إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

دراسات في مناهج التفسير 11و12و13و14و15

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دراسات في مناهج التفسير 11و12و13و14و15

    الدرس الحادي عشر: الدسائس الإسرائيلية في تفسير القرآن(نموذج تطبيقي)
    أهداف الدرس

    1- أن يطّلع الطالب على نموذج من الإسرائيليات
    2- أن يتعرّف إلى التفسير الصحيح للنموذج المذكور


    123
    الإسرائيليات في قصّة داوود عليه السلام

    من الإسرائيليات الّتي تحطّ من مقام الأنبياء عليهم السلام ، وتُنافي عصمتهم، ما ذكره بعض المفسّرين في قصّة نبيّ الله داوود عليه السلام عند تفسير قوله تعالى:

    ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ1.

    فقد ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبغويّ، والسيوطيّ في الدّر المنثور2 من الأخبار ما تقشعرّ منه الأبدان، ولا يوافق عقلاً، ولا نقلاً، عن ابن عبّاس، ومجاهد، ووهب بن منبّه، وكعب الأحبار، والسدّيّ، وغيرهم ما مُحصَّلها: أنّ


    125
    داوود عليه السلام حدّث نفسه؛ إن ابتُلي أن يعتصم، فقيل له: إنّك ستبتلى وستعلم اليوم الّذي تبتلى فيه، فخذ حذرك، فقيل له: هذا اليوم الّذي تبتلى فيه، فأخذ الزبور ، ودخل المحراب، وأغلق بابه، وأقعد خادمه على الباب، وقال: لا تأذن لأحد اليوم. فبينما هو يقرأ الزبور3، إذ جاء طائر مذهّب يدرج بين يديه، فدنا منه، فأمكن أن يأخذه، فطار فوقع على كوّة المحراب، فدنا منه ليأخذه، فطار، فأشرف عليه لينظر أين وقع، فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل...4 ، وكان زوجها غازياً في سبيل الله، فكتب داوود إلى رأس الغزاة: أن اجعله في حملة التابوت5 ، وكان حملة التابوت إمّا أن يُفتح عليهم، وإمّا أن يُقتلوا، فقدّمه في حملة التابوت، فقُتل.

    وفي بعض هذه الروايات الباطلة: أنّه فعل ذلك ثلاث مرّات، حتّى قُتل في الثالثة، فلمّا انقضت عدّتها، خطبها داوود عليه السلام ، فتسوّر عليه الملكان، وكان ما كان، ممّا حكاه الله تعالى.

    ولم يقف الأمر عند هذه الروايات الموقوفة على بعض الصحابة والتابعين، ومسلمة أهل الكتاب، بل جاء بعضها مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم !!

    الكذب على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

    ومن ثمّ يتبيّن لنا كذب هذه الرواية المنكرة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا نصدّق، بورود هذا عن المعصوم، وإنّما هي اختلاقات، وأكاذيب من إسرائيليات أهل الكتاب، وهل يشكّ مؤمن عاقل يقرّ بعصمة الأنبياء عليهم السلام ، في استحالة صدور هذا عن النبيّ داوود عليه السلام ، ثمّ يكون على لسان مَن؟ على لسان مَن كان حريصاً


    126
    على تنزيه إخوانه الأنبياء عليهم السلام عمّا لا يليق بعصمتهم، وهو نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ومثل هذا التدبير السيّئ، والاسترسال فيه على ما رووا، لو صدر من رجل من سوقة الناس وعامّتهم، لاعتُبر أمراً مستهجناً مستقبحاً، فكيف يصدر من رسول جاء لهداية الناس، زكت نفسه، وطهرت سريرته، وعصمه الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو الأسوة الحسنة لمن أُرسل إليهم؟!!

    ولو أنّ القصّة كانت صحيحة لذهبت بعصمة النبيّ داوود عليه السلام ، ولنفرت منه الناس، ولكان لهم العذر في عدم الإيمان به، فلا يحصل المقصد الّذي من أجله أرسل الرسل، وكيف يكون على هذه الحال من قال الله تعالى في شأنه:
    ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ؟ قال ابن كثير في تفسيرها: "وإنّ له يوم القيامة لقربة يقرّبه الله عزّ وجلّ بها وحسن مرجع، وهو الدرجات العالية في الجنّة لنبوّته وعدله التامّ في مُلكه"6.

    ولكي يستقيم هذا الباطل قالوا: إنّ المراد بالنعجة هي المرأة، وأنّ القصّة خرجت مخرج الرمز والإشارة، ورووا: أنّ الملكين لمّا سمعا حكم داوود، وقضاءه بظلم صاحب التسع والتسعين نعجة لصاحب النعجة، قالا له: وما جزاء من فعل ذلك؟ قال: يقطع هذا، وأشار إلى عنقه. وفي رواية: "يضرب من ها هنا، وها هنا، وها هنا وأشار إلى جبهته، وأنفه، وما تحته، فضحكا، وقالا،:أنت أحقّ بذلك منه، ثمّ صعدا".

    وذكر البغويّ في تفسيره وغيره، عن وهب بن منبّه: أنّ داوود لمّا تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة، لا يرقأ دمعه ليلاً ونهاراً، وكان أصاب الخطيئة، وهو ابن سبعين سنة، فقسّم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيّام: يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسيح في الفيافي، والجبال، والسواحل،


    127
    ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه، فيساعدونه على ذلك. فإذا كان يوم نياحته يخرج في الفيافي، فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، ويبكي معه الشجر، والرمال، والطير، والوحش، حتّى يسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثمّ يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، وتبكي معه الجبال، والحجارة، والدوابّ، والطير، حتّى تسيل من بكائهم الأودية، ثمّ يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، ويبكي معه الحيتان، ودوابّ البحر وطير الماء والسباع7. والحقّ: إنّ الآيات ليس فيها شيء ممّا ذكروا، وليس هذا في شيء من كتب الحديث المعتمدة والّتي عليها المعوّل، وليس هناك ما يصرف لفظ النعجة من حقيقته إلى مجازه، ولا ما يصرف القصّة عن ظاهرها إلى الرمز والإشارة.

    وما أحسن ما قال الإمام القاضي عيّاض: "لا تلتفت إلى ما سطّره الأخباريّون من أهل الكتاب، الّذين بدّلوا، وغيّروا، ونقله بعض المفسِّرين، ولم ينصّ الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه، ولا ورد في حديث صحيح، والّذي نصّ عليه في قصّة داوود:
    ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ وليس في قصّة داوود، وأوريا خبر ثابت8.

    والمحقّقون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي، قال الداوديّ: ليس في قصّة داوود وأوريا خبر يثبت، ولا يُظنّ بنبيٍّ محبّةُ قتلِ مسلم، وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "من حدّث بحديث داوود على ما يرويه القُصّاص جلدته مائة وستّين جلدة"، وذلك حدّ الفرية على الأنبياء9 ، وهذا الكلام مرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام أيض10.


    128
    التفسير الصحيح للآيات

    وإذا كان ما روي في تفسير هذه الآيات من الإسرائيليات الباطلة، فما التفسير الصحيح لها؟

    والجواب: إنّ الذي أوضحه القرآن المجيد في هذا الشأن لا يتعدّى أنّ شخصين تسوّرا جدران محراب النبيّ داوود عليه السلام ليحتكما عنده، وأنّه فزع عند رؤيتهما ، ثم استمع إلى أقوال المشتكي الّذي قال: إنّ لأخيه تسع وتسعون نعجة وله نعجة واحدة، وإنّ أخاه طلب منه ضمّ هذه النعجة إلى بقيّة نعاجه، فأعطى النبي داوود عليه السلام الحقّ للمشتكي، واعتبر طلب الأخ ذلك من أخيه ظلماً وطغياناً، فالتفت النبي داود عليه السلام إلى المدّعي قبل أن يستمع كلام الآخر، وقال: من البديهي أنّه ظلمك بطلبه ضمّ نعجتك إلى نعاجه.

    على أيّة حال، فالظاهر أنّ طرفي الخصام اقتنعا بكلام النبي داوود عليه السلام وغادرا المكان. ولكن النبي داوود غرق في التفكير بعد مغادرتهما، رغم أنّه كان يعتقد أنّه قضى بالعدل بين المتخاصمين ، فلو كان الطرف الثاني مخالفاً لإدعاءات الطرف الأوّل - أي المدّعي - لكان قد اعترض عليه، إذاً فسكوته هو خير دليل على أنّ القضية هي كما طرحها المدّعي. ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على النبي داوود عليه السلام أن يتريّث في إصدار الأحكام ولا يتعجّل في إصدارها، وكان عليه أن يسأل الطرف الثاني أيضاً ثمّ يحكم بينهما، فلذا ندم كثيراً على عمله هذا، وظنّ أنّما فتنه الباري عزّ وجل بهذه الحادثة. وهنا أدركته طبيعته، وهي أنّه أوّاب، إذ طلب العفو والمغفرة من ربّه وخرّ راكعاً تائباً إلى الله العزيز الحكيم.

    وهنا تبرز مسألتان دقيقتان أيضاً: الأولى مسألة الامتحان ، والثانية مسألة الاستغفار. القرآن الكريم لم يفصّل الحديث بشأن هاتين المسألتين، إلّا أنّ الدلائل الموجودة في هذه الآيات والروايات الإسلامية الواردة بشأن تفسيرها


    129
    تقول: إنّ النبي داوود عليه السلام كان ذا علم واسع وذا مهارة فائقة في أمر القضاء، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحنه، فلذا أوجد له مثل تلك الظروف غير الاعتيادية ، كدخول الشخصين عليه من طريق غير اعتيادي وغير مألوف، إذ تسوّرا جدران محرابه، وابتلائه بالاستعجال في إصدار الحكم قبل الاستماع إلى أقوال الطرف الثاني ، رغم أنّ حكمه كان عادلاً. ورغم أنّه انتبه بسرعة إلى زلّته، وأصلحها قبل مضي الوقت ، ولكن مهما كان فإنّ العمل الّذي قام به لا يليق بمقام النبوّة الرفيع، ولهذا فإنّ استغفاره إنّما جاء لتركه العمل بالأولى، وإنّ الله شمله بعفوه ومغفرته. والشاهد على هذا التفسير هو الآية التي تأتي مباشرة بعد تلك الآيات، والتي تخاطب النبي داوود عليه السلام: يا داوود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. وهذه الآية تبيّن أنّ زلة النبي داوود كانت في كيفية قضائه وحكمه. وبهذا الشكل فإنّ الآيات المذكورة أعلاه لا تذكر شيئاً يقلّل من شأن ومقام هذا النبي الكبير11.

  • #2
    الدرس الثاني عشر: منهج التفسير العقلي والاجتهادي للقرآن
    أهداف الدرس

    1-
    أن يتعرّف الطالب إلى المنهج العقلي في التفسير
    2- أن يتعرّف إلى الآراء في بيان معنى التفسير العقلي
    3- أن يطّلع على أدلّة المجوّزين للمنهج العقلي


    131
    تمهيد

    يحظى منهج التفسير العقلي (الذي عُرِّف بتعاريف كثيرة) بمنزلة خاصّة بين مناهج التفسير، وقد اتّخذت المذاهب الكلامية (الشيعة، المعتزلة، الأشاعرة...) بأزاء هذا المنهج مواقف مختلفة، وقد يطلق عليه في بعض الأحيان منهج التفسير الاجتهادي، وقد يُذكر كأحد أقسام منهج التفسير بالرأي، وقد يُنظر إليه بنظرة مساوية للاتجاه الفلسفي في التفسير.

    المراد من التفسير العقلي الاجتهادي

    لكي يتوضّح المقصود من منهج التفسير العقلي الاجتهادي لا بدّ من بيان معنى هاتين المفردتين وهما:

    أ- العقل:

    في اللغة:
    هو بمعنى الإمساك، والحفظ، ومنع الشيء.

    في الاصطلاح: يطلق على معنيين:

    1- القوّة المستعدّة لحصول العلم، وهي نفس ذلك الشيء الّذي بفقدانه يرتفع التكليف عن الإنسان، وقد ورد مدح العقل في أحاديث كثيرة.


    133
    2- العلم الّذي يحصل عليه الإنسان بواسطة هذه القوّة، وقد ورد هذا المعنى في القرآن عندما ذمّ الكافرين بسبب عدم التعقّل، وقد استُدلَّ على هذا المعنى بأحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

    والنتيجة: يستفاد ممّا تقدّم أنّ العقل قد يطلق على القوّة المفكّرة تارة، وأخرى على مدركات هذه القوّة، أي العلوم المكتسبة.

    ولهذا فإنّ العقل ينقسم إلى العقل الفطري والعقل الاكتسابي، وقد يُقسّم إلى عقل نظري وعقل عملي1.

    ب- الاجتهاد

    المقصود بالاجتهاد هنا هو بذل الجهد الفكري واستخدام قوّة العقل في فهم آيات القرآن ومقاصده، وعلى هذا فاستعمال الاجتهاد هنا أعمّ من الاجتهاد الاصطلاحي في علم الفقه؛ لأنّه يشمل آيات الأحكام وغيرها، أي أنّ التفسير الاجتهادي يكون في قِبال التفسير النقلي؛ ففي التفسير النقلي يتمّ التأكيد على النقل أكثر من غيره، أمّا في التفسير الاجتهادي فيتمّ التأكيد على العقل والنظر.

    تاريخ العمل بالمنهج العقلي للتفسير


    يمتلك منهج التفسير الاجتهادي العقلي ماضياً قديماً، وقد حصل في وقتٍ مبكّر، في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي علّم أصحابه كيفيّة الاجتهاد العقلي في فهم النصوص الشرعية (من الكتاب والسنّة) ويمكن أن نجد نماذج من التفسير


    134
    العقلي في الأحاديث التفسيريّة لأهل البيت عليهم السلام ، وكذا في عهد التابعين، حيث انفتح باب الاجتهاد وإعمال الرأي والنظر في التفسير، وشاع النقد والتمحيص في المنقول من الآثار والأخبار. ولم تزل تتوسّع دائرة ذلك مع مرور الزمن. نعم، كانت آفة ذلك لدى الخروج عن دائرة التوقيف، وولوج باب النظر وإعمال الرأي أن ينخرط التفسير في سلك التفسير بالرأي الممقوت عقلاً، والممنوع شرعاً.

    ووصل هذا المنهج إلى أوج تطوّره فيما بعد على يد المعتزلة، وظهرت عند الشيعة تفاسير عقلية مثل تفسير التبيان للشيخ الطوسي (385 460هـ)، ومجمع البيان للطبرسي (ت: 548هـ)، وكذلك التفسير الكبير للفخر الرازي عند أهل السنّة، وقد بلغ هذا التطوّر مدىً بعيداً في تفسير الميزان للطباطبائي عند الشيعة وروح المعاني للآلوسي (ت: 1270هـ).

    ومن الأمثلة على استخدام هذا المنهج في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما رواه عبد الله بن قيس، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول:
    ï´؟بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِï´¾2 ، فقلت: له يدان هكذا وأشرت بيدي إلى يديه ـ؟ فقال: "لا، لو كان هكذا كان مخلوقاً"3.

    ففي هذا الحديث استفاد الإمام عليه السلام من العقل في تفسير الآية ونفي اليد المادّية عن الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ وجود مثل هذه اليد يستلزم الجسميّة والمخلوقيّة لله، وهو سبحانه منزّه عن هذه الصفات (فالمقصود من اليد هنا هو القدرة الإلهيّة).وهناك نماذج من التفاسير العقلية وصلتنا عن طريق أحاديث أهل البيت عليهم السلام بخصوص العرش والكرسي. وقد استفاد الإمام عليّ عليه السلام في بعض خطب نهج البلاغة من مقدّمات عقلية لتفسير آيات القرآن الكريم4.


    135
    الاختلاف في معنى التفسير العقلي

    تضاربت آراء العلماء حول مفاد منهج التفسير العقلي، وتعدّدت الأقوال بشأن معناه، فكلّ شخص يحكم على هذا المنهج على أساس فهمه، وسوف نستعرض أهمّ الآراء في هذا الموضوع:

    1ـ الاستفادة من القرائن العقلية كأداة في التفسير:
    وذلك لفهم معاني الألفاظ والجمل، ومن جملتها القرآن والحديث، فمثلاً عندما يقال:
    ï´؟يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْï´¾5 ، فالعقل يقول: بأنّه ليس المقصود من اليد هنا هو هذه الجارحة الّتي تحتوي على خمسة أصابع، لأنّ الله تعالى ليس بجسم، وإنّ كلّ جسم فهو محدود وفانٍ، والله ليس محدوداً ولا يفنى، وهو أزلي أبدي، بل المقصود من ذلك هو قدرة الله تعالى، فإطلاق اليد على القدرة إطلاق مجازي.

    إذاً ليس المراد من التفسير العقلي الآراء والأذواق الشخصية أو الأفكار الخيالية الّتي لا أساس لها.

    2ـ التفسير العقلي هو التفسير الاجتهادي نفسه: فقد ذكر البعض أنّ التفسير الاجتهادي يعتمد العقل والنظر أكثر ممّا يعتمد النقل والأثر؛ ليكون المناط في النقد والتمحيص هو دلالة العقل الرشيد والرأي السديد، وأنّ أحد خصائص تفسير التابعين هو الاجتهاد في التفسير والاعتماد على الفهم العقلي "فأعملوا النظر في كثير من مسائل الدِّين، ومنها مسائل قرآنية كانت تعود إلى معاني الصفات، وأسرار الخليقة، وأحوال الأنبياء والرسل وما شاكل. فكانوا يعرضونها على شريعة العقل ويحاكمونها وفق حكمه الرشيد، وربّما يؤوّلونها إلى ما يتوافق مع الفطرة الإنسانية"6. وهذا الرأي كما هو واضح يجعل التفسير العقلي والاجتهادي بمعنى واحد.


    136
    3ـ التفسير العقلي نوع من أنواع التفسير بالرأي: فقد جعل بعضهم التفسير العقلي في مقابل التفسير النقلي، وأنّه يعتمد على الفهم العميق والمركّز لمعاني الألفاظ القرآنية الّتي تنتظم في سلكها تلك الألفاظ وفَهْمِ دلالتها، ثمّ سمّى هذا البعض التفسير العقلي بالتفسير بالرأي7.

    كما: أشار الدكتور الذهبي إلى نفس هذا الرأي فقال: "والمراد هنا الاجتهاد، وعليه فالتفسير بالرأي عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد"8.

    ولكن سيتّضح في مبحث التفسير بالرأي أنّ هذا التفسير هو غير التفسير العقلي أو الاجتهادي، وأنّ هناك اختلافات رئيسة بينهما. ففي التفسير بالرأي يُقدم شخص المفسِّر على التفسير؛ على أساس الذوق والنظر الشخصي بدون مراعاة القرائن النقليّة والعقلية، أمّا بالنسبة إلى التفسير العقلي فإنّ المفسِّر يأخذ بنظر الاعتبار القرائن النقليّة والعقلية في التفسير. وكذلك بالنسبة إلى التفسير الاجتهادي فقد اتّضح أنّ الاجتهاد على نوعين:

    1- هو الاستنباط دون مراجعة القرائن العقلية والنقلية وهو ما يعتبر نوعاً من التفسير بالرأي.

    2- هو الاجتهاد الصحيح والمعتبر وهو الّذي يأخذ بنظر الاعتبار القرائن العقلية والنقليّة، وهذا التفسير لا يعتبر من التفسير بالرأي.

    والحاصل أنّه مع تعدّد هذه الآراء من القول بأنّ التفسير الاجتهادي وفقاً للرأي المشهور يُعتبر من أقسام التفسير العقلي، لأنّه يستفاد في هذا النوع من التفسير من قوّة الفكر والعقل في تجميع المسائل والمواضيع.


    137
    أدلّة جواز الاعتماد على المنهج العقلي في التفسير

    اختلف العلماء حول جواز هذا المنهج في التفسير وعدمه، وقد استدلّ القائلون بالجواز بأدلّة متعدّدة منها:

    1ـ القرآن الكريم

    فقد اهتمّ القرآن الكريم كثيراً بدعوة الناس إلى التعقّل والتفكّر في آياته9 ، بل إنّه ذمّ الّذين لا يتدبّرون القرآن10. فإذا لم يكن للعقل اعتبار ومنزلة عند الله تعالى، فإنّ هذا الخطاب سيُصبح حينئذٍ عديم الفائدة وبدون معنى، وما نتيجة التدبّر والتفكّر في آيات الله إلّا التفسير العقلي والاجتهادي.

    2ـ الروايات

    يحتلّ العقل مكانة خاصّة في الأحاديث وله موقع متميّز فيها، فقد ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام أنّه قال: "يا هشام إنّ لله حُجّتين، حجّة ظاهرة وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول"11.

    فإذا كان العقل حجّة باطنة، وجب أن يكون الشيء الّذي يُدركه ويحكم به بصورة قطعيّة، حجّة على الإنسان، وواجب الاتّباع، وإلّا فإنّ الحجيّة تصبح لا معنى لها.

    3ـ السيرة

    نسب بعض العلماء هذا المنهج إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام ، وهناك نماذج


    138
    من هذا المنهج في أقوال الأئمة، وإنّ فعل وقول المعصوم يدلّ على جواز ذلك في أقلّ التقادير، إضافة إلى السيرة المستمرّة لكبار المفسّرين.

    4ـ بناء العقلاء

    إنّ طريقة بناء العقلاء في التفسير الاجتهادي، هي التمسّك بظاهر كلام المتكلّم، واستخراج مقاصده ومعاني كلامه عن طريق القواعد الأدبيّة، والدلالات اللفظية والقرائن الموجودة، والمشرِّع الإسلامي لم يمنع من هذه الطريقة العقلائية ولم يخترع طريقة جديدة في التعامل.

    وفي مقابل ذلك ذهب بعض آخر إلى عدم جواز الاعتماد على هذا المنهج في التفسير متمسّكاً بجملة أدلّة منها: ما روي عن الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: "إنّ دين الله لا يُصاب بالعقول"12 ، وببعض الروايات الّتي تشير إلى عدم جواز تفسير القرآن إلّا بالأثر الصحيح والنص الصريح.

    فإذاً منهج التفسير العقلي والاجتهادي طريق لا يوصل إلى نتيجة.

    وفي الجواب عن هذا الدليل نقول: إنّ هذا النوع من الأحاديث صدر في وجه المخالفين لأهل البيت عليهم السلام ، والذين لم يلتفتوا إلى القرائن النقليّة وكلام المعصومين عليهم السلام ، والذين يفتقدون شرائط الاجتهاد ويستخدمون التفسير بالرأي.

    وهذا الرأي تبنّاه الأشاعرة أيضاً لكونهم يعتقدون بأنّ منشأ كلّ تكليف هو حكم الشارع وليس العقل، ولا يُعتمد على إدراكات العقل كالاعتماد على حكم الشارع.


    139
    ولكن فات هؤلاء أنّ عقل الإنسان كاشف عن الحكم الشرعي، أي أنّ عقل الإنسان لا يُصدر حكماً مخالفاً للحكم الشرعي، وقد اتّضح في أصول الفقه أنّه: "كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع".

    140
    هوامش
    1- هناك تعاريف كثيرة للعقل النظري والعقل العملي، فقد يكون الاختلاف بينهما من حيث الإدراك، فإن كان الإدراك متعلّقاً بالعمل، وبما يجب أن يُعمل ويطبّق على الحياة كقولنا: العدل حسن والظلم قبيح فيكون العقل عملياً، وأمّا إذا لم يكن الإدارك متعلّقاً بالعمل، أو بإدراك ما يجب أن يُعمل، كحاجة الممكن إلى العلّة، يكون العقل نظرياً.
    2- سورة المائدة، الآية: 64.
    3- تفسير نور الثقلين، الشيخ الحويزي، ج 1، ص 650، ح 279.
    4- أنظر: نهج البلاغة، الخطبة: 152ـ 184ـ 228.
    5- سورة الفتح، الآية: 10.
    6- التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 249.
    7- أصول التفسير وقواعده، خالد عبد الرحمن العكّ، ص 167، دار النفائس، بيروت، ط 3، 1414هـ.
    8- التفسير والمفسّرون، محمّد حسين الذهبي، ج 1، ص 255، دار الكتب الحديثة، ط 2، 1976م.
    9- راجع السور التالية: الأنبياء، الآية: 10، ويوسف، الآية: 2، والقمر، الآية: 17.
    10- راجع سورة محمّد، الآية: 24.
    11- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص6.
    12- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 2، ص 303.


    يتبع

    تعليق


    • #3
      الدرس الثالث عشر:منهج التفسير بالرأي
      أهداف الدرس

      1-
      أن يتعرّف الطالب إلى التفسير بالرأي
      2- أن يطّلع على تاريخ التفسير بالرأي
      3- أن يطّلع على أدلّة المانعين والموافقين للتفسير بالرأي
      4- أن يعدِّد أقسام ومصاديق التفسير بالرأي


      141
      تمهيد

      من العوامل الأساس الّتي أدّت إلى إعاقة حركة التفسير عند علماء المسلمين،بل تحوّلت في كثير من الحالات إلى مانع يصدّ عن التعاطي مع كتاب الله وعقبة تردع المفسّرين من ارتياد معانيه والغوص في أعماقه، الخطأ في فهم النصوص المستفيضة بل المتواترة الواردة عند الفريقين عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام الّتي تحدّثت عن ظاهرة تفسير القرآن بالرأي، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من فسَّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب"1 ، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "من فسَّر في القرآن برأية فليتبوّأ مقعده في النار"2.

      ويعتبر منهج التفسير بالرأي من المناهج المذمومة والمرفوضة في التفسير، وقد جاء بحث ودراسة هذا المنهج كما ذكرنا بسبب ورود الأحاديث في ذمّه، والأخطار المترتّبة على المفسّر في حالة استخدامه؛ والّتي قد تؤدّي به إلى الانحراف عن التفسير، وبالتالي يكون مصيره جهنّم كما ورد في الروايات، ولهذا السبب فإنّ معرفة هذا المنهج التفسيري والاحتراز عنه تحظى بأهميّة خاصّة عند المفسّرين.


      143
      وإذا أخذنا التفسير بمعناه العام (الصحيح والخاطئ)، فإنّ هذا المنهج (التفسير بالرأي) سوف يعدّ جزءاً من المناهج التفسيريّة؛ أمّا إذا كان مقصودنا من التفسير هو الصحيح فقط، فحينئذٍ يكون إطلاق اسم التفسير على التفسير بالرأي من باب المسامحة في التعبير ؛ لأنّ هذا المنهج لا يكشف ولا يبيّن المراد من آيات القرآن، بل يبيّن نظر ورأي المفسِّر.

      المراد من التفسير بالرأي

      الرأي: الأصل في معنى هذه الكلمة هو النظر بكلّ وسيلة، وتشمل النظر بالعين أو بالقلب أو عن طريق الشهود الروحاني أو بقوّة الخيال.

      وكلمة "الرأي" بمعنى: اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن. ويرى بعض المفسّرين أنّ القرآن والسنّة لم يستعملا "الرأي" بمعنى الإدراك العقلي. فإذاً يمكن أن يقال إنّ معنى "الرأي" هو العقيدة أو الانطباع الشخصي الّذي يتكوّن على أساس الظن3 وخلاصة القول في منهج التفسير بالرأي: إنّ الشيء المذموم أو الممنوع شرعاً، الّذي استهدفه حديث "من فسّر القرآن برأيه..."، أمران:

      1- أن يعمد شخص إلى آية قرآنية، فيحاول تطبيقها على ما قصده من رأي أو عقيدة أو مسلك، تبريراً لما اختاره في هذا السبيل، أو تمويهاً على العامّة.

      وهذا قد جعل القرآن وسيلة لإنجاح مقصوده بالذّات، ولم يهدف إلى تفسير القرآن في شيء.

      2- الاستبداد بالرأي في تفسير القرآن، محايداً طريقة العقلاء في فهم معاني الكلام، ولا سيّما كلامه تعالى، فإنّ للوصول إلى مراده تعالى من كلامه


      144
      وسائل وطرقاً، منها: مراجعة كلام السلف، والوقوف على الآثار الواردة حول الآيات، وملاحظة أسباب النزول، وغير ذلك من شرائط يجب توفّرها في مفسّر القرآن الكريم، فإغفال ذلك كلّه، والاعتماد على الفهم الخاصّ، مخالف لطريقة السلف والخلف في هذا الباب. ومن استبدّ برأيه هلك، ومن قال على الله بغير علم فقد ضلّ سواء السبيل4.

      الجذور التاريخية للتفسير بالرأي

      لا يوجد تشخيص دقيق لبداية هذا المنهج في التفسير؛ ولكن روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعض الروايات في ذمّ هذه الطريقة في التفسير؛ ولعلّ ذلك يكشف عن أنّ هذا المنهج بدأ في زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ولهذا فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر هذا التفسير وذمّ القائمين به.

      ثمّ طرحت هذه المسألة بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في زمان الأئمّة عليهم السلام ، فصدرت عنهم روايات متعدِّدة في ذمّ التفسير بالرأي، بل روي عن الإمام عليّ عليه السلام ، أنّه خاطب بعض الأفراد ونهاهم عن هذا النوع من التفسير، ثمّ انتشر هذا المنهج في العصور التالية في بعض كتب التفاسير، فأخذ بعض المفسّرين والفرق باتّهام بعضهم بعضاً في استخدام هذا المنهج، كما أتّهم بعض الكتّاب الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير وإخوان الصفا، وبعض الصوفية، وأحياناً الأشاعرة والمعتزلة باستخدام التفسير بالرأي، لتأويلهم آيات القرآن طبقاً لعقائدهم. وقد بلغ هذا المنهج أقصى ما وصل إليه في العصر الحاضر، حيث سعى بعض المنافقين مع ظهور المدارس الإلحادية والتفسير بالرأي أن يجذبوا شباب المسلمين إلى صفوفهم، وإخفاء مقاصدهم الإلحادية تحت هذا الستار، وقد


      145
      أطلق الشهيد المطهّري على هذا المنهج تسمية "المادّية المغفّلة"، أو "المادّية المنافقة".

      أدلّة المخالفين للتفسير بالرأي

      1- آيات القرآن الكريم، مثل:


      أ قوله تعالى:
      ï´؟قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَï´¾5.

      ب قوله تعالى:
      ï´؟وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌï´¾6.

      بيان الاستدلال:

      أ- إنّ التفسير بالرأي كلام غير علمي ينسب إلى الله تعالى؛ لأنّ المفسّر بالرأي لا يملك اليقين بالوصول إلى الواقع، وغاية ما يتوصّل إليه هو الظنّ.

      ب- إنّ نسبة الكلام غير العلمي إلى الله حرام؛ للنهي عن ذلك في القرآن كما في الآيتين المتقدّمتين؛ فالنتيجة هي حرمة التفسير بالرأي7.

      2- روايات المنع من التفسير بالرأي

      ثمّة روايات متعدّدة في مصادر الشيعة والسنّة يمكن تقسيمها إلى عدّة مجموعات:

      أ- الروايات الّتي تُدين وتذمّ التفسير بالرأي فقط وتذكر جزاءهم، منها:


      146
      ـ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار"8.

      ـ عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من فسّر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر"9.

      ـ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "قال الله جلّ جلاله: ما آمن بي مَنْ فسّر برأيه كلامي"10.

      ب- الروايات الّتي تعتبر التفسير بالرأي نوعاً من أنواع الكذب والقول بغير علم، منها:

      ـ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من فسَّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب"11.

      ـ وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار"12.

      ج- الروايات الّتي تدين التفسير بالرأي من جهة كونه ضلالاً، منها:

      ـ عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "ويحك يا قتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت"13.

      د- الأحاديث الّتي تدين التفسير بالرأي وإن كانت النتيجة صحيحة، منها:

      ـ عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ فهو أبعد من السماء"14.

      أدلّة القائلين بجواز التفسير بالرأي

      1- الآيات القرآنية الّتي تحثّ على التفكّر والتدبّر، منها:


      147
      قوله تعالى: ï´؟أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَï´¾15 ، ومنها الآية الّتي تشير إلى مسألة الاستنباط من القرآن وهي: قوله تعالى: ï´؟وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْï´¾16.

      فقد ورد الحثّ في هذه الآيات على التفكّر والتدبّر في آيات القرآن، وأشارت الآية الأولى إلى أنّ أصحاب العقول والفهم يمكنهم الاستنباط من القرآن والوصول إلى المطالب القرآنية عن طريق الاجتهاد والعقل.

      ولا معنى لأن يحثّنا الله سبحانه وتعالى على استخدام العقل والتدبّر ثمّ يقف حائلاً دون استعمال الاجتهاد والنظر والرأي.

      والجواب: لقد خلط هؤلاء بين مورد التفسير بالرأي مع التفسير العقلي والتدبّر في فهم القرآن، فما ورد في هذه الآيات هو الترغيب والحثّ على التدبّر في فهم القرآن، وأنّه لا يجوز الاجتهاد والاستنباط من الآيات إلّا بعد مراجعة القرائن العقلية والنقلية والتدبّر فيها. أمّا بالنسبة إلى المفسّر بالرأي فإنّه يعلن رأيه الشخصي قبل الرجوع إلى هذه القرائن ويقوم بتحميل نظره الشخصي على الآيات، فالمنع من التفسير بالرأي لا يعني عدم جواز التدبّر والتفكّر في آيات القرآن.

      2- إنّ المنع من التفسير بالرأي لا يعني عدم جواز الاجتهاد في التفسير:

      لأنّ المنع من الاجتهاد يؤدّي إلى تعطيل الكثير من الأحكام، وهذا الأمر باطل بالضرورة؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يُفسّر جميع الآيات، فلا بدّ للمجتهد من استنباط الأحكام من القرآن وإذا ما أخطأ في ذلك فهو مأجور أيضاً.


      148
      والجواب: إنّ الاجتهاد في الأحكام على قسمين: الاجتهاد قبل مراجعة القرائن العقلية والنقلية، والثاني: الاجتهاد بعد مراجعة القرائن العقلية والنقلية، والأوّل ممنوع؛ لأنّه اجتهاد وفتوى بغير دليل والآخر جائز لأنّه اجتهاد صحيح.

      وكذلك الاجتهاد في التفسير فإنّه ينقسم إلى هذين القسمين أيضاً، فيطلق على القسم الأوّل التفسير بالرأي، وعلى الثاني التفسير الاجتهادي الصحيح.

      3- لقد قرأ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم القرآن واختلفوا في تفسيره:

      ولأنّ جميع أقوالهم الّتي اختلفوا فيها لم يؤخذ جميعها من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قطعاً بل اعتمدوا فيها على آرائهم الشخصية، واجتهدوا في مقابل بعضهم البعض، فإن كان التفسير بالرأي حراماً فهذا يعني أنّ الصحابة قد ارتكبوا الحرام.

      والجواب: لا بدّ من الالتفات إلى عدّة نقاط في مسألة اختلاف الصحابة في التفسير:

      أ- يمكن أن يكون ذلك الاختلاف نتيجة لوصول أخبار مختلفة للصحابة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو يكون ناشئاً عن اختلاف فهمهم لكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

      ب- يحتمل أن يكون تفسيرهم ناشئاً عن الاختلاف في فهم الآيات المتشابهة، أو الجمع بين الناسخ والمنسوخ أو العامّ والخاصّ وأمثال ذلك، وهذا أمر طبيعي ولا يعتبر من التفسير بالرأي.

      ج- لم يثبت أنّ الصحابة قاموا بتفسير القرآن في كلّ الموارد دون مراجعة المعايير المعتبرة في التفسير، أو دون مراعاة القرائن العقلية والنقلية والالتفات إلى الآيات المحكمة.

      د- على فرض أنّ بعض الصحابة قد تورّط في التفسير بالرأي عن طريق الغفلة أو السهو أو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يوجد دليل على عصمتهم لكي


      149
      يكون عملهم دليلاً على جواز التفسير بالرأي.

      وعلى هذا فمن مجموع أدلّة المخالفين لهذا المنهج في التفسير القوية والمقبولة يتبيّن أنّه منهج خاطئ، وأنّ أدلّة القائلين بجوازه ضعيفة لا تنهض لأن تكون أساساً للعمل بهذا المنهج.

      تعليق


      • #4
        الدرس الرابع عشر: الطباطبائي وموقفه من منهج التفسير بالرأي
        أهداف الدرس

        1-أن يتعرّف الطالب إلى أهمّية تفسير الميزان
        2- أن يدرك معنى التفسير بالرأي عند العلّامة الطباطبائي


        151
        تمهيد

        يعتبر كتاب الميزان في تفسير القرآن، للعلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي واحداً من أشهر وأهمّ كتب التفسير في واقعنا المعاصر، ونظراً لشهرته اخترنا هذا التفسير ليكون نموذجاً لبحثنا.

        حول تفسير الميزان

        من تأليف العلّامة الحكيم السيّد محمّد حسين الطباطبائي المولود بتبريز سنة (1321هـ). والمتوفّى بقمّ المقدّسة سنة (1402هـ).

        وهو تفسير جامع حافل بمباحث نظريّة تحليلية ذات صبغة فلسفية في الأغلب، جمع فيه المؤلّف إلى جانب الأنماط التفسيريّة السائدة، أموراً ممّا أثارته النهضة الحديثة في التفسير، فقد تصدّى لما يثيره أعداء الإسلام من شبهات، وما يضلّلون به من تشويه للمفاهيم الإسلامية، بروح اجتماعية واعية، على أساس من القرآن الكريم.


        153
        مزايا تفسير الميزان

        1- جمع بين نمطي التفسير: الموضوعي والترتيبيّ، فقد فسَّر القرآن آية فآية وسورة فسورة، لكنّه إلى جنب ذلك، نراه يجمع الآيات المتناسبة بعضها مع بعض، ليبحث عن الموضوع الجامع بينها، كلّما مرّ بآية ذات هدف موضوعيّ، وكانت لها نظائر منبثّة في سائر القرآن.

        2- عنايته التامّة بجانب الوحدة الموضوعيّة السائدة في القرآن، كلّ سورة هي ذات هدف أو أهداف معيّنة، هي تشكّل بنيان السورة بالذّات، فلا تتمّ السورة إلّا عند اكتمال الهدف الموضوعيّ الّذي رامته السورة، ولذلك نجد السور تتفاوت في عدد آياتها.

        3- الاستعانة بمنهج "تفسير القرآن بالقرآن"، فقد حقّق القرآن هذا الأمر وأوجده بعيان؛ إذ نراه يعتمد في "تفسيره" على القرآن ذاته، فيرى أنّ غير القرآن غير صالح لتفسير القرآن، بعد أن كان تبياناً لكلّ شيء فيا تُرى كيف يكون القرآن تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه؟!

        يقول العلّامة الطباطبائي: "الطريقة المرضيّة في التفسير هي أن تفسّر القرآن بالقرآن، ونشخّص المصاديق ونعرّفها بالخواص الّتي تعطيها الآيات، كما قال تعالى:
        ï´؟وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍï´¾1 وحاشا القرآن أن يكون تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه"2 ويمكن القول بحقّ إنّ "الميزان في تفسير القرآن" هو من التفاسير الجامعة لكلّ مناهج وألوان التفسير حيث تجد أنّ السيّد الطباطبائي جمع إلى جانب منهج تفسير القرآن بالقرآن منهج التفسير الروائي والفلسفي والتاريخي والاجتماعي...

        154
        بيان الطباطبائي لمنهج التفسير بالرأي

        ذكر العلماء والمفسّرون آراء متباينة حول مفاد روايات التفسير بالرأي، وسنعرض لرأي العلّامة الطباطبائي وموقفه من هذا المنهج.

        اعتبر السيّد الطباطبائي أنّ التفسير بالرأي يحتمل وجوهاً متعدّدة، أهمّها:

        - تفسير المتشابه الّذي لا يعلمه إلّا الله.

        - التفسير المقرّر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تبعاً، فيردَّ إليه بأيّ طريق أمكن وإن كان ضعيفاً. وهذا يحصل فيما لو كان للمفسِّر ميل إلى نزعة أو مذهب فيتأوّل القرآن على رأيه ويصرفه عن المراد، فيجرّ شهادة القرآن لتقرير رأيه.

        - التفسير بأنّ مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل.

        - التفسير بالاستحسان والهوى ومن دون الاستناد إلى نظر في أدلّة العربية ومقاصد الشريعة، وما لا بدّ منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول.

        - القول بالقرآن بما يعلم أن الحقّ غيره.

        - القول في القرآن بغير علم وتثبُّت، سواء علم أنّ الحقّ خلافه أم لا. ثمّ علّق عليها بقوله: "وربما أمكن إرجاع بعضها إلى بعض، وكيف كان فهي وجوه خالية عن الدليل، على أنّ بعضها ظاهر البطلان"3.

        معنى "الرأي" عند الطباطبائي

        ثمّ بعد أن استعرض النصوص الدالّة على النهي عن تفسير القرآن بالرأي قال: "قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من فسّر القرآن برأيه..."، الرأي هو الاعتقاد عن اجتهاد، وربما أطلق


        155
        على القول عن الهوى والاستحسان، وكيف كان لما ورد قوله برأيه مع الإضافة إلى الضمير، عُلِم منه أن ليس المراد به النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن حتّى يكون بالملازمة أمراً بالاتّباع والاقتصار على ما ورد من الروايات في تفسير الآيات عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام على ما يراه أهل الحديث. بل الإضافة في قوله: "برأيه" تفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال بأن يستقلّ المفسّر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس، فإنّ قطعة من الكلام من أيّ متكلّم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ونحكم بذلك: إنّه أراد كذا، كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما، كلّ ذلك لكون بياننا مبنيّاً على ما نعلمه من اللغة ونعهده من مصاديق الكلمات حقيقة ومجازاً.

        والبيان القرآني غير جار هذا المجرى، بل هو كلام موصول بعضه ببعض في عين أنّه مفصول، ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض كما قاله الإمام عليّ عليه السلام ، فلا يكفي ما يتحصّل من آية واحدة بإعمال القواعد المقرّرة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها، دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ويجتهد في التدبّر فيها كما يظهر من قوله تعالى:
        ï´؟أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًاï´¾4.

        التفسير المنهي عنه

        فالتفسير بالرأي المنهيّ عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف وبعبارة أُخرى إنّما نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن تفهّم كلامه تعالى على نحو ما يتفهّم به كلام غيره وإن كان هذا النحو من التفهُّم ربما صادف الواقع، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية الأُخرى: "من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ"،


        156
        فإنّ الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلّا لكون الخطأ في الطريق، وكذا قوله عليه السلام: "إن أصاب لم يؤجر"5.

        وليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ وسرد الجمل وإعمال الصناعات اللفظية، فإنّما هو كلام عربيّ روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربيّ، وقد قال تعالى:
        ï´؟وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْï´¾6 وقال تعالى: ï´؟وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌï´¾7 وقال تعالى:ï´؟إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَï´¾8 وإنّما الاختلاف من جهة المراد والمصداق الّذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.

        توضيح ذلك: إنّا من جهة تعلّق وجودنا بالطبيعة الجسمانية وقطوننا المعجّل في الدنيا المادّية، ألفنا من كلّ معنى مصداقه المادّي واعتدنا بالأجسام والجسمانيات، فإذا سمعنا كلام واحد من الناس حملناه على ما هو المعهود عندنا من المصداق والنظام الحاكم فيه، لعلمنا بأنّه لا يعني إلّا ذلك؛ لكونه مثلنا لا يشعر إلّا بذلك، وعند ذلك يعود النظام الحاكم في المصداق يحكم في المفهوم، فربما خصّص به العام أو عمّم به الخاصّ أو تصرّف في المفهوم بأيّ تصرّف آخر، وهو الّذي نسمّيه بتصرّف القرائن العقلية غير اللفظية.

        مثال ذلك إنّا إذا سمعنا عزيزاً من أعزّتنا ذا سؤدد وثروة يقول: وإن من شيء إلّا عندنا خزائنه، وتعقّلنا مفهوم الكلام ومعاني مفرداته حكمنا في مرحلة التطبيق على المصداق أنّ له أبنية محصورة حصينة تسع شيئاً كثيراً من المظروفات، فإنّ الخزانة هكذا تتّخذ إذا اتّخذت، وأنّ له فيها مقداراً وافراً من


        157
        الذهب والفضّة والورق والأثاث والزينة والسلاح، فإنّ هذه الأمور هي الّتي يمكن أن تخزن عندنا وتحفظ حفظاً. وأمّا الأرض والسماء والبرّ والبحر والكوكب والإنسان فهي وإن كانت أشياء لكنّها لا تخزن ولا تتراكم، ولذلك نحكم بأنّ المراد من الشيء بعض من أفراده غير المحصورة، وكذا من الخزائن قليل من كثير، فقد عاد النظام الموجود في المصداق وهو أنّ كثيراً من الأشياء لا يخزن، وأنّ ما يختزن منها إنّما يختزن في بناء حصين مأمون عن الغيلة والغارة، أوجب تقييداً عجيباً في إطلاق مفهوم الشيء والخزائن.

        ثمّ إذا سمعنا الله تعالى يُنزل على رسوله قوله:
        ï´؟وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُï´¾9

        فإن لم ترق أذهاننا عن مستواها الساذج الأوّلي فسّرنا كلامه بعين ما فسّرنا به كلام الواحد من الناس، مع أنّه لا دليل لنا على ذلك البتّة فهو تفسير بما نراه من غير علم.

        وإن رقت أذهاننا عن ذلك قليلاً، وأذعنّا بأنّه تعالى لا يخزن المال وخاصّة إذا سمعناه تعالى يقول في ذيل الآية:
        ï´؟وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍï´¾ أيضاً: ï´؟وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاï´¾10 حكمنا بأنّ المراد بالشيء الرزق من الخبز والماء، وأنّ المراد بنزوله نزول المطر لأنّا لا نشعر بشيء ينزل من السماء غير المطر، فاختزان كلّ شيء عند الله ثمّ نزوله بالقدر كناية عن اختزان المطر ونزوله لتهيئة المواد الغذائية. وهذا أيضاً تفسير بما نراه من غير علم؛ إذ لا مستند له إلّا أنّا لا نعلم شيئاً من السماء غير المطر، والّذي بأيدينا ها هنا عدم العلم دون العلم بالعدم.

        وإن تعالينا عن هذا المستوى أيضاً واجتنبنا ما فيه من القول في القرآن بغير علم وأبقينا الكلام على إطلاقه التامّ، وحكمنا أنّ قوله:
        ï´؟وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا

        158
        خَزَائِنُهُï´¾ يبيّن أمر الخلقة، غير أنّا لمّا كنّا لا نشكّ في أنّ ما نجده من الأشياء المتجدّدة بالخلقة كالإنسان والحيوان والنبات وغيرها لا تنزل من السماء، وإنّما تحدث حدوثاً في الأرض، حكمنا بأن قوله: ï´؟وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُï´¾ كناية عن مطاوعة الأشياء في وجودها لإرادة الله تعالى، وأنّ الإرادة بمنزلة مخزن يختزن فيه جميع الأشياء المخلوقة، وإنّما يخرج منه وينزل من عنده تعالى ما يتعلّق به مشيّته تعالى. وهذا أيضاً كما ترى تفسير للآية بما نراه من غير علم؛ إذ لا مستند لنا فيه سوى أنّا نجد الأشياء غير نازلة من عند الله بالمعنى الّذي نعهده من النزول ولا علم لنا بغيره.

        وإذا تأمّلت ما وصفه الله تعالى في كتابه من أسماء ذاته وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله والقيامة وما يتعلّق بها وحكم أحكامه وملاكاتها، وتأمّلت ما نرومه في تفسيرها من إعمال القرائن العقلية، وجدت أنّ ذلك كلّه من قبيل التفسير بالرأي من غير علم وتحريف لِكَلِمه عن مواضعه.

        من هنا يظهر أنّ التفسير بالرأي كما بيّناه لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير النبويّ: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار.

        ومن هنا يظهر أيضاً أنّ ذلك يؤدّي إلى ظهور التنافي بين الآيات القرآنية من حيث إبطاله الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدّي إلى وقوع الآية في غير موقعها ووضع الكلمة في غير موضعها. ويلزمها تأويل بعض القرآن أو أكثر آياتها بصرفها عن ظاهرها، كما يتأوّل المجبّرة آيات الاختيار، والمفوّضة آيات القدر، وغالب المذاهب في الإسلام لا يخلو عن التأوّل في الآيات القرآنية وهي الآيات الّتي لا يوافق ظاهرها مذهبهم، فيتشبّثون في ذلك بذيل التأويل استناداً إلى القرينة العقلية وهو قولهم إنّ الظاهر الفلاني قد ثبت خلافه عند العقل فيجب صرف الكلام عنه11.

        تعليق


        • #5
          الدرس الخامس عشر: منهج التفسير الإشاري (1) منهج العرفاء والمتصوّفين
          أهداف الدرس

          1- أن يتعرّف الطالب إلى المنهج العرفاني الإشاري
          2- أن يعدِّد على أهمّ التفاسير العرفانية والإشارية


          161
          تمهيد

          المنهج الإشاري هو أحد المناهج القديمة في التفسير. وقد عُرِف بأسماء متنوّعة، مثل التفسير الباطني، العرفاني، الشهودي، والرمزي، وكل من هذه الأسماء يشير إلى نوع خاص من هذا التفسير. وهناك اختلاف كبير في وجهات النظر بين المفسّرين والمحقّقين بالنسبة إلى هذا المنهج وأنواعه. فهناك من ارتضى بعض أقسامه واستفاد منه، ومنهم من رفضه واعتبره من التأويل والباطن. ولتوضيح هذه المسألة وتمييز المنهج الصحيح من غير الصحيح في التفسير الإشاري لا بدّ من دراسته بصورة دقيقة، وسوف نقوم في هذا الدرس بمناقشة التفسير الإشاري وأنواعه ومعاييره مع ذكر بعض الأمثلة المتعدّدة.

          معنى المنهج الإشاري في التفسير

          الإشارة لغةً بمعنى العلامة والإيماء والّذي يعني اختيار أمر من الأمور (من القول أو العمل أو الرأي). وقد وردت هذه الكلمة في القرآن، كما في الآية
          ï´؟فَأَشَارَتْ إِلَيْهِï´¾1 أي اختيار شيء وإرجاع لهم إليه.

          163
          أما في الاصطلاح فالإشارة تعني أن يستفاد شيء من الكلام دون أن يكون موضوعاً له. والإشارة قد تكون حسّية كما هو الحال في ألفاظ الإشارة مثل (هذا)، وقد تكون ذهنية كالإشارة للمعنى في الكلام، بحيث لو أراد التصريح به للزمه الكثير من الكلام. ثمّ إنّ الإشارة قد تكون ظاهرة وقد تكون خفيّة.

          وعلى هذا يكون المراد من التفسير الإشاري هو ما يطلق على الإشارات الخفيّة الموجودة في آيات القرآن، والّتي تعتمد على أساس العبور من ظواهر القرآن والأخذ بالباطن، أي استخراج وفهم وتوضيح نكتة من الآية لا توجد في ظواهر الآية عن طريق دلالة الإشارة2.

          وبسبب تعدُّد أنواع التفسير الإشاري، كالتفسير الرمزي، العرفاني، الصوفي، الباطني، والشهودي، فقد تنوّعت التعاريف تبعاً لذلك، وهذا ما سيتبين لنا من خلال ما سيأتي.

          الواقع التاريخي لهذا المنهج

          يرجع تأريخ بعض أقسام التفسير الإشاري كالتفسير الباطني إلى صدر الإسلام، أي إنّ جذور هذا المنهج توجد في أقوال وكلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام حيث روي عنهم: أنّ القرآن له ظاهر وباطن3. وقد أشارت بعض الأحاديث إلى هذا النحو من التفسير فقد روي في الحديث: "أنّ كتاب الله عزّ وجلّ على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق؛ فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء"4.


          164
          وبسبب قبول جميع المسلمين بكون القرآن له باطن عميق، ومعانٍ دقيقة ويحتوي على الإشارات والكنايات، فقد أصبح الطريق مفتوحاً لهذا النوع من التفاسير، حتّى أنّ ابن عربي كتب: فكما أنّ تنزيل أصل القرآن على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان من قبل الله فإنّ تنزيل فهمه على قلوب المؤمنين من قبل الحقّ تعالى.

          وقد اهتمّ بعض العرفاء والصوفيه ببعض الأنواع من التفسير الإشاري مثل التفسير الرمزي والشهودي والصوفي والعرفاني فيما بعد، ودوّنوا كتباً متعدّدة في هذا المجال.

          واعتبر العلّامة الطباطبائي أنّ بداية هذا المنهج تعود إلى القرن الثاني والثالث الهجري، أي بعد ترجمة الكتب الفلسفية اليونانية إلى اللغة العربية5.

          أهمّ تفاسير الصوفيّة وأهل العرفان

          1ـ تفسير التستري


          بدأ التفسير الباطني اعتماداً على تأويل الآيات منذ القرن الثالث على يد أبي محمّد سهل بن عبد الله التستري (200 283هـ). فإنّ له تفسيراً على طريقة الصوفية جمعه أبو بكر محمّد بن أحمد البلديّ، وطبع في مصر سنة 1908.

          وكان التستري من كبار العارفين، وقد ذُكرت له كرامات، أقام في البصرة زمناً طويلاً، وتوفي فيها. لم يتعرّض لتفسير جميع القرآن، بل تكلّم عن آيات محدودة ومتفرّقة من كلّ سورة، ونجده أحياناً لا يقتصر على التفسير الإشاري وحده، بل ربّما ذكر المعاني الظاهرة ثمّ يعقّبها بالمعاني الإشارية. ومن ذلك تفسيره للآية
          ï´؟وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ

          165
          السَّبِيلِï´¾6 حيث يقول بعد ذكره للتفسير الظاهر: وأمّا باطنها، فالجار ذي القربى هو القلب، والجار الجنب هو الطبيعة، والصاحب بالجنب هو العقل المقتدي بالشريعة، وابن السبيل هو الجوارح المطيعة لله7.

          2ـ حقائق التفسير للسُّلَميّ

          ثاني تفاسير الصوفيّة الّتي ظهرت إلى الوجود، تفسير أبي الرحمن السُّلَميّ، المسمّى بـ "حقائق التفسير". هو أبو عبد الرحمن محمّد بن الحسين بن موسى الأزدي السُّلَميّ (330ـ 412هـ). كان شيخ الصوفيّة ورائدهم بخراسان، وله اليد الأولى في التصوّف، وكان على جانب كبير من العلم بالحديث، أخذ منه الحاكم النيسابوريّ والقشيريّ صاحب التفسير.

          وهذا التفسير من أهمّ تفاسير الصوفيّة، ويعدُّ من أمّهات المراجع للتفسير الباطني لمن تأخّر عنه، وهو امتداد للتفسير الصوفيّ الّذي ابتدعه التستري من ذي قبل.

          غير أنّ الاقتصار على المعاني الإشاريّة، والإعراض عن المعاني الظاهرة في هذا التفسير، ترك للعلماء مجالاً للطعن عليه، ولقي معارضات شديدة من معاصريه وممّن أتوا بعده، فاتّهم بالابتداع والتحريف، ووضع الأحاديث على الصوفيّة.

          فقد حكم بعضهم بأنّ هذا التفسير إذا كان صاحبه يعتقد أنّه تفسير للقرآن فقد كفر، وقال أخر بأنّ فيه وضعاً واختلاقاً، وما روي فيه عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام عامّته كذب على جعفر، وقال ثالث بأنّه جاء فيه بمصائب وتأويلات الباطنية8.


          166
          ومن تأويلات السُّلميّ قال في الآية ï´؟وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْï´¾9 ، اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها، أو اخرجوا من دياركم، أي أخرجوا حبّ الدنيا من قلوبكم، ما فعلوه إلّا قليل منهم في العدد، كثير في المعاني وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة10.

          وفي قوله تعالى:
          ï´؟فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِï´¾11 يقول: قال جعفر: جعل الحقّ تعالى في قلوب أوليائه رياض أُنسه، فغرس فيها أشجار المعرفة، أصولها ثابتة في أسرارهم، وفروعها قائمة بالحضرة في المشهد، فهم يجنون ثمار الأنس في كلّ أوان...12

          3ـ لطائف الإشارات للقشيري

          هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوريّ، ولد في نيسابور (376هـ)، طلب العلم فبرع فيه ولا سيّما في الفقه والحديث والأدب والأصول والتفسير، درس على يد عبد الرحمن السُّلَميّ.

          وتفسيره هذا امتداد للتفسير الصوفيّ الباطني، معتمداً في أكثر الأحيان على تأويلات قد ينبو عنها ظاهر لفظ الآية الكريمة، وحاول في هذا التفسير أن يبرهن على أنّ كلّ صغيرة وكبيرة في علوم الصوفيّة، فإنّ لها أصلاً في القرآن الّذي ورد فيه مصطلحات للصوفيّة مثل: الذكر والتوكّل والرضا، والوليّ والولاية والحقّ، والظاهر والباطن..


          167
          من تفسيراته: يقول عند قوله تعالى: ï´؟وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِï´¾13 يقول: الأمر في الظاهر بتطهير البيت، والإشارة من الآية إلى تطهير القلوب. وتطهير البيت بِصَوْنه عن الأدناس والأوضار، وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار. وطواف الحجّاج حول البيت معلوم بلسان الشرع، وطواف المعاني معلوم لأهل الحقّ، فقلوب العارفين المعاني فيها طائفة، وقلوب الموحّدين الحقائق فيها عاكفة...14

          4ـ كشف الأسرار وعدّة الأبرار (تفسير الميبديّ)

          وهو المعروف بتفسير الخواجا عبد الله الأنصاري الّذي وضع هذا التفسير، ثمّ بسطه ووضّح مبانيه المولى أبو الفضل رشيد الدِّين الميبديّ.

          والخواجا هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمّد بن عليّ بن محمّد الأنصاري الهروي، من ذريّة صاحب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أبي أيوب الأنصاري، ولد بهراة (396 481هـ) وقبره مزار مشهود هناك. يُعتبر هذا التفسير من أكبر وأضخم التفاسير الّتي كتبت على الطريقة العرفانيّة الصوفيّة، في عشرة مجلّدات ضخام (باللغة الفارسية).

          وكان منهجه السير في ثلاث نوبات: الأولى: في التفسير الظاهري على حدّ الترجمة الظاهريّة، والثانية: في بيان وجوه المعاني والقراءات وأسباب النزول، وبيان الأحكام وذكر الأخبار، والثالثة: في بيان الرموز والإشارات العرفانية15.

          5ـ تفسير ابن عربي (560ـ 638هـ).

          6ـ عرائس البيان في حقائق القرآن لأبي محمّد الشيرازي (ت: 666هـ).


          168
          7ـ التأويلات النجمية لنجم الدِّين داية (ت: 654هـ) وأكمله علاء الدِّين السمناني (ت: 736هـ)16
          المؤاخذات على التفاسير الصوفية والعرفانية

          أهمّ ما يؤخذ على هذه التفاسير، هو ابتناؤها على الذوق والسليقة والأذواق والسلائق، بما أنّها أحاسيس شخصيّة، فإنّها تختلف حسب المذاقات ومعطيات الأشخاص ولا تتّفق على معيار عام شامل.

          وإن شئت قلت: إنّهم يرون مذاقاتهم في فهم النص، إلهامات وإشراقات لمعت بها خواطرهم أو سوانح وردت عليهم حسب استعداداتهم في تلقّي الفيوضات من الملأ الأعلى.

          والإلهام والإلماع، إدراك شخصيّ بحت. وهي تجربة روحية وشخصيّة لا مستند لاعتبارها سوى عند صاحب التجربة فحسب.

          ومن ثمّ ترى تفاسير أهل الذوق العرفاني قلّما تتّفق ولو في تفسير آية واحدة على نهج سويّ وعلى تأويل متوازن لا تعريج فيه.. ولا مبرّر له سوى ما نبّهنا عليه أنّها ليست من التفسير ولا من التأويل، وإنّما هي واردات قلبيّة.

          مثال على ذلك: نجد القشيري يفسّر البسملة في كلّ سورة غير تفسيرها في سائر السور.. بناءً منه على أنّها آية من كلّ سورة، وكلّ آية هي تجلّ لنعت من نعوته تعالى: ولا تكرار في التجلّي، فيجب أن تكون في كلّ سورة بمعنى غير معناها في سائر السور17.

          هوامش
          1- سورة مريم، الآية: 29.
          2- دروس في المناهج والاتجاهات التفسيريّة، محمّد علي الرضائي، ص 192، نقلاً عن أصول التفسير وقواعده، خالد عبد الرحمن العكّ، ص 205ـ 206.
          3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 92، ص 95.
          4- م. ن، ج 92، ص20 وج 78، ص 278.
          5- تفسير الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 1، ص 705.
          6- سورة النساء، الآية: 36.
          7- تفسير التستري، ص 45، نقلناه عن التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 936.
          8- أنظر: م. ن، ج 2، ص 964 965.
          9- سورة النساء، الآية: 66.
          10- تفسير السُّلَميّ، ص 49، تقلناه عن التفسير والمفسّرون، ج 2، ص 966.
          11- سورة الرحمن، الآية: 11.
          12- تفسير السُّلَميّ، ص 344، نقلناه عن التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 976.
          13- سورة البقرة، الآية: 125.
          14- لطائف الإشارات، ج 1، ص 136، نقلاً عن التفسير والمفسّرون، ج 2، ص 969.
          15- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2ـ ص 971 973.
          16- أنظر: التفسير والمفسّرون، الشيخ محمّد هادي معرفة، ج 2، ص 984 998.
          17- أنظر: م. ن، ج 2، ص 953 954.

          تعليق

          يعمل...
          X