إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

دراسات في مناهج التفسير 21و22و23و24و25و26

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دراسات في مناهج التفسير 21و22و23و24و25و26

    الدرس الواحد والعشرون: آية الولاية
    أهداف الدرس

    1-
    أن يتعرّف الطالب إلى نموذج المنهج النقلي (الروائي)
    2- أن يتعرّف إلى نموذج الاتجاهين الأدبي والكلامي


    221
    ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ1.
    اسم الكتاب مجمع البيان في تفسير القرآن
    تأليف أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (... - 548 هـ)
    القرن السادس الهجري
    الاتجاه الأدبي
    المصدر ج3 ص 322 - 323
    اللغة

    الوليّ: هو الّذي يلي النصرة والمعونة والولي هو الّذي يلي تدبير الأمر يقال فلان وليّ المرأة إذا كان يملك تدبير نكاحها ووليّ الدم من كان إليه المطالبة بالقود والسلطان ولي أمر الرعية ويقال لمن يرشحه لخلافته عليهم بعده وليّ عهد المسلمين قال الكميت يمدح عليّاً:

    ونعم وليّ الأمر بعد وليّه ومنتجع التقوى ونعم المؤدّب


    223
    وإنّما أراد وليّ الأمر والقائم بتدبيره قال المبرد في كتاب العبارة عن صفات الله: أصل الوليّ الّذي هو أولى أي أحقّ ومثله المولى.

    والركوع هو التطأطؤ المخصوص قال الخليل كلّ شيء ينكب لوجهه فتمسّ ركبته الأرض أو لا يمسّ بعد أن يطأطىء رأسه فهو راكع وأنشد لبيد:
    أخبر أخبار القرون الّتي مضت أدب كأنّي كلّما قمت راكع

    وقال ابن دريد: الراكع الّذي يكبو على وجهه ومنه الركوع في الصلاة، قال الشاعر:
    وأفلت حاجب فوق العوالي على شقا تركع في الظراب

    وقد يوصف الخاضع بأنّه راكع على سبيل التشبيه والمجاز لما يستعمله من التطامن والتطأطؤ وعلى ذلك قول الشاعر:
    لا تُهِنِ الفقير علّك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه

    الإعراب

    لفظة [إنّما] مخصّصة لما أثبت بعده نافية لما لم يثبت، يقول القائل لغيره: "إنّما لك عندي درهم فيكون مثل أن يقول أنّه ليس لك عندي إلّا درهم"، وقالوا: "إنّما السخاء حاتم" يريدون نفي السخاء عن غيره والتقدير إنّما السخاء سخاء حاتم فحذف المضاف، والمفهوم من قول القائل إنما أكلت رغيفاً وإنّما لقيت اليوم زيداً نفي أكل أكثر من رغيف ونفي لقاء غير زيد.

    وقال الأعشى:
    ولست بالأكثر منهم حصى وإنّما العزّة للكاثر


    224
    أراد نفي العزّة عمّن ليس بكاثر وقوله " وهم راكعون " جملة في موضع النصب على الحال من يؤتون أي يؤتون الزكاة راكعين كما يقال الجواد من يجود بماله وهو ضاحك...
    اسم الكتاب تفسير القمي
    تأليف أبو الحسن عليّ بن إبراهيم القمي رحمه الله (... - 307 هـ)
    القرن الرابع الهجري
    الاتجاه الروائي
    المصدر ج9 ص 11

    وأما قوله
    ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ فإنّه حدّثني أبي عن صفوان عن أبان بن عثمان بن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام ، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وعنده قوم من اليهود فيهم عبد الله بن سلام، إذ نزلت عليه هذه الآية فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد فاستقبله سائل، فقال هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال نعم، ذاك المصلّي فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو عليّ أمير المؤمنين عليه السلام.

    اسم الكتاب تفسير العسكري
    تأليف منسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام
    القرن الثالث الهجري
    الاتجاه الروائي
    المصدر ج4 ص 101

    قال (أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ): يا عبد الله بن سلام
    ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ ناصركم الله على اليهود القاصدين بالسوء لك (ورسوله) [إنما] وليك وناصرك (والذين

    225
    آمنوا الّذين - صفتهم أنّهم - يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) أي وهم في ركوعهم.

    ثم قال: يا عبد الله بن سلام (ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا) من يتولّاهم، ووالى أولياءهم، وعادى أعداءهم، ولجأ عند المهمّات إلى الله ثمّ إليهم (فإنّ حزب الله) جنده (هم الغالبون) لليهود وسائر الكافرين، أي فلا يهمنك يا بن سلام، فإنّ الله تعالى [هو ناصرك] وهؤلاء أنصارك، وهو كافيك شرور أعدائك وذائد عنك مكايدهم.

    فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عبد الله بن سلام أبشر، فقد جعل الله لك أولياء خيراً منهم: الله، ورسوله، والذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم راكعون.

    فقال عبد الله بن سلام: [يا رسول الله] من هؤلاء الّذين آمنوا؟ فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سائل، فقال: هل أعطاك أحد شيئاً الآن؟ قال: نعم ذلك المصلّي، أشار إلي بأصبعه: أن خذ الخاتم.

    فأخذته فنظرت إليه وإلى الخاتم، فإذا هو خاتم عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

    فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الله أكبر، هذا وليّكم [بعدي] وأولى الناس بالناس بعدي.


    226
    اسم الكتاب التبيان في تفسير القرآن
    تأليف شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (385 - 460 ه‍)
    القرن الرابع - الخامس الهجري
    الاتجاه الكلامي
    المصدر ج3 ص 557 - 562
    الاتجاه الكلامي

    واعلم أنّ هذه الآية من الأدلّة الواضحة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد النبيّ بلا فصل. ووجه الدلالة فيها أنّه قد ثبت أنّ الولي في الآية بمعنى الأولى والأحقّ. وثبت أيضاً أنّ المعني بقوله
    ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أمير المؤمنين عليه السلام فإذا ثبت هذان الأصلان دلّ على إمامته، لأنّ كلّ من قال: "إنّ معنى الولي في الآية ما ذكرناه قال إنّها خاصّة فيه".

    ومن قال باختصاصها به عليه السلام قال المراد بها الإمامة.

    فإن قيل دلّوا أوّلاً على أنّ الولي يستعمل في اللغة بمعنى الأولى والأحقّ ثمّ على أنّ المراد به في الآية ذلك، ثمّ دلّوا على توجّهها إلى أمير المؤمنين عليه السلام. قلنا: الّذي يدلّ على أنّ الولي يفيد الأولى قول أهل اللغة للسلطان المالك للأمر: فلان ولي الأمر قال الكميت:
    ونعم وليّ الأمر بعد وليّه ومنتجع التقوى ونعم المؤدّب

    ويقولون: فلان ولي عهد المسلمين إذا استخلف للأمر لأنّه أولى بمقام من قبله من غيره وقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" يريد من هو أولى بالعقد عليها.


    227
    وقال تعالى:﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ2 يعني من يكون أولى بحيازة ميراثي من بني العم.

    وقال المبرد: الولي والأولى والأحقّ والمولى بمعنى واحد والأمر فيما ذكرناه ظاهر، فأمّا الّذي يدلّ على أنّ المراد به في الآية ما ذكرناه هو أنّ الله تعالى نفى أن يكون لنا ولي غير الله وغير رسوله، والذين آمنوا بلفظة "إنّما" ولو كان المراد به الموالاة في الدِّين لما خصّ بها المذكورين، لأنّ الموالاة في الدِّين عامّة في المؤمنين كلّهم.

    قال الله تعالى
    ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ3 وإنّما قلنا: إنّ لفظة (إنّما) تفيد التخصيص، لأنّ القائل، إذا قال إنّما لك عندي درهم فُهِم منه نفي ما زاد عليه، وقام مقام قوله: ليس لك عندي إلا درهم. ولذلك يقولون إنّما النحاة المدقّقون البصريون ويريدون نفي التدقيق عن غيرهم.

    ومثله قولهم: إنّما السخاء سخاء حاتم، يريدون نفي السخاء عن غيره، قال الأعشى:
    ولست بالأكثر منهم حصى
    وإنّما العزّة للكاثر
    4

    أراد نفي العزّة عن من ليس بكاثر.
    واحتجّ الأنصار بما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال (إنّما الماء من الماء) في نفي الغسل من غير إنزال.

    وادّعى المهاجرون نسخ الخبر، فلولا أنّ الفريقين فهموا التخصيص لما كان


    228
    الأمر كذلك ولقالوا (إنّما) لا تفيد الاختصاص بوجوب الماء من الماء.

    ويدلّ أيضاً على أنّ الولاية في الآية مختصّة أنّه قال: "وليّكم" فخاطب به جميع المؤمنين ودخل فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وغيره، ثمّ قال ورسوله، فأخرج النبيّ صلّى الله عليه وآله من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته، فلمّا قال
    ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وجب أيضاً أن يكون الّذي خوطب بالآية غير الّذي جُعلت له الولاية. وإلّا أدّى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه وأدّى إلى أن يكون كلّ واحد منهم وليّ نفسه، وذلك محال. وإذا ثبت أنّ المراد بها في الآية ما ذكرناه، فالّذي يدلّ على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو المخصوص بها أشياء:

    منها - أنّ كلّ من قال: أنّ معنى الولي في الآية معنى الأحقّ قال إنّه هو المخصوص به.

    ومن خالف في اختصاص الآية يجعل الآية عامّة في المؤمنين وذلك قد أبطلناه.

    ومنها - أنّ الطائفتين المختلفتين الشيعة وأصحاب الحديث رووا أنّ الآية نزلت فيه عليه السلام خاصّة.

    ومنها - أنّ الله تعالى وصف الّذين آمنوا بصفات ليست حاصلة إلّا فيه، لأنّه قال:
    ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ فبيّن أنّ المعني بالآية هو الّذي أتى الزكاة في حال الركوع.

    وأجمعت الأمّة على أنّه لم يؤت الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين عليه السلام ، وليس لأحد أن يقول: إنّ قوله
    ﴿وَهُمْ رَاكِعُونَ ليس هو حالاً ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ بل المراد به أنّ من صفتهم إيتاء الزكاة، لأنّ ذلك خلاف لأهل العربية، لأنّ القائل إذا قال لغيره لقيت فلاناً، وهو راكب لم يفهم منه إلّا لقاؤه له في حال الركوب، ولم

    229
    يفهم منه أنّ من شأنه الركوب.

    وإذا قال: رأيته وهو جالس أو جاءني وهو ماش لم يفهم من ذلك كلّه إلّا موافقة رؤيته في حال الجلوس أو مجيئه ماشياً. وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون حكم الآية مثل ذلك. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الركوع المذكور في الآية المراد به الخضوع كأنّه قال يؤتون الزكاة خاضعين متواضعين كما قال الشاعر:
    ولا تهِنِ الفقير علّك أن
    تركع يوماً والدهر قد رفعه
    5

    والمراد علّك أن تخضع، قلنا الركوع هو التطأطأ المخصوص، وإنّما يقال للخضوع ركوعاً تشبيهاً ومجازاً، لأنّ فيه ضرباً من الانخفاض، يدلّ على ما قلناه نصّ أهل اللغة عليه، قال صاحب العين: كلّ شيء ينكبّ لوجهه فتمسّ ركبتيه الأرض أولا تمسّ بعد أن يطأطئ رأسه فهو راكع قال لبيد:
    أخبر أخبار القرون الّتي مضت
    أدب كأنّي كلّما قمت راكع


    ... وإذا كانت الحقيقة ما قلناه، لم يجز حمل الآية على المجاز.

    فإن قيل قوله
    ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ لفظ جمع كيف تحملون ذلك على الواحد؟ قيل: قد يعبّر عن الواحد لفظ الجمع إذا كان معظّماً عالي الذكر قال تعالى﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ6 وقال: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ وقال ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا7 ونظائر ذلك كثيرة.

    230
    وقال: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ8 ولا خلاف في أنّ المراد به واحد، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي.

    وقال:
    ﴿أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ9 والمراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال ﴿الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا10 نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول.

    فإذا ثبت استعمال ذلك كان قوله: "الذين يقيمون الصلاة" محمولاً على الواحد الّذي قدّمناه.

    فإن قيل: لو كانت الآية تفيد الإمامة لوجب أن يكون ذلك إماماً في الحال ولجاز له أن يأمر وينهى ويقوم بما يقوم به الأئمّة. قلنا: من أصحابنا من قال: إنّه كان إماماً في الحال ولكن لم يأمر لوجود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكان وجوده مانعاً من تصرُّفه، فلمّا مضى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قام بما كان له.

    ومنهم من قال – وهو الّذي نعتمده - أنّ الآية دلّت على فرض طاعته واستحقاقه للإمامة. وهذا كان حاصلاً له. وأمّا التصرُّف فموقوف على ما بعد الوفاة كما يثبت استحقاق الأمر لوليّ العهد في حياة الإمام الّذي قبله وإن لم يجز له التصرُّف في حياته.

    وكذلك يثبت استحقاق الوصية للوصي وإن منع من التصرُّف وجود الموصي.

    وكذلك القول في الأئمّة وقد استوفينا الكلام على الآية في كتب الإمامة بما لا يحتمل بسطه هاهنا.


    231
    فإن قيل: أليس قد روي أنّها نزلت في عبادة بن الصامت أو عبد الله بن سلام وأصحابه؟ فما أنكرتم أن يكون المراد بالذين آمنوا هم دون من ذهبتم إليه؟ قلنا: أول ما نقوله: إنّا دللنا على أنّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام بنقل الطائفتين، ولما اعتبرناه من اعتبار الصفة المذكورة في الآية وأنّها ليست حاصلة في غيره بطل ما يروى في خلاف ذلك، على أنّ الّذي روي في الخبر من نزولها في عبادة بن الصامت لا ينافي ما قلناه، لأنّ عبادة لمّا تبرّأ من حلف اليهود أُعطي ولاية من تضمّنته الآية، فأمّا ما روي من خبر عبد الله بن سلام فبخلاف ما ذهبوا إليه لأنّه روي أنّ عبد الله بن سلام لمّا أسلم قطعت اليهود حلفه وتبرؤوا منه فاشتدّ ذلك عليه، وعلى أصحابه فأنزل الله تعالى الآية تسلية لعبد الله ابن سلام وأصحابه وأنّه قد عوّضهم من محالفة اليهود، ولاية الله وولاية رسوله وولاية الّذين آمنوا.

    والّذي يكشف عمّا قلناه أنّه قد روي أنّها لمّا نزلت خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله من البيت، فقال لبعض أصحابه هل أعطى أحد سائلاً شيئاً فقالوا: نعم يا رسول الله قد أعطى عليّ بن أبي طالب السائل خاتمه، وهو راكع. فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله الله أكبر قد أنزل الله فيه قرآناً ثمّ تلا الآية إلى آخرها. وفي ذلك بطلان ما قالوه.


  • #2
    الدرس الثاني والعشرون: آية الوضوء (1)
    أهداف الدرس

    1- أن يتعرّف الطالب إلى نموذج ثان من المنهج (النقلي) الروائي
    2- أن يتعرّف الطالب إلى نموذج من الاتجاه الفقهي


    235
    ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَï´¾1.
    اسم الكتاب زبدة البيان في أحكام القرآن
    تأليف المقدّس الأردبيلي، أحمد بن محمّد (... - 993 هـ)
    القرن العاشرالهجري
    المنهج النقلي (الروائي)
    الاتجاه النقلي (الروائي)
    المصدر ص 15 - 22
    تخصيص المؤمن بالخطاب لأنّ الكافر لم يقم إلى الصلاة، ولأنّه المنتفع به كما في أكثر التكاليف ï´؟إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِï´¾ أي إذا صلّيتم فإنّ المراد

    237
    بالقيام قيامها، والتقدير إذا أردتم الصلاة مثل ï´؟فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِï´¾2 فأقيم مسبّب الإرادة مقامها للإشعار بأنّ الفعل ينبغي أن لا يترك ولا يتهاون فيه، ويفعل سابقاً على القصد الّذي لا يمكن إلّا بعده، فظاهر الأمر الوجوب، فيجب الوضوء للصّلاة بأن يغسل الوجه. والغسل محمول على العرفيّ، وفسّر بإجراء الماء على العضو ولو كان بالآلة وأقلّه أن يجري ويتعدّى من شعر إلى آخر، وظاهرها يدلّ على وجوبه كلّما قام إليها لأنّ ظاهر "إذا" العموم عرفاً وإن لم يكن لغة، ولأنّ الظاهر أنّ القيام إليها علّة، ولكن قيّد بالإجماع والأخبار بالمُحْدِثين (من الحَدَث).

    وقيل: كان ذلك في أوّل الأمر ثمّ نسخ، وقيل الأمر فيه للندب وردّ النسخ بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "المائدة آخر القرآن نزولاً فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها"3 ولي في النسخ تأمّل إلّا أن يقال المراد نسخ وجوب الوضوء على المتوضّئين المفهوم من عموم فاغسلوا، فعمومه منسوخ، وليس ذلك بتخصيص حيث كان العموم مراداً معمولاً به، وكذا في الندب إلّا أن يقال الندب بالنسبة إلى المتوضّئين فيكون المراد به الرجحان المطلق، فكان الندب بالنسبة إلى المتوضّئين والوجوب بالنسبة إلى غيرهم هذا صحيح ولكن ليس هذا قولاً بأنّ الأمر للندب فقط كما قاله في الكشّاف...

    الآية تدلّ على وجوب أمور في الوضوء:

    الأوّل: غسل الوجه وهو العضو المعلوم عرفاً، وقد حدّ في بعض الأخبار المعتبرة بأنّه الّذي يدور عليه الإبهام والوسطى عرضاً، وطولاً من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، وهو أوّل فعل في الوضوء، فظاهر الآية لا يدلّ على اعتبار النيّة،


    238
    ولا على تعيين الابتداء، لكن اعتبار النيّة معلوم إذ لا يمكن الفعل الاختياريّ بدونها وفعلهم عليهم السّلام كان من الأعلى إلى الأسفل في أعضاء الغسل فهو أحوط، ولا على وجوب الترتيب بين أجزاء العضو، بل لا يمكن ذلك حقيقة، نعم ملاحظة العرفيّ حسن ولا على وجوب التخليل مطلقاً ويدلّ على عدمه الروايات الصحيحة4 ولا على وجوب المسّ والدّلك باليد لصدق الغسل مع الكلّ، فكلّما دلّ عليه دليل من خبر أو إجماع يقال به، والباقي يبقى على حاله.

    الثاني: غسل اليدين والترتيب مستفاد من الإجماع والخبر ويمكن فهمه من الآية أيضاً بتكلّف بأن يقال يفهم تقديم الوجه لوجود الفاء التعقيبيّة ولا قائل بعدم الترتيب حينئذ فإنّ الحنفيّة لا توجب الترتيب أصلاً، بل تجوّز تقديم غسل الرجلين على غسل الوجه.

    وأيضاً عطف الباقي على الوجه الّذي هو مدخول الفاء يفيد التعقيب في كلّ واحد فتأمّل فيه فإنّها تدلّ على فعل المجموع بعد القيام إلى الصلاة فكأنّه قال:

    إذا قمتم إلى الصلاة فتوضّؤا ولا تدلّ على الموالاة أيضاً وفهمها بأنّه يفهم تعقيب الكلّ بلا فصل، وذلك غير ممكن فيراعى ما أمكن بعيد، فإنّ المراد مجرّد التعقيب لا بلا مهلة، وعلى تقدير كونها مرادة فلا يفهم إلّا كون غسل الوجه بلا مهلة.

    نعم: يفهم وجوب الموالاة وبطلان الوضوء بتركها، مع جفاف جميع الأعضاء السابقة من الروايات الصّحيحة5 بل الإجماع ويمكن فهم أنّ محلّ الوجوب في غسل اليدين إلى المرافق، وإنّ سلّم أنّ ظاهرها كون الابتداء من الأصابع،


    239
    ولكن انعقد إجماع الأمّة على عدم وجوب ذلك فيكون إلى هنا لانتهاء غاية المغسول ومحمولة على معناها اللّغويّ لا الغسل بمعنى كونه منتهاه بعد الابتداء من الأصابع، وأنّه يكفي مسمّى الغسل فيه أيضاً كالوجه على أيّ وجه كان ولا يبعد وجوب غسل المرفق وإن كان غاية وخارجاً من باب المقدّمة لأنّه مفصل وحدّ مشترك، كما ثبت في الأصول فقول القاضي البيضاويّ: وجب غسلها احتياطاً غير مناسب.

    الثالث: مسح الرأس مطلقاً، بما يصدق مقبلاً ومدبراً قليلاً أو كثيراً على أيّ وجه كان إلّا أنّ إجماع الأصحاب، على ما نقل، وفعلهم عليهم السّلام خصّصه بمقدّم الرأس ببقيّة البلل، لا بالماء الجديد اختياراً، وجوّزه بعض نادر، ودليله ليس بناهض عليه، فإنّه روايتان صحيحتان دالّتان على عدم جواز المسح بفضلة الوضوء والنّدى بل بالماء الجديد، وحملتا، على التقيّة لذلك مع ما فيه، وعلى غير الاختيار والاحتياط لا يترك وقد منع بأكثر من ثلاث أصابع استحباباً، ووجوباً كأنّه بالإجماع، وذهب البعض إلى وجوب ثلاث أصابع، ولا دليل عليه، وعموم الآية والأخبار بل خصوصها ينفيه.

    الرابع: مسح الرّجلين بالمسمّى كالرأس وفي الرواية الصّحيحة أنّه بكلّ الكفّ ويفهم من الأخرى كلّ الظهر، وإلى أصل الساق ومفصل القدم6 وهو المراد بالكعب، ويدلّ عليه اللّغة، وهو مذهب العلّامة وكأنّه موافق لمذهب العامّة فافهم، ودليل مسحهما إجماع الإمامية وأخبارهم، وظاهر الآية، فإنّ قراءة الجرّ صريحة في ذلك لأنّه عطف على رؤوسكم لا يحتمل غيره، وهو ظاهر وجرّ الجوار ضعيف خصوصاً مع الاشتباه، وحرف العطف، ولهذا ما قاله في الكشّاف


    240
    وقال: المراد بالمسح حينئذ الغسل القليل. وقد عرفت ما فيه وقراءة النصب أيضاً كذلك، لأنّه عطف على محلّ رؤوسكم وأمثاله في القرآن العزيز وغيره كثيرة جدّا وعطفه على الوجه معلوم قبحه خصوصاً في مثل القرآن العزيز، وليس وجود التحديد في المغسول دليلاً عليه كما قاله البيضاويّ بل هو دليل على ما ذهب إليه أصحابنا لحصول التعادل بأن يكون العضو الأوّل من المغسول والممسوح غير محدود والثاني منهما محدوداً وللقاضي هنا مباحث ولنا كذلك، يطلب من الحاشية، وظاهر الآية عدم الترتيب بينهما، ولا دليل عليه أيضاً من الإجماع والأخبار، بل أكثر الأصحاب على عدمه والأصل مؤيّد، ولا شكّ في الصّدق مع فعله غير مرتّب فتأمّل...

    وظاهر إذا قمتم كون الوضوء واجباً لغيره، وهي الصّلاة مثلاً و
    ï´؟وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْï´¾أي: فاغتسلوا كون الغسل واجباً لنفسه لأنّ الظاهر أنّه معطوف على قوله ï´؟إِذَا قُمْتُمْï´¾ فتقديره يا أيّها الّذين آمنوا إن كنتم جنباً فاطّهّروا ويدلّ عليه الأخبار أيضاً...

    ï´؟وَإِن كُنتُم مَّرْضَىï´¾ كأنّه عطف على محذوف هو كنتم صحاحاً حاضرين قادرين، أي إذا قمتم إلى الصّلوة وكنتم صحاحاً حاضرين قادرين على استعمال الماء فإن كنتم محدثين لغير الجنابة توضّؤوا، وإن كنتم جنباً فاغتسلوا وإن كنتم مرضى مرضاً يضرّكم استعمال الماء، أو مسافرين فلم تقدروا على استعمال الماء لعدمه أو للتضرّر به. ï´؟أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِï´¾ لعلّه هنا كناية عن الحدث الخارج من أحد السبيلين فأو، بمعنى الواو "أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ" لعلّه كناية عن الجماع الموجب لغسل الجنابة وهو الدخول حتّى تغيب الحشفة قبلاً أو دبراً ï´؟فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًاï´¾ أي اقصدوا أرضاً طاهرة مباحة فامسحوا بأيديكم بعض وجوهكم وبعض أيديكم مبتدئاً من الصّعيد أو ببعض الصّعيد، بأن تضعوا

    241
    أيديكم على بعضه، ثمّ تمسحوا الوجه واليد أو من بعض التيمّم كما ورد في الرواية أي ما يتيمّم به وهو الصّعيد فلا دلالة على تقدير كونها تبعيضيّة على وجوب لصوق شي‏ء من الصّعيد، فيجب كونه تراباً يلصق كما توهّم.

    فالآية تدلّ على وجوب الغسل، وأنّ الجنابة موجبة له، وأنّ الغائط بل البول والريح أيضاً أحداث موجبة للوضوء وأنّ المرض والسفر مع عدم القدرة على الماء موجب للتيمّم بدلهما، ومشعرة بأنّه يبيح به ما يبيح بهما وعلى اشتراط طاهرية ما يتيمّم به، بل إباحته أيضاً بل طهارة الماء وإباحته أيضاً في الوضوء والغسل وأنّ كيفية التيمّم أنّ المسح يكفي ببعض الوجه مطلقاً وكذا ببعض اليد ولا يحتاج إلى الاستيعاب والتخليل وأنّ أوّل أفعال التيمّم مسح الوجه.

    والوضوء والغسل والتيمّم مبيّنات في كتاب الفروع مع أحكامها وجميع واجباتها وموجباتها والفروعات الكثيرة ليس هذا محلّها إذا لمقصود هنا ما يمكن فهمه من الآيات الكريمة، ثمّ لا يخفى أنّ نظم هذه الآية مثل الّتي سيجي‏ء لا يخلو عن إشكال على حسب فهمنا مثل ترك الحدث في أوّلها وذكر الجنابة فقط بعده والإجمال الّذي لم يفهم أنّ الغسل بعد القيام إلى الصلاة أم لا، وترك كنتم حاضرين صحاحاً قادرين على استعمال الماء، ثمّ عطف إن كنتم عليه، وترك تقييد المرضى وتأخير فلم تجدوا عن قوله أو جاء وذكر جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم مع عدم الحاجة إليهما إذ يمكن الفهم عمّا سبق، والعطف بأو، والمناسب بالواو، وغير ذلك مثل الاختصار في بيان الحدث الأصغر على الغائط والتعبير عنه بجاء أحد منكم من الغائط والأكبر على لامستم والتعبير عن الجنابة به وكأنّه لذلك قال في كشف الكشّاف ونعم ما قال: والآية من معضلات القرآن ثمّ طوّل الكلام في توجيه "أو" في قوله:

    ï´؟أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُمï´¾، ولعلّ السرّ في ذلك الترغيب على الاجتهاد، وتحصيل العلوم لتظفير السعادات الدائمة.

    242
    ثمّ في الآية احتمالات وأبحاث أخر ستجي‏ء في الثانية إنشاء الله تعالى وقد استدلّ بقوله "فَلَمْ تَجِدُوا ماءً" على طلب الماء غلوة سهم في الحزنة، وغلوتين في السهلة ولا دلالة عليه فيها، ولا في الخبر7 والأصل ينفيه نعم ينبغي الطلب حتّى يتحقّق عدم الماء عنده عرفاً مثل رحله وحواليه مع الاحتمال فتأمّل.

    ï´؟مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍï´¾ قيل: أي ما يريد الله الأمر بالوضوء للصلاة أو بالتيمّم تضييقاً عليكم ويحتمل أن يكون المراد ما يريد الله جعل الحرج عليكم بالتكاليف الشاقّة مثل تحصيل الماء على كلّ وجه ممكن مع عدم كون الماء حاضراً وإن كان ممكناً في نفس الأمر، ولا [يكلّف‏] بالطلب الشاقّ كالحفر وغيره بل بنى على الظاهر فقبل التيمّم ولا كلّف في التيمّم أيضاً بأن يوصل الأرض إلى جميع البدن أو أعضاء الوضوء بل التيمّم أيضاً وأن يطلب ما يمكن إيصاله بل يكفي مجرّد وجه الأرض، وهو مقتضى الشريعة السمحة.

    ï´؟وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْï´¾ أي من الذنوب فإنّ العبادة مثل الوضوء كفّارة للذنوب أو لينظفكم عن الأحداث ويزيل المنع عن الدخول فيما شرط فيه الطهارة عليكم فيطهّركم بالماء عند وجوده وعند الإعواز بالتراب، فالآية تدلّ على أنّ التيمّم رافع في الجملة وطهارة فيباح به ما يباح بالماء، ويؤيّده ما في الأخبار ويكفيك الصعيد عشر سنين والتراب أحد الطهورين وربّ الماء وربّ التراب واحد8 فيبعد منع إباحة التيمّم ما يبيحه الماء، وأنّه يجب لما يجب له.

    ثمّ إنّه يزول التيمّم بزوال المانع لأنّه لا يرفع الحدث بالكلّية نعم يحتمل رفعه إلى أن يتحقّق الماء أو توجد القدرة على استعماله إذ لا استبعاد في حكم الشارع بزوال الحدث إلى مدّة فإنّه مجرّد حكم الشارع فلعلّ البحث يرجع إلى اللّفظيّ فتأمّل.


    243
    واللّام للعلّة فمفعول يريد محذوف وهو الأمر في الموضعين وقيل زائدة وليجعل وليطهّركم مفعول، والتقدير لأن يجعل عليكم ولأن يطهّركم وليس فيه قصور وضعف: لأنّ "أن" لا تقدّر بعد اللّام المزيدة كما قاله البيضاويّ. لأنّ الشيخ المحقّق الرضىّ قدّس سرّه قال في شرح الكافية: وكذا اللّام زائدة في لا أبا لك عند سيبويه، وكذا اللّام المقدّر بعدها أن بعد فعل الأمر والإرادة كقوله تعالى ï´؟وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَï´¾ على أنّه قال البيضاويّ أيضاً في تفسير قوله تعالى ï´؟يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْï´¾ أنّ يبيّن مفعول يريد، واللّام مزيدة لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة، وهل هذا إلّا تناقض.

    ï´؟وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهï´¾ أي ليتمّ بشرعه ما هو مطهّر لأبدانكم ومكفّر لذنوبكم في الدِّين، أو ليتمّ برخصه إنعامه ï´؟عَلَيْكُمï´¾ بعزائمه ï´؟ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَï´¾ نعمته ثمّ أمر الله تعالى بعد ذلك بذكر النعمة والميثاق والعهد الّذي عاهدتم به بقوله ï´؟وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ ï´¾ الآية وأمر المؤمنين بكونهم قوّامين للّه شهداء بالعدل فأوجب عليهم ذلك، ونهاهم عن أن يحملهم البغض على العدول والخروج عن الشرع بقوله ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىï´¾ قال البيضاويّ في ï´؟اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىï´¾ إذا كان هذا مع الكفّار فما ظنّك بالعدل مع المؤمنين؟ ثمّ أمر بالتقوى ووعدهم بالامتثال وأوعدهم على تركه بقوله ï´؟وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَï´¾.

    ثمّ اعلم أنّ في حكاية ابني آدم على نبيّنا وآله عليهم السلام إشارة إلى أنّ التقوى شرط لقبول العمل "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ" صفة مصدر محذوف أي أتل واقرأ تلاوة متلبّسة بالحقّ أو حال من ضمير
    ï´؟ أَتْلُ ï´¾ أو من نبإ ï´؟ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا ï´¾ ظرف بناء، أو حال منه، والقربان اسم لما يتقرّب به إلى الله من ذبيحة وغيرها كما أنّ الحلوان اسم لما يحلى أي يعطى وهو في الأصل مصدر ولهذا لم يثنّ مع أنّ المراد منه اثنان، وقيل

    244
    تقديره إذ قرّب كلّ واحد منهما قرباناً فلا يحتاج إلى التثنية ï´؟فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَï´¾ قابيل ï´؟لَأَقْتُلَنَّكَï´¾ وعده بالقتل بعد عدم قبول قربانه وقبول قربان أخيه، لفرط الحسد على ذلك ولبقاء ما يريده له "قالَ" أخوه هابيل ï´؟إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَï´¾ أي إنّما أصابك ما أصابك من عدم القبول عند الله من قبل نفسك، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ فاقتل نفسك لا نفسي.

    وفيه إشارة إلى أنّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره فيكون الذنب له لا للمحسود، فلا بدّ أن يجتهد في تحصيل ما صار به المحسود محسوداً ومحظوظاً لا في إزالة حظّ المحسود فإنّ ذلك يضرّه ولا ينفع الحاسد، بل يضرّه وهو ظاهر. وفيه دلالة على أنّ القبول يشترط فيه التقوى كما قلناه.

    قال البيضاويّ: وفيه إشارة إلى أنّ الطاعة لا تقبل إلّا من مؤمن متّق وفيه إشكال ولهذا ما شرطه الفقهاء فإنّ الفسق لا يمنع من صحّة عبادة إذا فعلت على وجهها، ويمكن أن يقال المراد اشتراط التقوى في تلك العبادة أي لا يقبل الله العبادة إلّا من المتّقين فيها بأن يأتي بها بحيث لا يكون عصياناً مثل أن يقصد بها الرئاء أو غيره من المبطلات أو المراد تقوى عن ذنب ينافي تلك العبادة فيكون إشارة إلى أنّ الأمر بالشي‏ء يستلزم النهي عن ضدّه وهو موجب للفساد، وبالجملة يشترط في قبولها عدم كونها معصية ولا مستلزماً لها، الله يعلم
    ï´؟لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَï´¾.

    قال في الكشّاف: كان هابيل أقوى من قابيل، ولكنّه تحرّج عن قتله واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأنّ الدفع لم يبح بعد أو تحرّياً لما هو الأفضل، قال عليه الصلاة والسلام: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، ويمكن أن يقال التسليم غير ظاهر، وكذا كونه مباحاً فانّ وجوب حفظ النفس عقليّ ولا يمكن إباحة التسليم الّذي هو ينافيه بل هو قتل النفس والآية لا تدلّ على التسليم، فإنّه


    245
    قال ï´؟مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَï´¾ فإنّه يدلّ على عدم بسط اليد بقصد قتله لا للدفع أيضاً وهو ظاهر ويمكن فهم وجوب الدّفن من آخر الآية9 فافهم.

    تعليق


    • #3
      الدرس الثالث والعشرون: آية الوضوء (2)
      أهداف الدرس

      1- أن يتعرّف الطالب إلى نموذج من المنهج العرفاني في التفسير


      247
      ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَï´¾1.
      اسم الكتاب تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم
      تأليف السيد حيدر الآملي (719 - 787 هـ)
      القرن الثامن الهجري
      المنهج العرفاني
      المصدر ج4 ص 18- 26 و ص 29 - 41
      بعد أن يتحدّث السيّد حيدر الآملي عن وضوء أهل الشريعة يقول: وأمّا وضوء أهل الطّريقة (طهارة النفس والعقل) فالطهارة عندهم

      249
      بعد القيام بالطّهارة المذكورة، عبارة عن طهارة النفس من رذائل الأخلاق وخسائسها، وطهارة العقل من دنس الأفكار الرديّة والشبه المؤدّية إلى الضّلال والإضلال، وطهارة السرّ من النظر إلى الأغيار، وطهارة الأعضاء من الأفعال الغير المرضيّة عقلاً وشرعاً.

      وأمّا أفعال هذه الطهارة المعبّر عنها بالوضوء

      فالنيّة فيه، وهي أن ينوي المكلّف بقلبه وسرّه أنّه لا يفعل فعلاً يخالف رضى الله تعالى بوجه من الوجوه، ويكون جميع عباداته لله خالصة دون غيره لقوله تعالى:
      ï´؟قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَï´¾2.

      وغسل الوجه، وهو أن يغسل وجه قلبه عن حدث التعلّق بالدّنيا وما فيها، فإنّ الدّنيا جيفة وطلّابها كلاب، فالطالب والمطلوب نجسان، ولهذا قال عليه السلام: "حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة وترك الدّنيا رأس كلّ عبادة"3.

      وقال عليّ عليه السلام: "يا دنيا غرّي غيري فإنّي قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها"
      4.

      وغسل اليدين، وهو غسلهما وطهارتهما عمّا في قبضتهما من النقد والجنس والدنيا والآخرة، فإنّ طهارتهما حقيقة ليس إلّا بترك ممّا في تصرّفهما وحكمهما.


      250
      ومسح الرأس، وهو أن يمسح رأسه الحقيقي المسمّى بالعقل أو النّفس، أي يطلع عليهما حتّى يعرف أنّه بقي عندهما شي‏ء من محبّة الدّنيا وما يتعلّق بها من المال والجاه.

      ومسح الرّجلين وهو أن يمنعهما عن المشي بغير رضى الله وطاعته ظاهراً وباطناً، والمراد بالرجلين في الظاهر معلوم وأمّا في الباطن هما عبارتان عن القوّة النّظرية والعمليّة عند البعض وعن القوّة الشهويّة والغضبيّة عند الآخرين وإلى مثل هذا الوضوء المضاف إلى الوضوء الأوّل أشار النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقال: "الوضوء نور" "الوضوء على الوضوء نور على نور"5
      .

      أعني صفاء الظّاهر مع صفاء الباطن على الوجه المذكور فهو نور على نور، أي نور البصيرة على نور الشرع سبب صفاء الظاهر والباطن وموجب ثبات السّالك على الطّريق المستقيم في الدّنيا والآخرة لقوله تعالى:
      ï´؟يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِï´¾6.

      رزقنا الله الجمع بينهما والإقامة على كلّ واحد منهما، لأنّه المستعان وعليه التكلان.

      وأمّا وضوء أهل الحقيقة

      فالوضوء عندهم المعبّر عنه بالطهارة عبارة عن طهارة السّرّ عن مشاهدة الغير مطلقاً.


      251
      والنيّة فيها وهي أن ينوي السّالك في سرّه أنّه لا يشاهد في الوجود غيره ولا يتوجّه إلّا إليه، لأنّ كلّ من توجّه في الباطن إلى غيره فهو مشرك بالشّرك الخفيّ المتقدّم ذكره المشار إليه في قوله تعالى: ï´؟أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُï´¾7.

      ولقوله:
      ï´؟وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَï´¾8.

      والمشرك نجس لقوله:
      ï´؟إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌï´¾9.

      التوحيد الحقيقي:

      فطهارته لا يكون إلّا بهذه النيّة الّتي هي عبارة عن التوحيد الحقيقي النافي للشرك مطلقاً، لأنّه معلوم،وبل مقرّر أنّ الخلاص من الشرك جليّاً كان أو خفيّاً لا يمكن إلّا بالتوحيد ألوهيّاً كان، أو وجوديّاً كما سبق ذكره مفصّلاً عند بحث الأصول.

      وغسل الوجه فيها عبارة عن طهارة الوجه الحقيقي ونظافة سرّه عن دنس التوجّه إلى الغير، بحيث لا يشاهد غير وجهه الكريم المشار إليه في قوله:
      ï´؟فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِï´¾10.

      و لا يعرف غير ذاته المحيط المومئ إليه في قوله:


      252
      "واللّه بكلّ شي‏ء محيط" وعن هذا التّوجّه أخبر من لسان إبراهيم عليه السلام ، بقوله: ï´؟إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَï´¾11.

      وغسل اليدين عبارة عن عدم الالتفات إلى ما في يديه من متاع الدّنيا والآخرة، من الدّنيا كالمال والجاه والأهل والولد، ومن الآخرة كالعلم والزّهد والطاعة وما يحصل منها كالثواب والجنّة والحور والقصور، لأنّ رؤية الطّاعة والعبادة واستحقاق التعظيم بهما عند أهل الله معصية، وفيه قيل: "سيّئة تسوؤك خير من حسنة تعجبك"12.

      وفيه قيل: "خير الأعمال ذنب أحدث توبة، وشرّ الأعمال طاعة أورثت عجباً".

      وإليه أشار صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: "الدّنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدّنيا، وهما حرامان على أهل اللّه"13.

      ومسح الرأس عبارة عن تنزيه سرّه وتقديس باطنه الّذي هو الرأس الحقيقي عن دنس الأنانية وحدث الغيريّة الحاجب والحاجز بينه وبين محبوبه لقول بعض العارفين فيه:


      253
      بيني وبينك إنّيٌّ ينازعني
      فارفع بفضلك إنّيِّ من البينِ‏


      وفيه قيل: "وجودك ذنب لا يقاس به ذنب".

      وقد سبق أنّ كلّ من شاهد الغير فهو مشرك، وكلّ مشرك نجس، والنجس ليس له طريق إلى عالم القدس والحضرة الإلهيّة لقوله:
      ï´؟إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءï´¾14.

      ومسح الرّجلين، عبارة عن تنزيه قوّتي العملية والعلمية عن السير إلّا باللّه وفي اللّه، لأنّهما كالقدمين.

      والرجلين في الظاهر لأنّه بهما يسعى في طلب الحقّ وبهما يصل إليه، وعند التّحقيق:
      ï´؟فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًىï´¾15.

      إشارة إليهما، أعني إذا وصلت إلينا بواسطتهما فدعهما فإنّك بعد هذا ما أنت محتاج إليهما، ومعلوم عند الوصول يجب طرح كلّ ما في الوجود سيّما القوى والحواسّ وما اشتمل عليهما ظاهراً وباطناً.

      وعند البعض المراد بالنّعلين الدّنيا والآخرة. وعند البعض عالم الظاهر والباطن، وعند البعض النّفس والبدن، والكلّ صحيح، وفي مثل هذا الحال وهذا المقام ورد في الحديث القدسي:


      254
      "لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش وبي يمشي"16.

      إشارة إلى السّير بالله الّذي هو مقام التكميل دون الكمال المشار إليه في قوله:
      ï´؟فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَï´¾17.

      وأمّا بالنّسبة إلى اليدين كقوله:
      ï´؟وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَىï´¾18.

      وهاهنا أبحاث وأسرار يطول ذكرها، يكفي الفطن اللبيب هذا المقدار، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.

      ثمّ بعد أن يتحدّث السيّد حيدر الآملي عن غسل أهل الشريعة يقول:

      و أمّا غسل أهل الطريقة

      (حبّ الدنيا جنابة)


      فالغسل عندهم بعد القيام بالغسل المذكور، طهارة من الجنابة الحقيقيّة الّتي هي البعد عن الله، دون المجازيّة الّتي هي الأحداث الشّرعيّة.

      والجنابة الحقيقية على قسمين: قسم يتعلّق بهم، وقسم متعلّق بأهل الحقيقة.

      أمّا الّذي يتعلّق بأهل الحقيقة فسيجي‏ء بيانه بعد هذا بلا فصل.


      255
      وأمّا الّذي يتعلّق بهم فهي الجنابة الحاصلة من محبّة الدّنيا، فإنّ الدّنيا في الحقيقة كالمرأة الّتي لها كلّ ساعة بعل آخر كما أشار إليها الإمام عليه السلام في قوله: "قد طلقّتك ثلاثاً لا رجعة فيها"19.

      لأنّها لو لم تكن كالمرأة أو في حكمها ما خاطبها الإمام بهذا الخطاب، فكلّ من يلامس مثل هذه ويجامعها بالنّفس أو الروح أو القلب يكون جنباً بالحقيقة، والجنابة هي البعد عن الله تعالى، فكلّ من يحبّ الدّنيا على الوجه المذكور يكون بعيداً عن الله ضرورة، فإنّ محبّة الله وقربه، ومحبّة الدّنيا وقربها ضدّان لا يجتمعان، وإليه الإشارة في القول السّابق عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي قال: "الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدّنيا، وهما حرامان على أهل اللّه"20.

      وكذلك ما قال تعالى في كتابه العزيز:
      ï´؟مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍï´¾21.

      وكذلك ما أشار الإمام عليه السلام في قوله: "إنّ الدّنيا والآخرة عدوّان متفاوتان وسبيلان مختلفان، فمن أحبّ الدّنيا وتولّاها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب، وماش بينهما كلّما قرب من واحد بعد من الآخر، وهما بعد ضرّتان"22.


      256
      فالغسل والطّهارة من هذه الجنابة يكون بترك الدّنيا وما فيها بحيث لا يبقى له تعلّق بها بمقدار شعرة، لأنّ في الغسل الشّرعي لو بقي على الجسد شعرة لم يصل الماء إليها: لم يصح غسله ولم يطهر صاحبه من الجنابة، فإنّ التعلّق من حيث التعلّق له حكم واحد وهو التعلّق سواء كان قليلاً أو كثيراً، كما قيل: "المحجوب محجوب سواء كان بحجاب أو ألف حجاب".

      وترتيب هذا الغسل وهو أن يغسل السّالك أوّلاً رأسه الحقيقي- الّذي هو القلب هاهنا- بماء العلم الحقيقي النازل من بحر القدس، من حدث الأهواء المختلفة، والآراء المتشتّتة المتعلّقة بالدّنيا وبمحبّتها الموجبة للدّخول في الهاوية الّتي هي النّار لأنّ الهوى إذا أغلب انجذب صاحبه إلى عبادة الأصنام والأوثان الباطلة ذهناً كان أو خارجاً، أمّا الخارج فهو معلوم، وأمّا الدّاخل فذلك أيضاً قد سبق بحكم قوله تعالى:
      ï´؟أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُï´¾23.

      وكلّ من أطاع هواه لا بدّ وأن يدخل النار لقوله تعالى أيضاً:
      ï´؟وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌï´¾24.

      أي من خفّت موازينه من العلم والعمل الصّالح الصّادران من العقل الصحيح والنفس الكامل، فهو في الهاوية الّتي هي أصلها وأمّها، لأنّ منشأ الهوى من النّفس الأمّارة، والنّفس الأمّارة منشأها ومنبعها الطبيعة الحيوانيّة، والقوى الشهويّة والغضبية اللّتان هما من جنودها وأعوانها، كذلك صادران من الطبيعة والنّفس، فلا تكون الهاوية في الحقيقة إلّا التوجّه إلى النّفس، الأمّارة والشّهوة


      257
      والغضب، وأسفل سافلين إشارة إليها في قوله تعالى: ï´؟لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَï´¾25.

      أي رددناه بأفعاله إلى أسفل عالم الطبيعة والنّفس الأمّارة بمتابعة الهوى ومخالفة الحقّ في أفعاله وأقواله، لقول أهل النّار فيه:
      ï´؟لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِï´¾26. ولهذا دائماً أهل الله الّذين هم أهل العلم الحقيقي والعمل الصّالح والعقل الصّحيح، موصوفون بالسّكينة والوقار، والطمأنينة والإخبات وأمثال ذلك لقوله تعالى فيهم: ï´؟فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُï´¾27 ï´؟فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍï´¾28.

      وأهل الأهواء والبدع موصوفون بالخفّة وقلّة العقل، وعدم السكينة والوقار، لقوله تعالى فيهم:
      ï´؟َالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَï´¾29.

      وقد سدّ باب سؤال كلّ سائل في هذا المقام قوله تعالى:
      ï´؟وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىï´¾30.

      لأنّ هذا تحريض على منع النّفس عن الهوى، وتشويق إلى دخول الجنّة الّتي هي المأوى الحقيقي والموطن الأصلي من غير التراخي ولا التأخير وإليه أشار عليّ عليه السلام في قوله:


      258
      "تخففوا تلحقوا فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم"31 ، يعني تخفّفوا من أثقالكم الحاصلة من متابعة الهوى ومحبّة الدّنيا، فإنّ إلحاقكم بالحقّ وبالجنّة موقوف عليه، أي على تخفيفكم منها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ï´؟إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَï´¾32.

      ثمّ يغسل ويطهّر روحه وسرّه الّذي هو من الجانب الأيمن المعبّر عنه:بالرّوحانيّات عن محبّة العلويّات، والرّوحانيّات المعبّر عنها بالآخرة والجنّة، لأنّ أهل الآخرة مخصوصون بأصحاب اليمين والعلويّات، لقوله تعالى في الأوّل:
      ï´؟وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍï´¾33

      و لقوله في الثّاني:
      ï´؟وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهï´¾34.

      ثمّ يغسل جانبه الأيسر، أي يغسل ويطهّر نفسه وجسده الّذي هو الجانب الأيسر المعبّر عنه: بالجسمانيّات عن محبّة السّفليّات والنفسانيّات المعبّرة عنها بالدّنيا، بماء الترك والتجريد وعدم الالتفات إليه، فإنّ الدّنيا مخصوصة بأهل الشمال، كما أنّ الآخرة مخصوصة بأهل اليمين لقوله تعالى:
      ï´؟وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍï´¾35 ،فانّ

      259
      بهذه الطّهارة يحصل له استحقاق دخول الجنّة واستعداد قرب الحضرة العزّة، كما قال: ï´؟إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍï´¾36.

      رزقنا الله الوصول إليها، فانّ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

      وأمّا غسل أهل الحقيقة


      (البعد عن الحقّ سبحانه ومشاهدة الغير، جنابة عند أهل الحقيقة)

      فالغسل عندهم عبارة عن طهارتهم من الجنابة الحقيقية الّتي هي مشاهدة الغير مطلقاً، لأنّ الجنابة كما سبق بيانها هي البعد، وكلّ من شاهد الغير فهو بعد عن الحقّ ومشاهدته، ولا يمكن إزالة هذا البعد إلّا بقربه إلى التوحيد الحقيقي الّذي هو مشاهدة الحقّ تعالى من حيث هو هو لقوله:
      ï´؟شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُï´¾37 ، و قد مرّ بيان هذا التّوحيد مراراً.

      وترتيب هذا الغسل وهو أن يغسل رأسه الحقيقي الّذي هو هاهنا روحه المجرّد بماء التوحيد الذّاتي عن حدث مشاهدة الغير، لأنّ محبّة الله تعالى كما هو وظيفة الباطن المعبّر عنه بالنفس المطمئنّة، معرفته وظيفة القلب، ومشاهدته وظيفة الرّوح، كما أنّ الوصول إليه وظيفة (السّر) الّذي هو باطن الرّوح.

      والى هذا الترتيب أشار جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام في بعض أدعيته وهو قوله:


      260
      "اللّهم نوّر ظاهري بطاعتك، وباطني بمحبتك، وقلبي بمعرفتك، وروحي بمشاهدتك، وسرّي باستقلال اتّصال حضرتك يا ذا الجلال والإكرام"38.

      وهذا الغسل لا يمكن إلّا بفناء العارف في المعروف، والشاهد في المشهود المعبّر عنه بالفناء في التوحيد، وذلك يكون بمشاهدة الحقّ من حيث هو هو، أعني يشاهده بحيث لا يشاهد معه غيره، أعني لا يشاهد في الوجود إلّا وجوداً واحداً، وذاتاً واحدة مجرّدة عن جميع الاعتبارات والتّعيّنات، وإليه أشار الحقّ تعالى في قوله:
      ï´؟كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَï´¾39.
      وكذلك في قوله:
      ï´؟كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِï´¾40 ،وقد مرّ تحقيق هاتين الآيتين غير مرّة والتكرار غير مستحسن.

      وحيث تقرّر هذا التّوحيد، هو الصّراط المستقيم الحقيقي، المأمور بالاستقامة عليه نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم:
      ï´؟فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَï´¾41.

      و الحدّ الأوسط المشار إليه في قوله:
      ï´؟وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَï´¾42

      261
      وتقرّر أنّ له طرفان: طرف إفراط، وطرف تفريط، اللّذان هما التّوحيد الإجمالي، والتوحيد التّفصيلي.

      فالطّهارة من دنس جانب الإفراط المعبّر عنه بالأيمن يكون بخلاصه من التّوحيد الإجمالي، والطّهارة من دنس التفريط المعبّر عنه بالأسر يكون بخلاصه من التّوحيد التفصيلي، والاستقامة على الصّراط المذكور والحدّ الأوسط المعبّر عنه بالطّهارة الكبرى يكون بجمعه بين التّوحيدين، وقطع النّظر عن مشاهدة الغير أصلاً ورأساً مع اعتباره ومشاهدته من حيث الجمع المعبّر عنه بأحديّة الفرق بعد الجمع، وذلك صعب في غاية الصّعوبة، ولهذا وصفه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بـ"أحدّ من السّيف، وأدقّ من الشعر"43.

      وقوله تعالى:
      ï´؟مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىï´¾44،إشارة إلى الطّرفين، وقوله: ï´؟فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىï´¾45 ،إشارة إلى التّوحيد الجمعي المحمّدي الجامع للتّوحيدات كلّها.

      وبالجملة ليست الجنابة الحقيقية إلّا مشاهدة الغير على أيّ وجه كان، وليست الطّهارة الحقيقية عند التحقيق إلّا بعد الخلاص منها على أيّ وجه كان، وفيه قيل:
      قنعتُ بطيفٍ من خيالٍ بعثتُمُ
      وكنتُ بوصلٍ منكُمُ غيرَ قانعِ‏


      262
      إذا رمتَ من ليلى من البعدِ نظرةً
      لتطوى جوى بين الحشا والأضالع‏ِ
      تقول نساء الحيِّ تطمعُ أن ترى
      بعينيكَ ليلى مُتْ بداءِ المطامعِ‏
      وكيفَ تَرى ليلى بعينٍ ترى بها
      سواها، وما طَهَّرتَها بالمَدامع‏ِ


      وأمثال ذلك في هذا المعنى كثير، فليطلب من مظانّها.

      والله أعلم وأحكم وهو يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.

      هذا غسل الطّوائف الثّلاث بقدر هذا المقام.

      هوامش
      1- سورة المائدة، الآية: 6.
      2- سورة الأنعام، الآيتان:162-163.
      3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 67، ص 315، الشطر الأوّل من الحديث: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة».
      4- نهج البلاغة، الحكمة: 77.
      5- ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الأوّل، ج 2، ص 195.
      6- سورة إبراهيم، الآية: 27.
      7- سورة الجاثية،الآية: 23.
      8- سورة يوسف،الآية: 106.
      9- سورة التوبة،الآية: 28.
      10- سورة البقرة،الآية: 115.
      11- سورة الأنعام،الآية: 79.
      12- نهج البلاغة، الحكمة: 46.
      13- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 4، ص 119.
      14- سورة النساء، الآية: 48.
      15- سورة طه،الآية:12.
      16- أنظر: عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 4، ص 103. مع اختلاف بسيط.
      17- سورة التوبة،الآية: 122.
      18- سورة الأنفال،الآية: 17.
      19- نهج البلاغة، الحكمة: 77.
      20- عوالي اللئالي، ابن جمهور الأحسائي، ج 4، ص 119.
      21- سورة الشورى،الآية: 20.
      22- نهج البلاغة، الحكمة: 103.
      23- سورة الجاثية،الآية: 23.
      24- سورة القارعة،الآيتان: 7- 8.
      25- سورة التين،الآيتان: 4-5.
      26- سورة الملك، الآية: 10.
      27- سورة القارعة، الآيتان: 6- 7.
      28- سورة الغاشية، الآية: 10.
      29- سورة الأنعام، الآية: 71.
      30- سورة النازعات، الآيتان: 40 - 41.
      31- نهج البلاغة، الخطبة: 21 و167.
      32- سورة الصافات،الآيتان: 60-61.
      33- سورة الواقعة، الآيات: 27- 31.
      34- سورة الزمر، الآية: 67.
      35- سورة الواقعة، الآيات: 41 43.
      36- سورة القمر، الآيتان: 54-55.
      37- سورة آل عمران، الآية: 18.
      38- أنظر: موسوعة مؤلّفي الإمامية، مجمع الفكر الإسلامي، ج 2، ص 600، لكن الدعاء منسوب إلى الإمام عليّ عليه السلام.
      39- سورة القصص، الآية: 88.
      40- سورة الرحمن، الآيتان: 26- 27.
      41- سورة هود،الآية: 112.
      42- سورة الانعام،الآية: 153.
      43- أنظر: فتح الباري، ابن حجر، ج 11، ص 295.
      44- سورة النجم، الآية: 17.
      45- سورة النجم، الآية: 9.
      46- سورة المائدة، الآية: 6.


      يتبع

      تعليق


      • #4
        الدرس الرابع والعشرون: تفسير موضوعي لبحث: حبّ الدنيا
        أهداف الدرس

        1-
        أن يتعرّف الطالب إلى نموذج من المنهج النقلي(القرآن بالقرآن)
        2- أن يتعرّف إلى الاتجاه الموضوعي (نموذج حبّ الدنيا)


        267
        اسم الكتاب الأخلاق في القرآن
        تأليف الشيخ مكارم الشيرازي (1345 هـ -...)
        القرن عالم معاصر
        المنهج النقلي (تفسير القران بالقران)
        الاتجاه الموضوعي الأخلاقي
        الموضوع حبّ الدنيا
        المصدر ج2 ص 92 - 97 و ص 100 -101
        ... نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي من تعبيراتها الدقيقة ما يضيء لنا الطريق لدراسة هذه المبادئ والمواقف الأخلاقية المهمّة:

        1- إنّ القرآن الكريم يرى أنّ الدنيا ما هي إلّا لعب ولهو كما يلهو ويلعب الأطفال، وقد ورد وصف ذلك في آيات متعدّدة، ففي قوله تعالى:
        ï´؟وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌï´¾1.

        269
        وفي آية اُخرى قوله تعالى ï´؟اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِï´¾2.

        وفي الحقيقة: إنّ هذه الآيات الكريمة تشبّه أصحاب الدنيا بأنّهم كالأطفال الّذين يعيشون الغفلة والجهل عمّا يدور حولهم ولا همّ لهم إلّا الاشتغال بالتوافه والسفاسف من الأمور فلا يرون حتّى الخطر القريب المحدق بهم.

        بعض المفسّرين قسّم حياة الإنسان إلى خمس مراحل (من الطفولة إلى أن يبلغ مرحلة الكهولة في سن الأربعين) وذكر أنّ لكلّ مرحلة ثمان سنوات وقال: إنّ السنوات الثمانية الأولى من عمر الإنسان هي مرحلة اللعب، والسنوات الثمانية الثانية هي مرحلة اللهو، والسنوات الثمانية الثالثة حيث يعيش الإنسان في فترة الشباب فإنّه يتجه إلى الزينة والالتذاذ بالجمال، والسنوات الثمانية الرابعة يقضي وقته وطاقاته في التفاخر، وأخيراً في السنوات الثمانية الخامسة يهتم بالتكاثر في الأموال والأولاد، وهنا يثبت شخصية الإنسان ويستمر على هذه الحالة إلى آخر عمره، وبالتالي فإنّ أصحاب الدنيا لا يبقى لهم مجال للتفكُّر في الحياة المعنوية والقيم الإنسانية السامية.

        2- ومن الآيات الأخرى في هذا المجال نرى مفهوم "متاع الغرور" بالنسبة إلى الحياة الدنيا حيث يقول تعالى
        ï´؟وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِï´¾3.

        ويقول في مكان آخر
        ï´؟فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُï´¾4.

        وهذه التعبيرات تدلّ على أنّ زخارف الدنيا وبريقها الخادع يُعد أحد الموانع


        270
        المهمّة للتكامل المعنوي والصعود في درجات الكمال الإلهي للإنسان وما دام هذا المانع موجوداً فإنّه لا يصل إلى شيء من هذه الكمالات المعنوية.

        إنّ الحياة الدنيا مثلها كمثل السراب الّذي يجذب العطاشى نحوه في الصحراء المحرقة ولكنهم لا يحصلون على شيء منه أخيراً، وهكذا حال التعلُّقات المادّية الدنيوية فإنّها تجذب أصحاب الدنيا نحوها طمعاً في إرواء ظمأهم وعطشهم إلّا أنّهم لا يجدون ما يطلبونه في هذا المسير المنحرف بل يزدادون ظمأً وحُرقة، وكما أنّ السراب يبتعد عن الإنسان كلّما مشى نحوه وهكذا يظلّ يركض وراء السراب حتّى يهلك، فكذلك الدنيا تبتعد عن الإنسان كلّما اتّجه نحوها فتزيده عطشاً لها وإرهاقاً حتّى يهلك.

        ونرى هذه الحالة في الكثير من أصحاب الدنيا الّذين يركضون وراء متاع الدنيا وزخارفها سنوات مديدة من عمرهم وعندما يحصلوا على شيء منها فإنّهم يصرّحون بأنّهم لم يجدوا ضالّتهم ألّا وهي (الهدوء النفسي والطمأنينة الروحية) بل يعيشون الجفاف الروحي أكثر ويجدون أنّ ملذّات الحياة الدنيا تقترن دائماً مع الأشواك والمنغّصات وبدلاً من أن تورثهم الهدوء والطمأنينة فإنّها تعمل على إذكاء حالة القلق والاضطراب في جوانحهم وأعماق وجودهم وبذلك لا يجدون مبتغاهم فيها.

        3- وهناك طائفة أخرى من الآيات الكريمة الّتي تقرّر لنا هذه الحقيقة، وهي أنّ الانجذاب نحو زخارف الدنيا وزبارجها يؤدّي إلى أن يعيش الإنسان الغفلة عن الآخرة، أي أن يكون الشغل الشاغل له وهمّه الوحيد هو تحصيل هذه الزخارف الخادعة، فتقول الآية الشريفة:
        ï´؟يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَï´¾5.

        271
        فهؤلاء يجهلون حتّى الحياة الدنيا أيضاً وبدلاً من أن يجعلوها مزرعة الآخرة وقنطرة للوصول إلى الحياة الخالدة ونيل المقامات المعنوية وميداناً لممارسة السلوكيات الّتي تصعد بهم في سُلّم الفضائل الأخلاقية ومدارج الإنسانية، يتخذون الدنيا بعنوان أنّها الهدف النهائي والمطلوب الحقيقي والمعبود الواقعي لهم، ومن الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص يعيشون الغفلة عن الحياة الأخرى.

        ويقول القرآن الكريم في آية أخرى:

        ï´؟أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِï´¾6 ثمّ تضيف الآيةï´؟فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌï´¾7 أجل فإنّ الأشخاص الّذين يعيشون ضيق الأفق ومحدودية الفكر فإنّهم يرون الدنيا كبيرة وواسعة وخالدة وينسون الحياة الأخرى الأبدية الّتي قرّرها الله تعالى لحياة الإنسان الكريمة والمليئة بالمواهب الإلهية والنعيم الخالد.

        4- ونقرأ في قسم آخر من الآيات الكريمة أنّ الدنيا هي "عرض" على وزن "غرض" بمعنى الموجود المتزلزل والّذي يعيش الاهتزاز والتغيُّر والتبدُّل في جميع جوانبه وحالاته، ومن ذلك قوله تعالى
        ï´؟تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌï´¾8.

        وتقول الآيات في مكان آخر مخاطبة لأصحاب النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
        ï´؟تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَï´¾9.

        وفي آيات أخرى نجد هذا التعبير أيضاً حيث يدلّ على أنّ جماعة من المسلمين أو غير المسلمين وبدافع من الحرص والطمع تركوا الاهتمام بالمواهب الإلهية


        272
        الخالدة والحياة الأخرى والقيم الإنسانية العالية واشتغلوا في جمع زخارف الدنيا الزائله وإشباع الملذّات الرخيصة في حركة الحياة الدنيا. أجل فإنّ النعمة الحقيقية هي ما عند الله تعالى وما بقي فكلّه "عرض" يقبل الزوال والاندثار.

        وهذا التعبير هو في الحقيقة إنذار لجميع طلّاب الدنيا بأنّهم ينبغي عليهم الاهتمام بما لديهم من طاقات ورأس مال عظيم وبإمكانهم استخدامها في سبيل حياة كريمة وخالدة فلا يضيّعونها في الأمور الرخيصة والزائلة.

        5- ونقرأ في قسم آخر من الآيات التعبير عن المواهب المادّية بأنّها
        ï´؟زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَاï´¾10.

        ووردت تعبيرات مشابهة لهذه الآية في آيات أخرى أيضاً في قوله
        ï´؟مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَï´¾11.

        وفي مكان آخر يخاطب القرآن الكريم نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويقول:
        ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًاï´¾12.

        وهذه التعبيرات توضح بصورة جيّدة أنّ هذا البريق لزخارف الحياة الدنيا ما هو إلّا زينة للحياة المادّية، وبديهي أنّ الإنسان لا يُعبّر عن الأمور الحياتية والمصيرية بتعبير "زينة" أو "زينة الحياة الدنيا" أي الحياة السفلى والتافهة.

        ومن الجدير بالذكر أنّه حتّى أنّ مفهوم "الزينة" نجده في آيات أخرى مبنياً


        273
        للمجهول حيث ورد تعبير "زُيّن" وهذا يدلّ على أنّ هذه الزينة غير حقيقية بل خيالية ووهمية.

        مثلاً نقرأ في سورة البقرة الآية: 212 قوله تعالى:
        ï´؟زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَاï´¾.

        ونقرأ في سورة آل عمران الآية: 14 قوله تعالى:
        ï´؟زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِï´¾.

        هذه التعبيرات وتعبيرات أخرى مماثله تشير إلى أنّه حتّى مفهوم "الزينة" في مثل هذه الموارد ما هي إلّا زينة وهمية وخيالية حيث يتوهّم الناس من طلّاب الدنيا أنّها زينة حقيقية وواقعية.

        وهنا يتبادر سؤال مهمّ، وهو أنّه لماذا جعل الله تعالى مثل هذه الأمور زينة في أنظار الناس؟

        ومن المعلوم أنّ الدنيا إنّما جُعلت لتربية الإنسان واختباره وامتحانه لأنّ الإنسان إذا ترك مثل هذه الزينة الجميلة والخادعة والّتي تكون مقرونة بالحرام والإثم غالباً من أجل الله تعالى والسير في خطّ التقوى والإيمان فإنّ ذلك من شأنه أن يُعمِّق في نفسه روح التقوى والقيم الأخلاقية ويصعد به في مدارج الكمال المعنوي وإلّا فإنّ صرف النظر عن هذه الأمور المخادعة بمجرّده لا يُعدّ افتخاراً ومكرمة للإنسان.

        وبعبارة أدقّ فإنّ التمايلات والرغبات الباطنية والأهواء النفسانية تزيّن للإنسان الأمور المادّية بزينة جميلة لكي تدعوه إلى ارتكاب الإثم وممارسة الحرام، وعليه فإنّ هذه الزينة تنبع من ذات الإنسان ومن باطنه، وعندما نرى في الآيات الكريمة نسبة التزيّن إلى الله تعالى فذلك بسبب أنّ الله تعالى هو


        274
        الّذي خلق هذه التمايلات والرغبات والأهواء الطاغية، وعندما نقرأ في بعض الآيات نسبتها إلى الشيطان الرجيم في قوله تعالى: ï´؟وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْï´¾13 فذلك بسبب أنّ عملية التزيين هذه بالرغم من أنّها من جهة منسوبة إلى الله تعالى بسبب القانون العام في عالم الخِلقة، إلّا أنّ اتّباع هذه الأهواء والشهوات من جهة هو عمل الشيطان الرجيم الّذي يسوّل للإنسان هذه الأمور الخاطئة ليوقعه في الإثم والذنب.

        وعلى أيّة حال فإنّ المستفاد من مجموع الآيات المذكورة أعلاه أنّ "حبّ الدنيا" إذا استقرّ في قلب الإنسان وبصورة مفرطة فإنّه سيؤدّي به إلى الابتعاد عن الله تعالى والغفلة عن الآخرة.

        الدنيا المطلوبة والدنيا المذمومة

        قلنا كراراً أنّ المقصود من حبّ الدنيا في هذا البحث هو ما يساوي العشق للدنيا لا الاستفادة المعقولة من المواهب المادّية والطبيعية للتوصّل بها إلى الكمال المعنوي فإنّ ذلك ليس من حبّ الدنيا قطعاً بل من حبّ الآخرة، وبعبارة أخرى إنّ الكثير من البرامج المعنوية للسير في خطّ التكامل الإنساني لا تتسنّى بدون الامكانات المادّية، وفي الواقع إنّ هذه الإمكانات المادّية من قبيل مقدّمة الواجب الّتي إذا أتى بها الإنسان بنيّة مقدّمة الواجب، فمضافاً إلى أنّها لا تكون عيباً فإنّها تكون مشمولة بالثواب الإلهي أيضاً.

        ولهذا السبب نجد في الآيات القرآنية الكثيرة تعبيرات إيجابية عن مواهب الدنيا، ومن ذلك:

        1- ما ورد في آية الوصية من التعبير عن مال الدنيا بـ "خير" أي الخير المطلق


        275
        حيث تقول الآية: ï´؟كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِï´¾14.

        2- ويقول في مكان آخر "بركات السماء والأرض" عن مواهب الطبيعة الّتي فتحها الله تعالى للمؤمنين وذلك في قوله تعالى:
        ï´؟وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ......ï´¾15.

        3- ونقرأ في مكان آخر التعبير عن المال والثروة بأنّها "فضل الله" كما ورد في سورة الجمعة:
        ï´؟فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِï´¾16.

        4- وفي آية أخرى ورد أنّ كثرة الأموال والثروات بأنّها ثواب من الله تعالى للتائبين كما ورد في قصّة نوح:
        ï´؟يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًاï´¾17.

        وفي مكان آخر يقرّر أنّ الأموال هي وسيلة للحياة ومحور للنشاطات الدنيوية للأقوام البشرية وتؤكّد الآيات على عدم وضعها بيد السفهاء وتقول:
        ï´؟وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماًï´¾18.

        5- وفي مورد آخر يتحدّث القرآن الكريم عن وعد الله تعالى للمجاهدين في سبيله بالغنائم الكثيرة ويعدّها من أنواع الثواب الإلهي لهم ويقول:


        276
        ï´؟وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ.......ï´¾19.

        6- وفي موضع آخر من الآيات القرآنية الكريمة يتحدّث القرآن عن النعم المادّية الدنيوية ويُعبّر عنها بـ "الطيّبات" كما نقرأ في سورة الأعراف الآية: 32 قوله تعالى:
        ï´؟قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ.....ï´¾.

        وفي مورد آخر يقول:
        ï´؟وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَï´¾20.

        هذه التعبيرات العميقة وأمثالها من تعبيرات القرآن الكريم يُستفاد منها جيّداً أنّ المواهب المادّية والدنيوية في ظلّ ظروف خاصّة وأجواء متناسبة ليست فقط غير مطلوبة بل هي طيّبة وطاهرة وباعثة على طيب البشر وطهارتهم.

        7- ونقرأ في آيات أخرى عبارات تُقرّر أنّ الإمكانات المادّية مضافاً إلى أنّها من فضل الله على الإنسان يمكنها أن تكون سبباً للصعود بالإنسان إلى مرتبة الصالحين، كما ورد في الآية: 75 من سورة التوبة:
        ï´؟وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَï´¾.

        هذه الآية الشريفة وبالنظر إلى شأن نزولها كما ورد في التفاسير أنّها نزلت في أحد الأنصار يُدعى "ثعلبة بن حاطب" الّذي طلب من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو له بكثرة المال لينفق منه في سبيل الله وليكون من الصالحين ففي البداية لم يستجب النبيّ لطلبه لما يعرف من مزاجه وروحيته ولكن بعد إصراره دعا له


        277
        النبيّ بذلك وكانت النتيجة معروفة، فهذه الآية توضح على أنّ الامكانات المادّية يمكنها أن تكون وسيلة للصعود بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي ونيل السعادة الحقيقية والوصول إلى مرتبة الصالحين والمقربين.

        ومن مجموع العناوين السبعة الواردة بالآيات أعلاه يتّضح جيّداً أنّ النعم المادّية والمواهب الدنيوية ليست مذمومة وقبيحة بالذّات بل هي تابعة لكيفية استخدامها واستعمالها والطريقة الّتي يسلك بها الإنسان في الاستفادة منها، فلو أنّه استفاد منها بصورة صحيحة لأضحت مطلوبة وجميلة ونقيّة وطاهرة، وفي غير هذه الصورة فهي ذميمة وسلبية ومضرّة....

        تعليق


        • #5
          الدرس الخامس والعشرون: تفسير موضوعي لبحث: الشفاعة(1)
          أهداف الدرس

          1-
          أن يتعرّف الطالب إلى نموذج من التفسير الكامل
          نموذج بحث الشفاعة (1)


          281
          ï´؟يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَï´¾1
          اسم الكتاب الميزان في تفسير القرآن
          تأليف العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي(1321 - 1402 هـ)
          القرن الرابع عشر - الخامس عشر
          المنهج الكامل
          الاتجاه الموضوعي - الكلامي العقائدي - الفلسفي - الاجتماعي
          الموضوع الشفاعة
          المصدر ج1 ص 87 - 99
          بيان

          قوله تعالى: واتقوا يوماً لا تجزي.

          الملك والسلطان الدنيوي بأنواعه وأقسامه وبجميع شؤونه، وقواه المقنّنة


          283
          الحاكمة والمجرية مبتنية على حوائج الحياة، وغايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانية والمكانية، فربّما بدّل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلّي يضبط الحكم ويجري ذلك في باب المجازاة أيضاً فإنّ الجرم والجناية عندهم يستتبع العقاب، وربّما بدّل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كأن يلحّ المحكوم الّذي يرجى عقابه على القاضي ويسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحقّ، أو يبعث المجرم شفيعاً يتوسّط بينه وبين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلاً وبدلاً إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد وأكثر من الحاجة إلى عقاب ذلك المجرم، أو يستنصر قومه فينصروه فيتخلّص بذلك عن تبعة العقاب ونحو ذلك.

          تلك سنّة جارية وعادة دائرة بينهم، وكانت الملل القديمة من الوثنيين وغيرهم تعتقد أنّ الحياة الآخرة نوع حياة دنيوية يطّرد فيها قانون الأسباب ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثُّر المادّي الطبيعي، فيقدّمون إلى آلهتهم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الإمداد في حوائجهم، أو يستشفعون بها، أو يفدون بشيء عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتّى إنّهم كانوا يدفنون مع الأموات أنواع الزخرف والزينة، ليكون معهم ما يتمتّعون به في آخرتهم، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم، وربّما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها، ومن الأبطال من يستنصر به الميت، وتوجد اليوم في المتاحف بين الآثار الأرضية عتائق كثيرة من هذا القبيل، ويوجد عقائد متنوّعة شبيهة بتلك العقائد بين الملل الإسلامية على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، بقيت بينهم بالتوارث، ربّما تلوّنت لوناً بعد لون، جيلاً بعد جيل، وقد أبطل القرآن جميع هذه


          284
          الآراء الواهية، والأقاويل الكاذبة، فقد قال عزّ من قائل: ï´؟وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِï´¾2 ، وقال: ï´؟وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُï´¾3، وقالï´؟وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَï´¾4 ، وقال: ï´؟هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَï´¾5 ، إلى غير ذلك من الآيات الّتي بيّن فيها: أنّ الموطن خال عن الأسباب الدنيوية، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية، وهذا أصل يتفرّع عليه بطلان كلّ واحد من تلك الأقاويل والأوهام على طريق الإجمال، ثمّ فصّل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال: ï´؟وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَï´¾6 ، وقال: ï´؟يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌï´¾7، وقال: ï´؟يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًاï´¾8 ، وقال: ï´؟يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍï´¾9 ، وقال: ï´؟مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَï´¾10 ، وقال: ï´؟وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَï´¾11 ، وقال: ï´؟مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ

          285
          حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُï´¾12 ، وقال: ï´؟فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍï´¾13 ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط والأسباب يوم القيامة هذا.

          ثمّ إنّ القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها، بل يثبتها بعض الإثبات، قال تعالى:
          ï´؟اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَï´¾14 ، وقال تعالى: ï´؟لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌï´¾15 ، وقال تعالى: ï´؟قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًاï´¾16، وقال تعالى: ï´؟لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْï´¾17، وقال تعالى: ï´؟إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِï´¾18, وقال تعالى: ï´؟وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَï´¾19 ، وقال: ï´؟وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَï´¾20 ، وقال: ï´؟لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًاï´¾21 ، وقال تعالى: ï´؟يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ

          286
          لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًاï´¾22 ، وقال تعالى:ï´؟وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُï´¾23 ، وقال تعالى: ï´؟وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَىï´¾24.

          فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عزّ اسمه كالآيات الثلاثة الأولى وبين ما يعمّمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب، غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه، وقد عرفت أنّ هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره، وإثباته له تعالى بالاختصاص ولغيره بارتضائه، قال تعالى:
          ï´؟قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَï´¾25 ، وقال تعالى: ï´؟وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ï´¾26 وقال تعالى: ï´؟عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍï´¾27، وكذلك الآيات الناطقة في التوفّي والخلق والرزق والتأثير والحكم والملك وغير ذلك فإنّها شائعة في أسلوب القرآن، حيث ينفي كلّ كمال عن غيره تعالى، ثمّ يثبته لنفسه، ثمّ يثبته لغيره بإذنه ومشيته، فتفيد أنّ الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها واستقلالها، وإنّما تملكها بتمليك الله لها إيّاها، حتّى أنّ القرآن يثبت نوعاً من المشية في ما حكم فيه وقضى عليه بقضاء، حتم كقوله تعالى: ï´؟فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ

          287
          لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍï´¾28.

          فقد علّق الخلود بالمشية وخاصّة في خلود الجنّة مع حكمه بأنّ العطاء غير مجذوذ، إشعاراً بأنّ قضاءه تعالى بالخلود لا يخرج الأمر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عزّ سلطانه كما يدلّ عليه قوله:
          ï´؟إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ï´¾29 ، وبالجملة لا إعطاء هناك يخرج الأمر من يده ويوجب له الفقر، ولا منع يضطره إلى حفظ ما منعه وإبطال سلطانه تعالى.

          ومن هنا يظهر أنّ الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنّما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك، والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة، ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى بإذنه فلننظر ماذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة ومتعلّقها؟ وفيمن تجري؟ وممّن تصح؟ ومتى تتحقّق؟ وما نسبتها إلى العفو والمغفرة منه تعالى؟ ونحو ذلك في أمور.

          1 - ما هي الشفاعة؟...

          2 - إشكالات الشفاعة...

          3 - فيمن تجري الشفاعة؟


          قد عرفت أنّ تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدِّينية كلّ الملاءمة إلّا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب إبهام وعلى ذلك جرى بيان القرآن، قال تعالى:
          ï´؟كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ

          288
          الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَï´¾30 ، بيّن سبحانه فيها أنّ كلّ نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب، مأخوذة بما أسلفت من الخطايا إلّا أصحاب اليمين فقد فكّوا من الرهن وأطلقوا واستقرّوا في الجنان، ثمّ ذكر أنّهم غير محجوبين عن المجرمين الّذين هم مرهونون بأعمالهم، مأخوذ عليهم في سقر، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار، وهم يجيبون بالإشارة إلى عدّة صفات ساقتهم إلى النار، فرّع على هذه الصفات بأنّه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين.

          ومقتضى هذا البيان كون أصحاب اليمين غير متّصفين بهذه الصفات الّتي يدلّ الكلام على كونها هي المانعة عن شمول الشفاعة، وإذا كانوا غير متّصفين بهذه الصفات المانعة عن شمول الشفاعة وقد فكّ الله تعالى نفوسهم عن رهانة الذنوب والآثام دون المجرمين المحرومين عن الشفاعة، المسلوكين في سقر، فهذا الفكّ والإخراج إنّما هو بالشفاعة فأصحاب اليمين هم المشفعون بالشفاعة، وفي الآيات تعريف أصحاب اليمين بانتفاء الأوصاف المذكورة عنهم، بيان ذلك: أنّ الآيات واقعة في سورة المدثر وهي من السور النازلة بمكة في بدء البعثة كما ترشد إليه مضامين الآيات الواقعة فيها، ولم يشرع يومئذ الصلاة والزكاة بالكيفية الموجودة اليوم، فالمراد بالصلاة في قوله لم نك من المصلين التوجه إلى الله تعالى بالخضوع العبودي، وبإطعام المسكين مطلق الإنفاق على المحتاج في سبيل الله، دون الصلاة والزكاة المعهودتين في الشريعة الإسلامية والخوض هو الغور في ملاهي الحياة وزخارف الدنيا الصارفة للإنسان عن الإقبال على الآخرة وذكر الحساب يوم الدِّين، أو التعمُّق


          289
          في الطعن في آيات الله المذكرة ليوم الحساب المبشرة المنذرة، وبالتلبس بهذه الصفات الأربع، وهي ترك الصلاة لله وترك الإنفاق في سبيل الله والخوض وبتكذيب يوم الدِّين ينهدم أركان الدِّين، وبالتلبس بها تقوم قاعدته على ساق فإن الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالإعراض عن الإخلاد إلى الأرض والإقبال إلى يوم لقاء الله، وهذان هما ترك الخوض وتصديق يوم الدِّين ولازم هذين عملاً التوجه إلى الله بالعبودية، والسعي في رفع حوائج جامعة الحياة وهذان هما الصلاة والإنفاق في سبيل الله، فالدِّين يتقوّم بحسب جهتي العلم والعمل بهذه الخصال الأربع، وتستلزم بقية الأركان كالتوحيد والنبوة استلزاماً هذا، فأصحاب اليمين هم الفائزون بالشفاعة، وهم المرضيون ديناً واعتقاداً سواء كانت أعمالهم مرضية غير محتاجة إلى شفاعة يوم القيامة أو لم تكن، وهم المعنيّون بالشفاعة، فالشفاعة للمذنبين من أصحاب اليمين، وقد قال تعالى: ï´؟إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْï´¾31 ، فمن كان له ذنب باق إلى يوم القيامة فهو لا محالة من أهل الكبائر، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفّراً عنه، فقد بان أنّ الشفاعة لأهل الكبائر من أصحاب اليمين، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون
          فما عليهم من سبيل، الحديث.

          ومن جهة أخرى إنّما سمي هؤلاء بأصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال وربما سموا أصحاب الميمنة في مقابل أصحاب المشأمة، وهو من الألفاظ الّتي اصطلح عليه القرآن مأخوذ من إيتاء الإنسان يوم القيامة كتابه بيمينه أو بشماله، قال تعالى:
          ï´؟يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى

          290
          فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ï´¾32 ، وسنبين في الآية إن شاء الله تعالى أن المراد من إيتاء الكتاب باليمين اتباع الإمام الحق، ومن إيتائه بالشمال اتباع إمام الضلال كما قال تعالى في فرعون:ï´؟يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَï´¾33، وبالجملة مرجع التسمية بأصحاب اليمين أيضاً إلى ارتضاء الدِّين كما أنّ إليه مرجع التوصيف بالصفات الأربعة المذكورة هذا.

          ثمّ إنّه تعالى قال في موضع آخر من كلامه:
          ï´؟وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىï´¾34 ، فأثبت الشفاعة على من ارتضى، وقد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل ونحوه، كما فعله في قوله:ï´؟إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًاï´¾35 ، ففهمنا أنّ المراد به ارتضاء أنفسهم أي ارتضاء دينهم لا ارتضاء عملهم، فهذه الآية أيضاً ترجع من حيث الإفادة إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ثمّ إنّه تعالى قال ï´؟يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا* وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًاï´¾ فهو يملك الشفاعة أي المصدر المبني للمفعول وليس كلّ مجرم بكافر محتوم له النار، بدليل قوله تعالى: ï´؟إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىï´¾36 ، فمن لم يكن مؤمناً قد عمل صالحاً فهو مجرم سواء كان لم يؤمن، أو كان قد آمن ولم يعمل صالحاً، فمن المجرمين من كان على دين الحقّ لكنّه لم يعمل صالحاً وهو الّذي قد اتخذ عند الله عهداً لقوله تعالى: ï´؟أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا

          291
          تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌï´¾37 فقوله تعالى: ï´؟وَأَنْ اعْبُدُونِيï´¾ عهد بمعنى الأمر وقوله تعالى: هذا صراط مستقيم، عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة والنجاة، فهؤلاء قوم من أهل الإيمان يدخلون النار لسوء أعمالهم، ثمّ ينجون منها بالشفاعة، وإلى هذا المعنى يلوح قوله تعالى ï´؟وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًاï´¾38 ، فهذه الآيات أيضاً ترجع إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة، والجميع تدلّ على أنّ مورد الشفاعة أعني المشفوع لهم يوم القيمة هم الدائنون بدين الحقّ من أصحاب الكبائر، وهم الّذين ارتضى الله دينهم.

          4 - من تقع منه الشفاعة؟

          قد عرفت أنّ الشفاعة منها تكوينية، ومنها تشريعية، فأمّا الشفاعة التكوينية فجملة الأسباب الكونية شفعاء عند الله بما هم وسائط بينه وبين الأشياء.

          وأمّا الشفاعة التشريعية، وهي الواقعة في عالم التكليف والمجازات، فمنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قرباً وزلفى، فهو شفيع متوسّط بينه وبين عبده.

          ومنه التوبة كما قال تعالى:
          ï´؟قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْï´¾39 ، ويعمّ شموله لجميع المعاصي حتّى الشرك.

          292
          ومنه الإيمان قال تعالى: ï´؟وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ، إلى قوله: وَيَغْفِرْ لَكُمْï´¾40.

          ومنه كل عمل صالح.

          قال تعالى:
          ï´؟وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌï´¾41، وقال تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَï´¾42 والآيات فيه كثيرة، ومنه القرآن لقوله تعالى: ï´؟يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍï´¾43.

          ومنه كلّ ما له ارتباط بعمل صالح، والمساجد والأمكنة المتبركة والأيام الشريفة، ومنه الأنبياء والرسل باستغفارهم لأممهم.

          قال تعالى:
          ï´؟وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًاï´¾44.

          ومنه الملائكة في استغفارهم للمؤمنين، قال تعالى:
          ï´؟الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواï´¾45 ، وقال تعالى: ï´؟وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُï´¾46 ومنه المؤمنون باستغفارهم لأنفسهم ولإخوانهم المؤمنين.

          قال تعالى حكاية عنهم
          ï´؟ َاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَاï´¾47.

          293
          ومنها الشفيع يوم القيمة، بالمعنى الّذي عرفت، فمنهم الأنبياء، قال تعالى: ï´؟وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَï´¾ إلى أن قال: ï´؟وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىï´¾48 ، فإن منهم عيسى بن مريم وهو نبيّ، وقال تعالى: ï´؟وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَï´¾49، والآيتان تدلان على جواز الشفاعة من الملائكة أيضاً لأنّهم قالوا إنّهم بنات الله سبحانه.

          ومنهم الملائكة، قال تعالى:
          ï´؟وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَىï´¾50 ، وقال تعالى: ï´؟يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْï´¾51. ومنهم الشهداء لدلالة قوله تعالى: ï´؟وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَï´¾52 ،على تملّكهم للشفاعة لشهادتهم بالحقّ، فكلّ شهيد فهو شفيع يملك الشهادة غير أنّ هذه الشهادة كما مرّ في سورة الفاتحة وسيأتي في قوله تعالى ï´؟وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِï´¾53 شهادة الأعمال دون الشهادة بمعنى القتل في معركة القتال، ومن هنا يظهر أنّ المؤمنين أيضاً من الشفعاء فإنّ الله عزّ وجلّ أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة، قال تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْï´¾54 ، كما سيجيء بيانه.

          294
          5 - بماذا تتعلّق الشفاعة؟

          قد عرفت أنّ الشفاعة منها تكوينية تتعلّق بكلّ سبب تكويني في عالم الأسباب ومنها شفاعة تشريعية متعلّقة بالثواب والعقاب فمنها ما يتعلّق بعقاب كلّ ذنب، الشرك فما دونه كشفاعة التوبة والإيمان قبل يوم القيامة ومنها ما يتعلّق بتبعات بعض الذنوب كبعض الأعمال الصالحة، وأمّا الشفاعة المتنازع فيها وهي شفاعة الأنبياء وغيرهم يوم القيامة لرفع العقاب ممن استحقّه بالحساب، فقد عرفت في الأمر الثالث أنّ متعلّقها أهل المعاصي الكبيرة ممن يدين دين الحقّ وقد ارتضى الله دينه.

          6 - متى تنفع الشفاعة؟

          ونعني بها أيضاً الشفاعة الرافعة للعقاب، والّذي يدلّ عليه قوله سبحانه:
          ï´؟كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَï´¾55 ، فالآيات كما مرّ دالّة على توصيف من تناله الشفاعة ومن يحرم منها غير أنّها تدلّ على أنّ الشفاعة إنّما تنفع في الفكّ عن هذه الرهانة والإقامة والخلود في سجن النار، وأمّا ما يتقدّم عليه من أهوال يوم القيامة وعظائمها فلا دليل على وقوع شفاعة فيها لو لم تدلّ الآية على انحصار الشفاعة في الخلاص من رهانة النار.و اعلم أنّه يمكن أن يستفاد من هذه الآيات وقوع هذا التساؤل بعد استقرار أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار وتعلّق الشفاعة بجمع من المجرمين بإخراجهم من النار، وذلك لمكان قوله: في جنّات، الدالّ على الاستقرار وقوله: ما سلككم فإنّ السلوك هو الإدخال لكن لا كلّ إدخال بل إدخال على سبيل النضد

          295
          والجمع والنظم ففيه معنى الاستقرار وكذا قوله: فما تنفعهم، فإنّ ما لنفي الحال، فافهم ذلك.

          وأمّا نشأة البرزخ وما يدلّ على حضور النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام عند الموت وعند مساءلة القبر وإعانتهم إيّاه على الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى:
          ï´؟وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِï´¾56 ، فليس من الشفاعة عند الله في شيء وإنّما هو من سبيل التصرّفات والحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه، قال تعالى: ï´؟وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ï´¾ إلى أن قال: ï´؟وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَï´¾57 ، ومن هذا القبيل من وجه قوله تعالى: ï´؟يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِï´¾58 ، فوساطة الإمام في الدعوة، وإيتاء الكتاب من قبيل الحكومة الموهوبة فافهم.

          فتحصّل أنّ المتحصّل من أمر الشفاعة وقوعها في آخر موقف من مواقف يوم القيامة باستيهاب المغفرة بالمنع عن دخول النار، أو إخراج بعض من كان داخلا فيها، باتساع الرحمة أو ظهور الكرامة.

          هوامش
          1- سورة البقرة، الآيتان: 47 48.
          2- سورة الإنفطار، الآية: 19.
          3- سورة البقرة، الآية: 166.
          4- سورة الأنعام ، الآية: 94.
          5- سورة يونس، الآية: 30.
          6- سورة البقرة، الآية: 48.
          7- سورة البقرة، الآية: 254.
          8- سورة الدخان، الآية: 41.
          9- سورة غافر، الآية: 33.
          10- سورة الصافات، الآيتان: 25 - 26.
          11- سورة يونس، الآية: 18.
          12- سورة المؤمن، الآية: 18.
          13- سورة الشعراء، الآيتان: 100 - 101.
          14- سورة السجدة، الآية: 4.
          15- سورة الأنعام، الآية: 51.
          16- سورة الزمر، الآية: 44.
          17- سورة البقرة، الآية: 255.
          18- سورة يونس، الآية: 3.
          19- سورة الأنبياء، الآيات: 26 - 28.
          20- سورة الزخرف، الآية: 86.
          21- سورة مريم، الآية: 87.
          22- سورة طه، الآيتان: 109- 110.
          23- سورة سبأ، الآية: 23.
          24- سورة النجم، الآية: 26.
          25- سورة النمل، الآية: 65.
          26- سورة الأنعام، الآية: 59.
          27- سورة الجن، الآيتان: 26 - 27.
          28- سورة هود، الآيات: 106 - 108.
          29- سورة هود، الآية: 107.
          30- سورة المدثر، الآيات: 38 - 48.
          31- سورة النساء، الآية: 31.
          32- سورة الإسراء، الآيتان: 71 - 72.
          33- سورة هود، الآية: 98.
          34- سورة الأنبياء، الآية: 28.
          35- سورة طه، الآية: 109.
          36- سورة طه، الآيتان: 74 - 75.
          37- سورة يس، الآيتان: 60- 61.
          38- سورة البقرة، الآية: 80.
          39- سورة الزمر، الآيتان: 53 - 54.
          40- سورة الحديد، الآية: 28.
          41- سورة المائدة، الآية: 9.
          42- سورة المائدة، الآية: 35.
          43- سورة المائدة، الآية: 16.
          44- سورة النساء، الآية: 64.
          45- سورة غافر، الآية: 7.
          46- سورة الشورى، الآية: 5.
          47- سورة البقرة، الآية: 286.
          48- سورة الأنبياء، الآية: 28.
          49- سورة الزخرف، الآية: 86.
          50- سورة النجم، الآية: 26.
          51- سورة طه، الآية: 110.
          52- سورة الزخرف، الآية: 86.
          53- سورة البقرة، الآية: 143.
          54- سورة الحديد، الآية: 19.
          55- سورة المدثّر، الآيات: 38 - 42.
          56- سورة النساء، الآية: 159.
          57- سورة الأعراف، الآيات: 46، 48، 49.
          58- سورة الإسراء، الآية: 71.
          59- سورة البقرة، الآيتان: 47 48.

          يتبع

          تعليق


          • #6
            الدرس السادس والعشرون: تفسير موضوعي لبحث: الشفاعة (2)
            أهداف الدرس

            1- أن يتعرّف الطالب إلى نموذج من التفسير الكامل
            نموذج بحث الشفاعة (2)


            299
            اسم الكتاب الميزان في تفسير القرآن
            تأليف العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي(1321 - 1402 هـ)
            القرن الرابع عشر - الخامس عشر
            المنهج الكامل
            الاتجاه الموضوعي - الكلامي العقائدي - الفلسفي - الاجتماعي
            الموضوع الشفاعة
            المصدر ج1 ص 99 - 106
            بعد أن بحثنا في الدرس السابق جانباً من تفسير العلّامة الطباطبائي للآيتين: 47 48 من سورة البقرة: ï´؟يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَï´¾ نكمل في هذا الدرس تكملة تفسيره، وهنا يبحث العلّامة بحثاً روائياً وفلسفياً واجتماعياً.

            بحث روائي

            في أمالي الصدوق، عن الحسين بن خالد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله


            301
            حوضي ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل، قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا عليه السلام يا بن رسول الله فما معنى قول الله عزّ وجلّ: ï´؟وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىï´¾ قال عليه السلام لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه1....

            وفي تفسير العياشي، أيضاً: عن أحدهما عليهما السلام: في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً، قال: هي الشفاعة2.....

            وفي تفسير القمّي، أيضاً: في قوله تعالى: ولا تنفع الشفاعة عنده إلّا لمن أذن له. قال عليه السلام: لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله حتّى يأذن الله له إلّا رسول الله فإنّ الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة، والشفاعة له وللأئمّة من ولده ثمّ من بعد ذلك للأنبياء3.

            وفي الخصال عن عليّ عليه السلام قال قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة يشفعون إلى الله عزّ وجلّ فيشفعون: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء4.

            أقول: الظاهر أن المراد بالشهداء، شهداء معركة القتال كما هو المعروف في لسان الأئمّة في الأخبار لا شهداء الأعمال كما هو مصطلح القرآن.

            وفي الخصال، في حديث الأربعمائة: وقال عليه السلام: لنا شفاعة ولأهل مودّتنا شفاعة5.

            أقول: وهناك روايات كثيرة في شفاعة سيدة النساء فاطمة عليها السلام وشفاعة ذريتها غير الأئمّة وشفاعة المؤمنين حتّى السقط منهم....


            302
            وفي الخصال بأسانيد عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان يوم القيامة تجلّى الله عزّ وجلّ لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً ثمّ يغفر الله له لا يطلع الله له ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ويستر عليه أن يقف عليه أحد، ثمّ يقول لسيئاته: كوني حسنات6....

            وفي الأمالي عن الصادق عليه السلام: إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتّى يطمع إبليس في رحمته7.

            أقول: والروايات الثلاث الأخيرة من المطلقات والأخبار الدالّة على وقوع شفاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة من طرق أئمّة أهل البيت وكذا من طرق أهل السنّة والجماعة بالغة حدّ التواتر، وهي من حيث المجموع إنّما تدلّ على معنى واحد وهو الشفاعة على المذنبين من أهل الإيمان إمّا بالتخليص من دخول النار وإمّا بالإخراج منها بعد الدخول فيها، والمتيقّن منها عدم خلود المذنبين من أهل الإيمان في النار وقد عرفت أنّ القرآن أيضاً لا يدلّ على أزيد من ذلك.

            بحث فلسفي

            البراهين العقلية وإن قصرت عن إعطاء التفاصيل الواردة كتاباً وسنّة في المعاد لعدم نيلها المقدّمات المتوسّطة في الاستنتاج على ما ذكره الشيخ ابن سينا لكنّها تنال ما يستقبله الإنسان من كمالاته العقلية والمثالية في صراطي السعادة والشقاوة بعد مفارقة نفسه بدنه من جهّة التجرُّد العقلي والمثالي الناهض عليهما البرهان.

            فالإنسان في بادىء أمره يحصل له من كلّ فعل يفعله هيئة نفسانية وحال من أحوال السعادة والشقاوة، ونعني بالسعادة ما هو خير له من حيث إنّه إنسان،


            303
            وبالشقاوة ما يقابل ذلك، ثمّ تصير تلك الأحوال بتكرُّرها ملكة راسخة، ثمّ يتحصّل منها صورة سعيدة أو شقية للنفس تكون مبدأ لهيئات وصور نفسانية، فإن كانت سعيدة فآثارها وجودية ملائمة للصورة الجديدة، وللنفس الّتي هي بمنزلة المادّة القابلة لها، وإن كانت شقية فآثارها أمور عدمية ترجع بالتحليل إلى الفقدان والشر، فالنفس السعيدة تلتذّ بآثارها بما هي إنسان، وتلتذّ بها بما هي إنسان سعيد بالفعل، والنفس الشقية وإن كانت آثارها مستأنسة لها وملائمة بما أنّها مبدأ لها لكنّها تتألّم بها بما أنّها إنسان، هذا بالنسبة إلى النفوس الكاملة في جانب السعادة والشقاوة، أعني الإنسان السعيد ذاتاً والصالح عملاً والإنسان الشقي ذاتاً والطالح عملاً، وأمّا الناقصة في سعادتها وشقاوتها فالإنسان السعيد ذاتاً الشقي فعلاً بمعنى أن يكون ذاته ذات صورة سعيدة بالاعتقاد الحقّ الثابت غير أنّ في نفسه هيئات شقية ردية من الذنوب والآثام اكتسبتها حين تعلّقها بالبدن الدنيوي وارتضاعها من ثدي الاختيار، فهي أمور قسرية غير ملائمة لذاته، وقد أقيم البرهان على أنّ القسر لا يدوم، فهذه النفس سترزق التطهُّر منها في برزخ أو قيامة على حسب قوّة رسوخها في النفس، وكذلك الأمر فيما للنفس الشقية من الهيئات العارضة السعيدة فإنّها ستسلب عنها وتزول سريعاً أو بطيئاً، وأمّا النفس الّتي لم تتمّ لها فعلية السعادة والشقاوة في الحياة الدنيا حتّى فارقت البدن مستضعفة ناقصة فهي من المرجئين لأمر الله عزّ وجلّ، فهذا ما يقتضيه البراهين في المجازاة بالثواب والعقاب المقتضية لكونها من لوازم الأعمال ونتائجها، لوجوب رجوع الروابط الوضعية الاعتبارية بالآخرة إلى روابط حقيقية وجودية هذا.

            ثمّ إنّ البراهين قائمة على أنّ الكمال الوجودي مختلف بحسب مراتب الكمال والنقص والشدّة والضعف وهو التشكيك خاصّة في النور المجرّد فلهذه النفوس مراتب مختلفة في القرب والبعد من مبدإ الكمال ومنتهاه في سيرها الارتقائي وعودها إلى ما بدأت منها وهي


            304
            بعضها فوق بعض، وهذه شأن العلل الفاعلية بمعنى ما به ووسائط الفيض، فلبعض النفوس وهي النفوس التامة الكاملة كنفوس الأنبياء عليهم السلام وخاصّة من هو في أرقى درجات الكمال والفعلية وساطة في زوال الهيئات الشقية الردية القسرية من نفوس الضعفاء، ومن دونهم من السعداء إذا لزمتها قسراً، وهذه هي الشفاعة الخاصّة بأصحاب الذنوب.

            بحث اجتماعي

            الّذي تعطيه أصول الاجتماع أنّ المجتمع الإنساني لا يقدر على حفظ حياته وإدامة وجوده إلّا بقوانين موضوعة معتبرة بينهم، لها النظارة في حاله، والحكومة في أعمال الأفراد وشؤونهم، تنشأ عن فطرة المجتمع وغريزة الأفراد المجتمعين بحسب الشرائط الموجودة، فتسير بهدايتها جميع طبقات الاجتماع كلّ على حسب ما يلائم شأنه ويناسب موقعه فيسير المجتمع بذلك سيراً حثيثاً ويتولّد بتألّف أطرافه وتفاعل متفرّقاته العدل الاجتماعي وهي موضوعة على مصالح ومنافع مادّية يحتاج إليها ارتقاء الاجتماع المادّي، وعلى كمالات معنوية كالأخلاق الحسنة الفاضلة الّتي يدعو إليها صلاح الاجتماع كالصدق في القول والوفاء بالعهد والنصح وغير ذلك.

            وحيث كانت القوانين والأحكام وضعية غير حقيقية احتاجت إلى تتميم تأثيرها، بوضع أحكام مقرّرة أخرى في المجازاة لتكون هي الحافظة لحماها عن تعدّي الأفراد المتهوّسين وتساهل آخرين، ولذلك كلّما قويت حكومة أيّ حكومة كانت على إجراء مقرّرات الجزاء لم يتوقّف المجتمع في سيره ولا ضلّ سائره عن طريقه ومقصده، وكلّما ضعفت اشتدّ الهرج والمرج في داخله وانحرف عن مسيره فمن التعاليم اللازمة تثبيتها في الاجتماع تلقين أمر الجزاء، وإيجاد الإيمان به في نفوس الأفراد، ومن الواجب الاحتراز من أن يدخل في نفوسهم رجاء التخلُّص عن حكم الجزاء، وتبعة المخالفة والعصيان، بشفاعة أو رشوة أو بشيء من الحيل والدسائس المهلكة،


            305
            ولذلك نقموا على الديانة المسيحية ما وقع فيها أنّ المسيح فدى الناس في معاصيهم بصلبه، فالناس يتّكلون عليه في تخليصهم من يد القضاء يوم القيامة ويكون الدِّين إذ ذاك هادما للإنسانية، مؤخّراً للمدنية، راجعاً بالإنسان القهقرى كما قيل.

            وأنّ الإحصاء يدلّ من أنّ المتدينين أكثر كذباً وأبعد من العدل من غيرهم وليس ذلك إلّا أنّهم يتّكلون بحقّية دينهم، وادخار الشفاعة في حقّهم ليوم القيامة، فلا يبالون ما يعملون بخلاف غيرهم، فإنّهم خلوا وغرائزهم وفطرهم ولم يبطل حكمها بما بطل به في المتديّنين فحكمت بقبح التخلّف عمّا يخالف حكم الإنسانية والمدنية الفاضلة.

            وبذلك عوّل جمع من الباحثين في تأويل ما ورد في خصوص الشفاعة في الإسلام وقد نطق به الكتاب وتواترت عليه السنة.

            ولعمري لا الإسلام تثبت الشفاعة بالمعنى الّذي فسّروها به، ولا الشفاعة الّتي تثبتها تؤثّر الأثر الّذي زعموه لها، فمن الواجب أن يحصل الباحث في المعارف الدينية وتطبيق ما شرّعه الإسلام على هيكل الاجتماع الصالح والمدنية الفاضلة تمام ما رامه الإسلام من الأصول والقوانين المنطبقة على الاجتماع كيفية ذلك التطبيق، ثمّ يحصل ما هي الشفاعة الموعودة وما هو محلّها وموقعها بين المعارف الّتي جاء بها.

            فيعلم أوّلاً: أنّ الّذي يثبته القرآن من الشفاعة هو أنّ المؤمنين لا يخلدون في النار يوم القيامة بشرط أن يلاقوا ربّهم بالإيمان المرضي والدِّين الحقّ فهو وعد وعده القرآن مشروطاً ثمّ نطق بأنّ الإيمان من حيث بقائه على خطر عظيم من جهة الذنوب ولا سيّما الكبائر ولا سيّما الإدمان منها والإمرار فيها، فهو على شفا جرف الهلاك الدائم، وبذلك يتحصّل رجاء النجاة وخوف الهلاك، ويسلك نفس المؤمن بين الخوف والرجاء فيعبد ربّه رغبة ورهبة، ويسير في حياته سيراً معتدلاً غير منحرف لا إلى خمود القنوط ولا إلى كسل الوثوق.


            306
            وثانياً: أنّ الإسلام قد وضع من القوانين الاجتماعية من مادّياتها ومعنوياتها ما يستوعب جميع الحركات والسكنات الفردية والاجتماعية، ثمّ اعتبر لكلّ مادّة من موادّها ما هو المناسب له من التبعة والجزاء من دية وحدّ وتعزير إلى أن ينتهي إلى تحريم مزايا الاجتماع واللوم والذّم والتقبيح، ثمّ تحفّظ على ذلك بعد تحكيم حكومة أولياء الأمر، بتسليط الكلّ على الكلّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثمّ أحيا ذلك بنفخ روح الدعوة الدينية المضمنة بالإنذار والتبشير بالعقاب والثواب في الآخرة، وبنى أساس تربيته بتلقين معارف المبدأ والمعاد على هذا الترتيب.

            فهذا ما يرومه الإسلام بتعليمه، جاء به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصدّقه التجارب الواقع في عهده وعهد من يليه حتّى أثبت به أيدي الولاة في السلطنة الأموية ومن شايعهم في استبدادهم ولعبهم بأحكام الدِّين وإبطالهم الحدود والسياسات الدينية حتّى آل الأمر إلى ما آل إليه اليوم وارتفعت أعلام الحرّية وظهرت المدنية الغربية ولم يبق من الدِّين بين المسلمين إلّا كصبابة في إناء فهذا الضعف البيّن في سياسة الدِّين وارتجاع المسلمين القهقرى هو الموجب لتنزّلهم في الفضائل والفواضل وانحطاطهم في الأخلاق والآداب الشريفة وانغمارهم في الملاهي والشهوات وخوضهم في الفواحش والمنكرات، هو الّذي أجرأهم على انتهاك كلّ حرمة واقتراف كلّ ما يستشنعه حتّى غير المنتحل بالدِّين لا ما يتخيّله المعترض من استناد الفساد إلى بعض المعارف الدينية الّتي لا غاية لها وفيها إلّا سعادة الإنسان في آجله وعاجله والله المعين، والإحصاء الّذي ذكروها إنّما وقع على جمعية المتدينين وليس عليهم قيّم ولا حافظ قوي وعلى جمعية غير المنتحلين، والتعليم والتربية الاجتماعيان قيّمان عليهم حافظان لصلاحهم الاجتماعي فلا يفيد فيما أراده شيئاً.

            تعليق

            يعمل...
            X