثيراً في الروايات التفسيريّة، وربما يكون موضوعاً أو من الإسرائيليات، وهذا القسم غير معتبر في التفسير ولا يعتبر حجّة.


    28
    ملاحظة: حاول بعض المفسِّرين دراسة هذه الأحاديث من ناحية المتن، والاستفادة منها كشاهد في التفسير، إذا كان هناك ما يدلّ علىصدقها كموافقتها لظواهر القرآن مثلاً لأنّ المبنى عنده هو حجيّة الخبر الموثوق وقد يحصل الوثوق من نفس المتن، ومن هؤلاء العلّامة الطباطبائي، أمّا السيّد الخوئي فقد ذهب إلى حجيّة الأخبار القطعيّة في التفسير وعدم حجيّة الأخبار الضعيفة7 لأن المبنى عنده حجيّة خبر الثقة.

    ج أخبار الآحاد المعتبرة: أي الأخبار غير المتواترة الّتي يكون لها طريق معتبر، والّتي تفيد الظنّ بالصحّة ولا تورث اليقين.

    مكانة خبر الواحد المعتبر في التفسير

    ثمّة خلاف بين علماء الشيعة بشأن حجيّة واعتبار خبر الواحد، فقد ادّعى الشيخ الطوسي الإجماع على حجيّته وكذلك كثير من المتأخّرين، وفي مقابل هذا الرأي هناك من ادّعى الإجماع على عدم حجيّة خبر الواحد كالسيّد المرتضى.
    أمّا في الوقت الحاضر فإنّ مشهور علماء الإمامية ذهب إلى حجيّة خبر الواحد والعمل به في الأحكام الشرعية، ودليلهم الرئيس هو سيرة العقلاء.

    أمّا ما نريده هنا فهو: هل أنّ خبر الواحد يكون حجّة في التفسير كما هو الحال في الأحكام الشرعية؟

    وهل يجوز التفسير على طبقه أو لا؟ توجد ثلاثة آراء رئيسة:

    الأوّل: الموافقة على حجيّة خبر الواحد في التفسير.


    29
    الثاني: عدم الموافقة على حجيّة خبر الواحد في التفسير.

    الثالث: التفصيل بين الموافقة عليه في ما إذا كان مفاد الخبر حكماً شرعياً، وعدم الموافقة على حجيّته في غير باب الأحكام الشرعية (كالاعتقادات مثلاً).

    ومجمل القول في بيان هذه الآراء وتوضيح المراد هو أنّ القائلين بحجيّة الخبر الواحد في التفسير قالوا: إنّ جميع الأحكام وسنن الشريعة الّتي تفصّل مجملات القرآن، وتفسّر هذه الآيات الّتي وصلتنا عن طريق الخبر الواحد الجامع للشرائط تكون معتبرة، إلّا في الخبر المخدوش من حيث السند والمضمون فلا يعتبر حجّة في هذه الحالة
    8.

    3- حكم العقل

    لا إشكال في أنّ حكم العقل القطعي، وإداركه الجزمي من الأمور الّتي تعدّ من أصول التفسير، فإذا حكم العقل بخلاف ظاهر الكتاب في موردٍ لا محيص عن الالتزام به، وعدم الأخذ بذلك الظاهر، ضرورة أنّ أساس حجيّة الكتاب، وكونه معجزة كاشفة عن صدق الآتي به، إنّما هو العقل الحاكم بكونه معجزة خارقة للعادة البشرية، ولم يؤت، ولن يؤتى بمثلها، فإنّه الرسول الباطنيّ الّذي لا مجال لمخالفة حكمه ووحيه.

    ففي الحقيقة يكون حكمه بخلاف الظاهر وإدراكه الجزمي لذلك بمنزلة قرينة متّصلة، موجبة للصرف عن المعنى الحقيقي، وانعقاد الظهور في المعنى المجازي.

    فمثلاً قوله تعالى:
    ï´؟وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّاï´¾9 وإن كان ظهوره الابتدائي

    30
    في كون الجائي هو الربّ نفسه، وهو يستلزم الجسميّة الممتنعة في حقّه تعالى، إلّا أنّ حكم العقل القطعي باستحالة ذلك لاستلزام التجسّم للافتقار والاحتياج المنافي لوجوب الوجود، لأنّ المتّصف به غنيّ بالذات يوجب عدم انعقاد ظهور في هذا المعنى، وهو اتّصاف الرّب بالمجيء.

    وهكذا قوله تعالى:
    ï´؟الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىï´¾10 ، ومثله الآيات الظاهرة على خلاف حكم العقل.

    تعليق


    • #3
      الدرس الثالث: شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسِّر وآدابه(1)

      أهداف الدرس


      1 ـ أن يتعرّف الطالب إلى بعضٍ من العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر في اللّغة العربية
      2- أن يتعرّف إلى بعض المعارف المختصّة بعلوم القرآن




      --------------------------------------------------------------------------------
      33

      --------------------------------------------------------------------------------



      من العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر


      لا بدّ للمفسِّر من شروط ومؤهِّلات ومهارات ينطلق منها ويعتمد عليها تساعده على القيام بتلك المهمّة الجليلة.


      فما هي تلك الشروط والمؤهِّلات والمهارات؟


      في هذه المسألة جانبان:


      الأوّل: الجانب العلمي والمعرفي: ويتضمّن أنواع العلوم الآلية والمعارف الّتي يجب أن تتوفّر في المفسِّر حتّى يكون أهلاً للتفسير.


      الثاني: الجانب الشخصي النفسي1: ونقصُد به المؤهِّلات والمهارات الشخصيّة والمواصفات النفسيّة الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر.


      الأوّل: الجانب العلمي والمعرفي


      يحتاج المفسِّر إلى أنواع من العلوم والمعارف الآلية الّتي تعينه على القيام بمهمّة التفسير، وقد ذكرها العلماء في كتبهم تحت أبواب وعناوين متعدِّدة




      --------------------------------------------------------------------------------
      35

      --------------------------------------------------------------------------------



      أوصلها بعضهم إلى خمسة عشر علماً2. وأوجزها الراغب الأصفهاني بعشرة.


      ويمكن لنا إيجاز العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر كما يلي:


      1ـ معرفة اللغة العربية وعلومها


      ونقصد بها ما يتعلّق بها من نحو، وصرف، واشتقاق، وبلاغة، ومعاني مفردات، وهذه من أولى العلوم الّتي يحتاجها المفسِّر؛ فإنّ معرفة اللغة العربية وما يتعلّق بها أمر ضروري للمفسِّر فالقرآن نزل (بلسان عربي مبين). فلا سبيل لبيانه إلّا من جهة لسان العرب، لذا لا يجوز لأحد أن يدّعي فهماً لكلام الله تعالى فضلاً عن تفسيره ما لم يكن عالماً باللغة العربية وعلومها.


      أ- علم النحو


      وهو ضروري للمفسِّر ومن أهمّ ما يحتاجه في مقام التفسير، لأنّ المعنى يتغيّر ويختلف باختلاف الإعراب؛ أي يتغيّر بتغيّر الحركات.


      وبعبارة أخرى: فإنّ المعنى التركيبي للكلمات، وبالتالي معنى الجملة من الآية لا يتّضح إلّا من خلال معرفة موقع ودور كلّ كلمة فيها. فمن لا يعرف أنّ الكلمة في موقع الفاعل أو المفعول، أو الصفة، أو الموصوف، أو المبتدأ، أو الخبر، وما إلى ذلك فليس بمقدوره أن يبيّن ويُحدِّد معنى ومراد الجملة والآية، فقوله تعالى: ï´؟إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءï´¾3 لا يتّضح إلّا من خلال معرفة موقع كلّ كلمة من الآية. فإن لم نعرف موقع (يخشى) و(الله) و(العلماء) ونُحدِّد حركاتها لا يمكن لنا أن نبيّن معنى الآية ومراد الله منها.


      وبناءً عليه فإنّ قراءة الآية وكلماتها بنصب هاء الجلالة، ورفع همزة




      --------------------------------------------------------------------------------
      36

      --------------------------------------------------------------------------------



      العلماء يؤدّي إلى المعنى والمراد الصحيح، لأنّ معنى الآية: الّذين يخشون الله من عباده هم العلماء دون غيرهم أي حصر خشية الله بعباده العلماء.


      ولو عكس فقُرِأت بضم هاء الجلالة، ونصب همزة العلماء لفسد المعنى.


      قصّة لطيفة


      في تحقيق السبب الّذي دعا أمير المؤمنين عليه السلام إلى وضع أصول علم النحو وتحديد حدوده وتحقيق السبب الّذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو لأنّ الناس اختلفوا في المقامين وذكروا في المقام الأوّل وجوهاً، أحدها ما ذكره ابن الأنباري في خطبة شرح سيبويه قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع يوماً قارئاً يقرأ ï´؟أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهï´¾ بجرّ لام الرسول، فغضب صلى الله عليه وآله وسلم وأشار إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: إنحُ النحو واجعل له قاعدة، وامنع من مثل هذا اللحن، فطلب أمير المؤمنين عليه السلام أبا الأسود الدؤلي وعلّمه العوامل والروابط وحصر كلام العرب وحصر الحركات الإعرابية والبنائية، وكان أبو الأسود كيّساً فطناً ذَهِناً، فألّف ذلك وإذا أشكل عليه شيء راجع أمير المؤمنين عليه السلام ورتّب وركّب بعض التراكيب وأتى به إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فاستحسنه وقال نِعْمَ ما نحوت أي قصدت فللتفاؤل بلفظ عليّ عليه السلام سمّي هذا العلم نحواً4.


      ب- علم الصرف والاشتقاق


      أمّا الاشتقاق فهو الّذي يبيّن لنا مادّة الكلمة وجذرها وأصلها حتّى نرجع في تبيين معناها إلى جذورها، وهذا أمر مهمّ جدّاً لمن أراد الخوض في مجال بيان كلام الله تعالى.




      --------------------------------------------------------------------------------
      37

      --------------------------------------------------------------------------------



      وأمّا الصرف "فبه تُعرف الأبنية والصيغ وبه يتّضح المبهم من الكلمات"5. وبه يُعرف الماضي من المضارع وكلاهما من الأمر إلى غير ذلك.


      ج- معاني المفردات


      وهي من أولى وأهمّ الأمور الّتي يجب أن يقف عندها المفسِّر لآيات الله تعالى فإنّ الآيات تتركّب من عدّة مفردات، ولا يمكن له فهمها وبيانها ما لم يعرف معانيها.


      د- علوم البلاغة: وهي، البيان والمعاني والبديع


      2- معرفة بعض ما يختصّ بعلوم القرآن


      ومن أهمّها:


      أـ القراءات


      ومعرفتها ضروريّة للمفسِّر لأنّه بها يُرجِّح بعض الوجوه المحتملة على بعض. وبسبب اختلاف القراءات يختلف المعنى المراد من الكلمات والآيات القرآنية.


      ومثال ذلك اختلاف تفسير قوله تعالى:ï´؟إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَاï´¾6 ، فمن قرأ (سُكِّرت) مشدَّدة، فإنّما يعني "سُدّت" ومن قرأ (سُكِرت) مخفَّفة فإنّه يعني "سُحرت".


      ب- أسباب النزول


      أسباب النزول: جمع سبب, ونقصد به: ما نزلت بسببه آية أو أكثر. وهو عبارة




      --------------------------------------------------------------------------------
      38

      --------------------------------------------------------------------------------



      عن: واقعة أو أمر حدث في عصر الوحي اقتضى نزول الوحي لأجله وبشأنه، وهذه الأسباب قد تكون مدحاً أو ذمّاً لموقف، أو حلّاً لمشكلة، أو جواباً لسؤال، أو بياناً لحكم ونحو ذلك.


      وفيما يلي مثالان على أهمّية معرفة أسباب النزول:


      قوله تعالى: ï´؟الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًاï´¾7.


      فمعرفة المراد من هذه الآية المباركة وفهمها فهماً صحيحاً يتوقّف على معرفة سبب وظروف نزولها، ومن المتواتر أنّها نزلت في غدير خم بعدما نزلت الآية المباركة:ï´؟يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَï´¾8 ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس في غدير خُمّ عند مفترق طرق، وأعلن عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، إلى آخر الحديث المعروف... وأخذ المسلمون يُهنّئون عليّاً عليه السلام بقولهم: بخٍ بخٍ لك يا عليّ أصبحت مولانا ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.


      وفي المقابل إنّ تجاهل الآخرين لهذا الحدث العظيم الّذي كان داعياً وباعثاً لنزول الآيات أدّى إلى تجافي الحقّ والخطأ في فهم كلام الله تعالى والعمل بخلاف مراده سبحانه وتعالى من هذه الآية المباركة.


      قوله تعالى: ï´؟إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًاï´¾9. فإنّ فهم الآية المباركة ومعرفة من هم أهل البيت عليهم السلام المقصودون فيها يتوقّف




      --------------------------------------------------------------------------------
      39

      --------------------------------------------------------------------------------



      على معرفة الزمان والمكان والأشخاص والظروف الّتي نزلت فيها الآية المباركة، وبالوقوف على كلّ ذلك نفهم الآية فهماً صحيحاً ونقف على المراد الإلهي منها، فنعرف أنّ أهل البيت في الآية المباركة هم: محمّد، وعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم الصلاة والسلام، وليس أيّ أحد سواهم، كما ادّعى الآخرون حيث وقعوا في سوء الفهم والخطأ الكبير لأنّهم تجاهلوا أسباب وظروف نزول الآية المباركة.


      ج- تمييز المكّي عن المدني


      والمكّي من الآيات هو: ما نزل قبل الهجرة من مكّة إلى المدينة، أي فترة إقامة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة المكرّمة. سواء نزلت داخل مكّة أم خارجها.


      والمدني من الآيات هو: ما نزل بعد هجرة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنوّرة، سواء نزلت داخل المدينة أم خارجها.


      وجه الحاجة إلى التمييز بين المكّي والمدني


      وأمّا الحاجة إلى التمييز بين المكّي والمدني، فلأنّه يساعد على جلاء الحقيقة في بيان معنى بعض الآيات، ويرفع الإبهام الّذي قد يقع فيه البعض، أثناء تفسيره لبعض الآيات المباركة بسبب عدم تمييزه بين المكّي والمدني ومثال ذلك:
      تفسير قوله تعالى: ï´؟قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىï´¾ الواردة في سورة الشورى وهذه السورة مكّية.


      والآية المباركة حسب المتواتر نزلت في أهل البيت عليهم السلام وهم: الإمام عليّ عليه السلام والسيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام والإمامان الحسن والحسين عليهما السلام.


      فربما يتوهّم البعض ويستبعد نزولها في حقّ أهل البيت عليهم السلام ، بحجّة أنّ




      --------------------------------------------------------------------------------
      40

      --------------------------------------------------------------------------------



      السورة مكّية، وأنّ الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام لم يكونا في مكّة.


      ولكن هذا التوهُّم سرعان ما يرتفع إذا عرفنا أنّ الآية ثلاث وعشرون من سورة الشورى مدنيّة، وليست مكّية، وأنّ كون السورة مكّية لا يعني ضرورة كون جميع آياتها مكيّة، فكم من سورة مكيّة ضمّت بين آياتها مدنية وبالعكس. وسورة الشورى وإن كانت مكيّة إلّا أنّ بعض آياتها مدنية ومنه هذه الآية المباركة.


      د- دلالة السياق


      من الأمور الّتي تُعين المفسِّر على تحديد المراد دلالة السياق، فإنّها من أعظم القرائن الدّالة على مُراد المتكلِّم، فمن أهمله فَقَدَ واحدة من أهمّ الدلالات ووقع في الخطأ في كثير من الموارد، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ دلالة السياق إنّما تؤثِّر في الدلالة على المراد ما لم تقم قرينة أقوى منها على خلافها، كما هو الحال في آية التطهير.


      أنظر: إلى قوله تعالى: ï´؟ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُï´¾10. كيف نجد أنّ سياق الآيات يدلّ على أنّ المراد من العزيز الكريم (الذليل الحقير). قال تعالى: ï´؟خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيم* ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ِï´¾11.


      ولزوم مراعاة السياق لا يعني أنّ القرآن الكريم يعتمد الأسلوب عينه الّذي تعتمده المؤلِّفات والكتب البشرية بحيث يأخذ البحث في موضوع محدَّد فإذا فُرغ منه يُبتدئ بموضوع جديد، وذلك بشكل متسلسل. بل نجد أنّ القرآن الكريم ربما يتعرّض للموضوع الواحد في عدّة موارد وفي كلّ مورد يأخذ طرفاً من الموضوع، وذلك بحسب الهدف والغاية الّتي اقتضت التعرُّض لهذا الموضوع أو ذاك.




      --------------------------------------------------------------------------------
      41

      --------------------------------------------------------------------------------



      هـ- معرفة العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد


      إنّ كثيراً من الآيات المتعرِّضة لأحكام الأفعال والموضوعات مجملة ورد تفسيرها في السنّة القطعيّة وأحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، كالصلاة، والزكاة، والحجّ وغير ذلك ممّا لا محيص للمفسِّر من الرجوع إليها في رفع الإجمال وتبيين المبهم، وهو أمر واضح.


      وهناك سبب ثانٍ للرجوع إليها، وهو أنّه ورد في القرآن الكريم مطلقات ولكن أُريد منها المقيّد، كما ورد عموم أُريد منه الخصوص؛ وذلك وفقاً لتشريع القوانين في المجالس التشريعيّة، فإنّهم يذكرون قيودها ومخصِّصاتها في فصل آخر باسم الملحق، وقد حذا القرآن في تشريعه هذا الحذو فجاءت المطلقات والعمومات في القرآن الكريم والمقيِّدات والمخصِّصات في أخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.


      يقول سبحانه: ï´؟وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَاï´¾12. وجاء في السنّة مخصِّصها، وأنّه لا ربا بين الزوج والزوجة، والولد والوالد، فقد رخّص الإسلام الربا هنا.


      قال الإمام الصادق عليه السلام: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس بين الرجل وولده ربا، إنّما الربا فيما بينك وبين ما لا تملك"13.


      وروى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: "ليس بين الرجل وولده، وبينه وبين عبده، ولا بين أهله ربا، إنّما الربا فيما بينك وبين ما لا تملك"14.




      --------------------------------------------------------------------------------
      41

      --------------------------------------------------------------------------------



      ولعلّ قوله سبحانه وتعالى: ï´؟وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواï´¾15 ، يوحي إلى هذا المعنى.


      وـ معرفة الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه


      من الأمور الّتي لا بدّ للمفسِّر من معرفتها الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه.


      فإنّه من لم يعرف من كتاب الله عزّ وجلّ الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله، كما جاء في المروي عن الإمام الصادق عليه السلام.


      فقد جاء في تفسير النعماني بإسناده إلى إسماعيل بن جابر قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام جعفر بن محمّد الصادق يقول: "... اعلموا، رحمكم الله، أنّه من لم يعرف من كتاب الله عزّ وجلّ الناسخ من المنسوخ، والخاصّ من العامّ، والمحكم من المتشابه... فليس بعالم بالقرآن ولا هو من أهله"16.


      فمثلاً على الناسخ والمنسوخ: في بداية مبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أُمر المسلمون بمداراة أهل الكتاب في قوله تعالى:ï´؟فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِï´¾17.


      وبعد مدّة أُنهي هذا الحكم وأُمروا بقتالهم في قوله تعالى: ï´؟قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابï´¾18.




      --------------------------------------------------------------------------------
      42

      --------------------------------------------------------------------------------



      ومثلاً على الآيات المتشابهات: ظاهر قوله تعالى: ï´؟الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىï´¾19 وقوله تعالى: ï´؟وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّاï´¾20 يدلّ على الجسميّة. وأنّ الله تعالى مادّة، ولكن لو أرجعناها إلى قوله تعالى:ï´؟لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُï´¾21 علمنا أن الاستواء والمجيء لا يراد منه المعنى المادّي.




      تعليق


      • #4
        شروط ومؤهِّلات ومهارات المفسّر وآدابه(2)
        الدرس الرابع:
        أهداف الدرس

        1 ـ
        أن يتعرّف الطالب إلى بعضٍ آخر من العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر
        2- أن يدرك المؤهِّلات والمهارات الشخصية والمواصفات النفسيّة الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر.


        45

        تمهيد

        قلنا في الدرس السابق أنّه لا بدّ للمفسِّر من شروط ومؤهِّلات ومهارات ينطلق منها ويعتمد عليها تساعده على القيام بتلك المهمّة الجليلة. وقلنا إنّ في هذه المسألة جانبين:

        الأوّل: الجانب العلمي والمعرفي: ويتضمّن أنواع العلوم الآلية والمعارف الّتي يجب أن تتوفّر في المفسِّر حتّى يكون أهلاً للتفسير.

        الثاني: الجانب الشخصي النفسي: ونقصُد به المؤهِّلات والمهارات الشخصية والمواصفات النفسية الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر.

        الجانب الأوّل: الجانب العلمي والمعرفي

        وقد ذكرنا في الدرس السابق بعضاً ممّا يتعلّق بهذا الجانب:

        1ـ معرفة اللغة العربية وعلومها.

        2ـ معرفة بعض ما يختصّ بعلوم القرآن. وبقي الكلام عن:

        3ـ العلوم الّتي لها صلة بعلم التفسير


        ومن العلوم والمعارف الّتي يحتاجها المفسِّر بالإضافة الى ما مرّ في الدرس السابق عدد من العلوم الّتي لها صلة بعلم التفسير، منها:


        47

        أ- علم الكلام

        وهو يهتمّ بأصول العقيدة كالتوحيد والعدل، والنبوّة، والمعاد، كما يهتمّ بالمسائل المرتبطة بها، كالجبر والتفويض، والحسن والقبح... وغيرها.

        ب- علم أصول الفقه

        علم أصول الفقه ويفيد المفسِّر في مجال آيات الأحكام والبحوث الفقهية.

        وصلة علم أصول الفقه بالتفسير باعتبار أنّ قسماً مهمّاً من آيات القرآن المباركة تناولت الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية، وهي الّتي جُمعت تحت عنوان آيات الأحكام، وهي موضوع لعلم الأصول.

        ولقد وُضعت أسس هذا العلم اعتماداً على قواعد عقليّة، ونقليّة، وقد استمدّ العلماء الكثير من مباحث هذا العلم من علوم مختلفة منها علم التفسير نفسه.

        وهذا العلم يزوِّد علم التفسير بضوابط وقواعد عامّة من شأنها أن تفيد المفسِّر إذا استعان بها، لا سيّما في مجال بيان آيات الأحكام.

        ج- معرفة تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده


        ومن الأمور الّتي لها صلة بعلم التفسير، ويستفيد منها المفسِّر دراسة تاريخ العرب، ونقصد دراسة الواقع أو الحال الّذي كان يعيشه الناس قبل الإسلام وفي زمن البعثة النبويّة الشريفة.

        فقد نزل القرآن الكريم في جوّ مجتمع الجزيرة العربية، ولهذا المجتمع خصوصيّاته التاريخيّة والاجتماعيّة والجغرافيّة، كما له مميّزاته وخصائصه التربويّة والثقافيّة والدينيّة، حيث كان مجتمعاً متعدِّد الأديان والثقافات.

        فقد كانت الجزيرة آنذاك موطن كلٍّ من الوثنيين والمشركين إضافة إلى أهل الكتاب من يهود ونصارى.


        48

        كما كانت تسود بين أهلها أعراف وقيم وعادات وتقاليد تحكم تصرّفاتهم وحركتهم الاجتماعية. فقد بُعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأمّة ولهؤلاء الناس جميعاً.

        والقرآن الكريم خاطب كلّ هؤلاء وجادلهم وأقرّ لهم أموراً واعترض على أخرى، وعنّفهم في أشياء وزجرهم عن أخرى، وعمل على تغيير الواقع القائم وإقامة واقع جديد.

        وهو يشير في أكثر من مورد من آياته المباركة إلى تلك الأمّة، ويتحدّث عن عاداتها وتقاليدها الجاهلية.

        من هنا كانت الصلة الوثيقة بين علم التفسير ومعرفة التاريخ. فإنّ الاطلاع على تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام وتاريخ عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبعثة المباركة، له الأثر الإيجابي الكبير في عملية بيان وتوضيح مداليل ومقاصد كثير من الآيات المباركة.

        فلا يعقل أن يُفسِّر أحد قوله تعالى:
        ï´؟وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًاï´¾1 وهو لا يعرف كيف كانت أحوالهم قبل ذلك، وسبب العداوة بينهم، ونوعها وحدودها، ثمّ كيف رفع الله تعالى العداوة والبغضاء من قلوبهم، وكيف ألّف بينهم، وكيف كانت مظاهر الأخوّة، إلى غير ذلك من الأمور الّتي لا بدّ من الاطلاع عليها حتّى يمكن له فهم واستيعاب ما ترمي إليه الآية المباركة.

        وكذلك الحال بالنسبة إلى قوله تعالى:
        ï´؟وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتï´¾2 فلا بدّ في تفسيرها من معرفة عاداتهم وتعاملاتهم مع نسائهم وبناتهم، لا سيّما المولودات حديثاً حتّى نقف عند مداليل هذه الآية المباركة.


        49

        وكذلك بالنسبة إلى قوله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونï´¾3.

        وقوله تعالى:
        ï´؟لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ* إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفï´¾4.

        فكيف يمكن فهم مداليل هذه الآيات، ما لم نطّلع على أحوال قريش، وتجارتها إلى اليمن في الشتاء، وإلى الشام في الصيف، وكيف كان حالهم قبل ذلك وبعدها، وكيف أطعمهم الله من جوع، وآمنهم من خوف، إلى غير ذلك من الأمور الّتي ترتبط بتاريخهم وعاداتهم وأعمالهم.

        الجانب الثاني: الشخصي النفسي


        ونقصُد به المؤهِّلات والمهارات الشخصيّة والمواصفات النفسيّة الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر، ومنها:

        1ـ صحّة وصدق المعتقد:
        لا بدّ للمفسر من أن يملك معتقداً سليماً صحيحاً، لا سيّما الاعتقاد بولاية أهل البيت عليهم السلام ودورهم ومرجعيّتهم الفكريّة والدِّينية، لأنّهم عليه السلام الثقل الثاني بعد القرآن الثقل الأوّل الّذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتمسّك به وهم عليهم السلام القرآن الناطق الّذي يبيّن ويفسّر الحقائق القرآنية على أكمل وجه، "إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"5. فالّذي لا يملك اعتقاداً سليماً بهذه المسألة، لا يمكن له فهم القرآن فهماً صحيحاً.


        50

        2ـ الإخلاص وصحّة المقصد والغاية: ومن صفات المفسِّر وآدابه الإخلاص وصحّة المقصد فيما يقول، ليلقى التسديد والهداية إلى المراد، قال تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَï´¾6. وقال سبحانه: ï´؟لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَï´¾7 ، فلا يُدرك حقائق القرآن الكريم إلّا أصحاب القلوب الطاهرة والنفوس الزكية.

        قال الطبري: "وإنّما يخلص له القصد إذا زهد في الدنيا، لأنّه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوسّل به إلى غرض يصدُّه عن صواب قصده ويُفسد عليه عمله"
        8.

        فينبغي للمفسِّر أن يبتغي فضلاً من الله ورضواناً، فلا يتوخّى من عمليّة التفسير متاع الحياة الدنيا، والوصول إلى مقامات دنيوية. ما يؤدّي به إلى الانحراف عن القصد الإلهي من التفسير، كما حدث مع وعّاظ السلاطين، وبعض المفسِّرين الّذين اعتمدوا منهجاً سياسيّاً للتفسير، أي كانوا يفسِّرون القرآن تفسيراً سياسيّاً منحرفاً.

        قال في البرهان: "اعلم أنّه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة أو كبر أو هوى أو حبّ للدنيا، أو هو مصرّ على الذنب أو غير محقّق بالإيمان أو ضعيف التحقيق"
        9.

        وفي هذا المعنى قوله تعالى:
        ï´؟سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّï´¾10.

        51

        3ـ الموضوعية: بمعنى التجرُّد، أي أن يقرأ الآيات بتجرُّد فيسير إلى حيث تأخذه الآيات، ولا يأخذ الآيات إلى حيث أفكاره ومعتقداته المسبقة ويُلزِم القرآن بها، والموضوعيّة هنا مقابل التحيُّز.

        4ـ قدرة المفسِّر على الجمع والربط بين الآيات: أي أن يكون عنده شمولية في فهم القرآن الكريم؛ فالقرآن لا يمكن أخذه وتفسيره كآيات متناثرة، لأنّه هناك وحدة موضوعيّة بين الآيات، وعلى المفسِّر أن يراعيها، ويربط بينها، وإلّا فإنّه لا يستطيع تفسير القرآن وفهمه فهماً صحيحاً.

        5ـ أن يملك المفسِّر عقلاً متدبِّراً واعياً لا عقلاً غافلاً وقارئاً: هناك نوعان من المفسِّرين: نوع يقرأ الآية ويقرأ ما يتعلّق بها من روايات ويقرأ آراء المفسِّرين ويجمعها ثمّ يكتب على ضوء ما رآه، وهذا ما يُسمّى "بالكاتب القارئ".

        وهناك من يقرأ الآية والروايات وآراء المفسِّرين ويتدبَّر ويفكِّر ويستنتج فيأتي بمعنى جديد وهذه من أهمّ الصفات الّتي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر الّذي يجب أن يملك عقلاً واعياً يمكنه من الاستنتاج والإتيان بالجديد كي لا يراوح مكانه.

        يقول الشيخ محمّد جواد مغنيّة: "فإنّ أيّ مفسِّر لا يأتي بجديد لم يسبقه إليه أحد، ولو بفكرة واحدة في التفسير، هذا يعني أنّ هذا المفسِّر لا يملك عقلاً واعياً، وإنّما يملك عقلاً قارئاً، يرسم فيه ما يقرأ لغيره، تماماً كما ترتسم صورة الشيء في المرآة على ما هو من لون وحجم دون أيّ تأثُّر أو تأثير.

        ذلك أنّ معاني القرآن عميقة إلى أبعد الحدود، لا يبلغ أحد نهايتها مهما بلغت مكانته من العلم والفهم وإنّما يكشف منها ما تُسعفه معارفه ومؤهِّلاته، فإذا وقف المفسِّر السابق عند حدٍّ من الحدود، ثمّ جاء اللاحق وترسّم خطاه لا يتجاوزها، ولو بخطوة واحدة كان تماماً كالأعمى يتوكّأ على عكّاز، فإذا فقدها جمد في مكانه"
        11.

        52

        6ـ النظر إلى القرآن باعتباره كتاب هداية وحياة: من تتبّع آيات القرآن الكريم، وتدبّرها جيّداً، يجد أنّ وراءها هدفاً جامعاً مشتركاً، وإطاراً عامّاً يربط بين كلّ آياته وسوره، وهو أنّ هذا القرآن يهدف إلى هداية البشرية إلى الّتي هي أقوم، وأنّه يحمل دعوة إلى الحياة الطيّبة يسودها الأمن والعدل والسلام، بحيث يعيش الناس فيها في كلّ سعادة وطمأنينة ورفاه.

        قال تعالى:
        ï´؟إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًاï´¾12.

        وقال سبحانه:
        ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمï´¾13.

        وعلى هذا الأساس ومن هذا المنطلق ينبغي للمفسِّر أن ينطلق في محاولة تفسيره لآي الذكر الحكيم وبيان مصادرها وأهدافها، بحيث يجعل هذا الهدف العام والمشترك حاكماً على كلّ ما يمكن أن يتوصّل إليه أثناء تفسيره فلا يُناقضه أو يُهمله.

        7ـ الحضور والإحساس والانسجام القلبي والعقلي مع القرآن: يقول الشيخ محمّد جواد مغنيّة: وهنا شيء آخر يحتاج إليه المفسِّر، وهو أهمّ وأعظم من كلّ ما ذكره المفسِّرون في مقدّمة تفاسيرهم لأنّه الأساس والركيزة الأولى لتفهُّم كلامه جلّ وعلا. ولم أر من أشار إليه... وهو أنّ معاني القرآن لا يدركها، ولن يدركها على حقيقتها، ويعرف عظمتها إلّا من يحسّها في أعماقه، ويسلّم معها بقلبه وعقله، ويختلط إيمانه بها بدمه ولحمه، وهنا يكمن السرّ في قول أمير المؤمنين عليه السلام: "ذاك القرآن الصامت وأنا القرآن الناطق"
        14.

        تعليق


        • #5
          الدرس الخامس: المناهج والاتجاهات التفسيريّة
          أهداف الدرس

          1-
          أن يتعرّف الطالب إلى نشوء وتطوّر مناهج التفسير
          2- أن يميّز بين المناهج والاتجاهات التفسيريّة
          3- أن يعدِّد تقسيمات المناهج والاتجاهات التفسيريّة


          55
          نشوء وتطوّر مناهج التفسير

          بدأ علم التفسير منذ صدر الإسلام، وكان مصدره الوحي الإلهي الّذي عرّف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كمفسِّرٍ للقرآن1 ، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعتمد على القرآن نفسه في التفسير، ومن هنا نشأت طريقة تفسير القرآن بالقرآن، وقد تصدّى أهل البيت عليهم السلام وعدد من الصحابة لتفسير القرآن على ضوء المنهج السابق مع الاستفادة من المنهج الروائي، أي الاستناد إلى الروايات الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير آيات القرآن.

          وقد تصدّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لتفصيل ما أُجمل في القرآن، وبيان ما أُبهم منه إمّا بياناً في أحاديثه الشريفة وسيرته الكريمة، أو تفصيلاً جاء في جُلّ تشريعاته من فرائض وسنن وأحكام وآداب... وهكذا فكلُّ ما جاء في الشريعة من فروع أحكام العبادات والسنن والفرائض، وأحكام المعاملات، والأنظمة والسياسات، كلّ ذلك تفصيل لما أُجمل في القرآن الكريم من تشريع وتكليف.

          هذا وقد تورّطت مجموعة بتفسير وتأويل القرآن طبقاً لميولها وبدون رعاية


          57
          الضوابط والقرائن، ومن هنا نشأ التفسير بالرأي. وقد تصدّت الأحاديث الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام لهذا النوع من التفسير ومنعتهُ بشدّة، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تعالى: "ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي"2.

          ثمّ ظهرت في القرن الثاني الهجري وما بعده مناهج وأساليب أُخرى بين المسلمين بشكل تدريجي، نتيجة ترجمة آثار وكتب الحضارتين اليونانية والفارسية ونفوذ أفكارهم وعلومهم.

          وقد تكوّنت الاتجاهات التفسيريّة الكلاميّة بسبب ظهور المباحث الكلاميّة والفلسفيّة، فكانت كلّ فرقة من فرق المسلمين كالأشاعرة والمعتزلة و... تفسّر القرآن طبقاً لآرائها وعقائدها.

          وفي القرن الثالث وما بعده، بدأت تظهر أساليب جديدة في التفسير على يد العرفاء والمتصوّفة. ما أدّى إلى تطوّر المنهج الإشاري في التفسير3.

          وأمّا محدّثو السنّة والشيعة فقد اكتفوا بنقل الروايات مُحدِثين بذلك المنهج والاتجاه الروائي في التفسير والذي ظهر في المرحلة الأولى (القرن الثالث والرابع الهجري) على شكل تفاسير مثل: تفسير العيّاشيّ، والقمّيّ، والطبري، وفي المرحلة الثانية (من القرن العاشر حتّى الحادي عشر) الدرّ المنثور، والبرهان، ونور الثقلين، وخلال هذه الفترة؛ أي بعد المرحلة الأولى من ظهور التفاسير الروائية بدأت تظهر التفاسير الفقهيّة بأسلوب موضوعي وعلى شكل تفسير آيات الأحكام. وبعد أن أخذت بعض التفاسير شكلها الطبيعي مثل أحكام القرآن للجصّاص الحنفي (ت 370هـ) وأحكام القرآن المنسوب إلى الشافعي (ت 204م) استمرّت كتابة هذا النوع من التفاسير فيما بعد مثل أحكام


          58
          القرآن للراوندي (ت573هـ). ثمّ ظهرت في القرن الخامس والسادس الهجري التفاسير الجامعة الاجتهادية مثل: التبيان، ومجمع البيان؛ وذلك بالاستفادة من العقل والاجتهاد ومراعاة جوانب متعدّدة في التفسير، ولا تزال هذه الطريقة متداولة حتّى الآن. وقد بادر بعض الفلاسفة إلى كتابة التفسير أيضاً. كما ظهرت وتطوّرت في القرن الأخير أساليب ومناهج جديدة في التفسير مثل طريقة التفسير العلمي والاتجاه الاجتماعي4.

          الفارق بين المناهج والاتجاهات التفسيريّة

          المنهج التفسيري لكلّ مفسِّر هو تبيين طريقة كلّ مفسِّر في تفسير القرآن الكريم، والأداة والوسيلة الّتي يعتمد عليها لكشف الستر عن وجه الآية أو الآيات؟ فهل يأخذ العقل أداة للتفسير أو النقل؟ أو يعتمد في تفسير آيات القرآن على نفس القرآن الكريم، أو على السنّة الشريفة، أو على كليهما، أو غيرهما؟

          وفي الجملة ما يُتّخذ مفتاحاً لرفع إبهام الآيات، هو ما نسمّيه المنهج في تفسير القرآن.

          وأمّا البحث عن الاتجاهات والاهتمامات التفسيريّة، فالمراد منها المباحث الّتي يهتمّ بها المفسِّر في تفسيره مهما كان منهجه وطريقته في تفسير الآيات، مثلاً تارة يتّجه إلى إيضاح المادّة القرآنية من حيث اللغة، وأُخرى إلى صورتها العارضة عليها من حيث الإعراب والبناء، وثالثة يتّجه إلى الجانب البلاغي، ورابعة يعتني بآيات الأحكام، وخامسة يصبّ اهتمامه على الجانب التاريخي والقصصي، وسادسة يهتمّ بالأبحاث الأخلاقيّة، وسابعة يهتمّ بالأبحاث الاجتماعية، وثامنة يهتمّ بالآيات الباحثة عن الكون وعالم


          59
          الطبيعة، وتاسعة يهتمّ بمعارف القرآن وآياته الاعتقادية، وعاشرة بالجميع حسبما أُوتي من المقدرة.

          ولا شكّ أنّ التفاسير مختلفة من حيث الاتجاه والاهتمام، إما لاختلاف أذواق المفسِّرين وكفاءاتهم ومؤهِّلاتهم، أو لاختلاف بيئاتهم وظروفهم، أو غير ذلك من العوامل.

          وإن شئت أن تُفرِّق بين البحثين فنأتي بكلمة موجزة، وهي أنّ البحث في المناهج بحث عن الطريق والأسلوب، والبحث في الاهتمامات بحث عن الأغراض والأهداف الّتي يتوخّاها المفسِّر، وتكون علّة غائية لقيامه بالتأليف في مجال القرآن5.

          وعرّف بعض الباحثين المنهج والاتجاه بما يلي:

          المنهج: هو الاستفادة من الوسائل والمصادر الخاصّة في تفسير القرآن والّتي يمكن من خلالها تبيين معنى ومقصود الآية والحصول على نتائج مشخَّصة.

          وبعبارة أخرى: إنّ كيفية كشف واستخراج معاني ومقاصد آيات القرآن الكريم هو ما يطلق عليه "منهج التفسير".

          الاتجاه: هو تأثير الاعتقادات الدِّينية، الكلاميّة، والاتجاهات العصريّة وأساليب كتابة التفسير، والّتي تتكوّن على أساس عقائد واحتياجات وذوق وتخصُّص المفسِّر6.


          60
          تقسيم المناهج التفسيريّة

          قُسِّمت المناهج التفسيريّة تقسيمات متعدِّدة من جهات مختلفة، وسوف نختار التقسيم المشهور وذلك من خلال ما يلي:

          صحيح ومعتبر باطل وغير معتمد
          تفسير القرآن بالقرآن التفسير بالرأي
          التفسير الروائي (على أساس السنّة) بعض طرق التفسير الإشاري والعلمي
          العلمي (العلوم التجريبية)
          العقلي (الاجتهادي)
          الإشاري (العرفان)
          الكامل (جميع الطرق المتقدّمة)
          المنهج الكامل في التفسير

          المقصود بذلك هو المنهج الّذي يستفيد من جميع هذه الطرق (المناهج المذكورة سابقاً غير التفسير بالرأي، وبعض طرق التفسير الإشاري والعلمي) لكي يتبيّن مقصود الآيات بصورة كاملة من جميع الجوانب.

          إنّ التفسير الصحيح والمعتبر هو الّذي يستفيد من جميع هذه المناهج (الخمسة) في مكانها المناسب. وقد لا يكون هناك استخدام لبعض المناهج في بعض الآيات، فمثلاً قد لا توجد رواية في تفسير بعض الآيات أو لا توجد إشارة علميّة (العلوم التجريبية) في بعض الآيات، فإذاً المنهج الكامل المستخدَم في مورد تلك المجموعة من الآيات هو الّذي يمكن أن يستفيد قدر الإمكان، من المناهج المناسبة والمتعدِّدة، ومن الطبيعي أنّ عدد المناهج المستخدَمة يرتبط بالآية وإمكانية الاستفادة من المناهج الصحيحة في هذا المجال.


          61
          ملاحظة: إنّ التفسير بالرأي لا يعتبر تفسيراً صحيحاً ومعتبراً؛ وفي الحقيقة لا يعتبر تفسيراً للقرآن (بيانه في بحث التفسير بالرأي). فذكره بين أنواع المناهج التفسيريّة هو من أجل رَدِّه والتنبيه على خطره؛ أي إنّنا إذا تعرّضنا للمناهج التفسيريّة بصورة عامّة (أعمّ من كونها صحيحة أو خاطئة)، فحينئذٍ سيدخل التفسير بالرأي في نطاقها، وسوف نقوم بدراسة وبحث كلّ من هذه المناهج وأقسامها الفرعية وكيفية اعتبارها فيما بعد.

          تقسيم الاتجاهات التفسيريّة

          يمكن تقسيم الاتجاهات التفسيريّة إلى أقسام فرعية على أساس الاعتقادات، والأفكار، والاتجاهات العصريّة، وطريقة الترتيب، والذوق والتخصّص العلمي للمفسِّرين، وإليك البيان:

          1ـ المذاهب التفسيريّة

          فسَّرَ أصحاب المذاهب الإسلامية آيات القرآن على أساس العقائد الّتي يؤمنون بها فربّما يختار المفسِّر في تفسيره أحد المذاهب، أو يتّخذ طريقة خاصّة. فمثلاً اعتنى مفسِّرو الشيعة طبقاً لإرشادات أئمّتهم بظاهر وباطن القرآن والآيات المتعلّقة بأهل البيت، فقد راعوا عصمة الأنبياء في تفسيرهم لآيات القرآن و...

          ومن هنا نشأ أسلوب خاصّ في التفسير. كما لجأت الفرقة الإسماعيلية إلى التفسير الباطني والرمزي، أمّا الخوارج فلهم أسلوبهم الخاصّ في التفسير. وعلى هذا فقد اتخذ كلّ منهم مذهباً خاصّاً في التفسير، ويمكن أن نلحق تفاسير الصوفية بالمذاهب التفسيريّة كذلك.


          62
          2- المدارس التفسيريّة (الاتجاهات الكلاميّة)

          أقدمَ بعض أصحاب المدارس الكلاميّة كالمعتزلة والأشاعرة على تفسير القرآن على أساس ميولهم الفكريّة، فمثلاً كتب الزمخشري تفسيره الكشّاف بإسلوب كلامي.

          3- الألوان التفسيريّة

          ذهب المفسِّرون الّذين لهم تخصُّص أو اهتمام بعلم من العلوم إلى كتابة تفاسيرهم على أساس ذلك التخصُّص أو الاهتمام؛ فأكثروا من طرح المباحث الّتي تخصّصوا بها. ومن هنا ظهرت اتجاهات وألوان تفسيريّة متعدِّدة منها: اللون الأدبي، الفقهي، الاجتماعي، العرفاني، الأخلاقي، التاريخي و...

          4- الاتجاهات العصريّة في التفسير


          قد يذهب بعض المفسِّرين إلى أحد الاتجاهات في التفسير نتيجة للظروف المحيطة به ونتيجة لعامل الاحتياج والضرورة، فربّما تكون المسائل المعنويّة والتربويّة والأخلاقيّة من أهمّ المسائل في عصر المفسِّر؛ فيتوجّه إلى الآيات الأخلاقيّة والمعنويّة في تفسيره بصورة أكثر من غيرها (كما هو الحال في تفسير في ظلال القرآن و...).

          وربّما تكون عناية المفسِّر بالأُمور الجهاديّة والسياسيّة ومناهضة الاستبداد فتحدو به هذه العناية إلى التركيز على الآيات المتعلِّقة بهذا الموضوع أكثر من غيرها.

          وقد يكون هَمُّ المفسِّر هو الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب، فيأخذ تفسيره مثل هذا الطابع.


          63
          ملاحظة حول طرق كتابة التفسير

          يختلف أسلوب الكتابة عند المفسِّرين؛ فهي تتفاوت على أساس الذوق ومراعاة حال المخاطَب. فقد يكون التفسير ترتيبيّاً؛ أي تفسير القرآن آية آية ومن أوّله إلى آخره، كما هو الحال في تفسير (الميزان، والأمثل، ومجمع البيان). أو قد يكون موضوعيّاً فيختار المفسِّر أحد المواضيع ويجمع كلّ ما يتعلّق به في جميع الآيات والسور ثمّ يخرج بنتيجة معيّنة مثل (تفسير نفحات القرآن، لآية الله مكارم الشيرازي؛ ومنشور جاويد لآية الله السبحاني و...).

          وربَما يُكتَب التفسير بصورة مختصرة أو متوسطة أو مفصّلة؛ أي من حيث الحجم والكميّة كما هو الحال في التفاسير: الأصفى، والمصفّى، والصافي للمرحوم الفيض الكاشاني، وكذلك التفاسير: الوجيز، والجوهر الثمين، وصفوة التفاسير للمرحوم عبد الله شبّر، وأيضاً التفاسير الثلاثة للمرحوم الطبرسي وهي: جوامع الجامع، ومجمع البيان، والكافي الشافي، فالأوّل مختصر والثاني متوسّط والثالث مفصّل. وربَما يأتي التفسير على شكل متن وشرح فتكون الآية متناً والتفسير شرحاً للآية، وقد يختلط التفسير بالآيات بصورة مزجيّة مثل تفسير شُبَّر ونفحات الرحمن للنهاوندي.

          وفي بعض الأحيان يكون التفسير شاملاً لجميع آيات القرآن مثل مجمع البيان، وأُخرى ناقصاً ومُشتملاً على سورة واحدة أو عدد من السور، أو حتّى مجموعة من السور مثل تفسير أحكام القرآن للراوندي الّذي يشتمل على الآيات الفقهية فقط وتفسير آلاء الرحمن للبلاغي وهو تفسير ناقصٌ.

          آراء المتخصّصين في تقسيم المناهج والاتجاهات


          تعتبر هذه المباحث من العلوم الجديدة في مجال تفسير القرآن، وهي


          64
          في حالة نمو وتطوّر، وفي كلّ سنة تُحرّر مقالات وتُدوّن كتب عديدة في هذا المجال، وتطرح آراء جديدة. فلا مانع من وجود بعض النواقص في تقسيم المتخصّصين في هذا المجال، باعتبارهم أصحاب الخطوة الأولى في هذا المجال، ونحن نشير هنا إلى أهمّ وأشهر هذه التقسيمات:

          1- تقسيم جولدزيهر7

          تناول هذا المستشرق التفسير أوّلاً، ثمّ التفسير بالرأي. وذكر الروايات الواردة في مذمّته. وبعد ذلك قسّم التفسير على ضوء العقائد؛ فذكر طريقة المعتزلة في التفسير ونماذج من كلامهم، وفي فصل آخر تناول طريقة الصوفية في التفسير والمنهج الإشاري وتأثّرهم بـ (فيلون)8 ، ثمّ ذكر تفسير إخوان الصفا والإسماعيلية الباطنية. وفي فصل آخر قسّم التفسير على ضوء الفرق الدِّينية. فذكر تفسير الشيعة، الخوارج، الغُلاة و... وأخيراً ذكر التفاسير الجديدة في العالَم الإسلامي: منهج سيد أمير علي في الهند بعنوان المعتزلة الجُدد، ومنهج السيّد جمال الدِّين الأفغاني والحركة الجديدة في مصر ومنهج محمّد عبده صاحب المنار9.

          والمستشرق المذكور هو أحد المبدعين لهذا البحث وهو أوّل من خطا الخطوات الأولى في هذا البحث ومع هذا فإنّ كتابه لا يخلو من إشكالات؛ فليس هناك نظام منطقي حاكم على هذه المباحث، ولم يتناول بحث المناهج (مثل منهج التفسير بالمأثور) والاتجاهات بصورة كاملة.


          65
          2- تقسيم الدكتور الذهبي

          بعد أن تناول التطوّر التأريخي للتفسير من عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فما بعده، قام الذهبي بتقسيم التفسير إلى فرعين رئيسين، وهما:

          - التفسير بالمأثور (الروائي).

          - التفسير بالرأي.


          ثمّ قسّم التفسير بالرأي إلى فرعين أيضاً: ممدوح (التفسير العقلي) ومذموم10. ثمّ اعتبر التفسير بالرأي المذموم هو تفسير الفرق والمذاهب وهي: المعتزلة الشيعة (الإثنى عشرية) والشيعة الإسماعيلية، والشيعة الزيدية، والبهائية والخوارج، والصوفية، والتفسير العلمي.

          ويبدو أنّ تقسيم الدكتور الذهبي لا يتمتّع بنظام منطقي؛ لأنّه يستخدم التفسير النقلي (المأثور) في مقابل التفسير العقلي والاجتهادي، بالإضافة إلى أنّ تقسيم التفسير بالرأي إلى ممدوح ومذموم غير صحيح، وسيأتي بيان ذلك في بحث منهج التفسير بالرأي والمنهج العقلي في التفسير، كما أنّه خلط في تقسيمه المذكور بين المذاهب التفسيريّة والمدارس؛ لأنّ فرق الشيعة تقع في قبال فرق أهل السنة وليس في مقابل الفرق الكلامية (مثل المعتزلة)، إلّا إذا كان المقصود بالشيعة هم متكلّمو الشيعة.

          3- تقسيم آية الله معرفة


          قسّم سماحة الشيخ معرفة التفسير إلى فرعين:

          أ- التفسير بالمأثور، ويشمل:

          1ـ تفسير القرآن بالقرآن.


          66
          2ـ تفسير القرآن بالسنّة.

          3ـ تفسير القرآن بأقوال الصحابة.

          4ـ تفسير القرآن بأقوال التابعين.

          ب- التفسير الاجتهادي (أي على أساس النظر والاستدلال العقلي).

          ثمّ ذكر أنّ هذه الطريقة تقسّم على أساس القدرة العلميّة وأنواع العلوم الّتي يمتلكها المفسِّرون إلى ألوان مختلفة مثل: اللون المذهبي/ الكلامي/ الفلسفي/ الفقهي/ العلمي... ويعتبر هذا التقسيم أفضل من تقسيم الدكتور الذهبي بكثير، ولكنّه اعتبر طرق التفسير العلمي والعرفاني من الألوان التفسيريّة في حين يمكن أن نعدّها من المناهج ومن الألوان أيضاً.

          هوامش
          1- قال تعالى: ï´؟وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْï´¾(سورة النحل، الآية: 44).
          2- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 6.
          3- ستأتي الإشارة إلى المنهج الإشاري في الدرس الخامس عشر.
          4- سنتعرض لكل هذه المناهج في بحوث هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
          5- المناهج التفسيريّة في علوم القرآن، الشيخ جعفر السبحاني، ج 4، ص 20 21، دار الولاء، بيروت، 1426هـ 2005م.
          6- دروس في المناهج والاتجاهات التفسيريّة، محمّد علي الرضائي، تعريب قاسم البيضاني، ص 18ـ 19، المركز العالمي للدراسات الإسلامية، قم، 1426 هـ.
          7- Ignaz Goldzhe عليهم السلام (1850ـ 1921م) مستشرق يهودي مَجريّ، دَرسَ في بودابست، وبرلين، والأزهر في مصر.
          8- فيلون: فيلسوف يهودي مولود ما بين عشرين وثلاثين سنة قبل الميلاد. أنظر: التفسير والمفسّرون، الدكتور الذهبي، ج4، ص 259.
          9- جولدزيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة: الدكتور عبد الحليم النجّار. تفسير المنار كان من أوّل القرآن إلى الآية 126 من سورة النساء بإنشاء الشيخ محمّد عبده ثمّ سار تلميذه السيّد رشيد رضا بإكمال هذا التفسير على نهج أستاذه حتّى سورة يوسف. أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 1011.
          10- التفسير والمفسّرون، الدكتور الذهبي، ج 1، ص 255 284.

          تعليق

          يعمل...
          X