بسم الله الرحمن الرحيم
دفع الإشكالات وهدم التشكيكات حول الخطبة الشقشقية – الثاني
4- خلافة عمربن الخطاب :
تحدّث أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المقطع على حكومة عمربن الخطاب ، وتعرَّض إلى غلظة الرجل وخشونته في إدارة شؤون المسلمين ، فقال الإمام عليه السلام فصيَّرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلامها ، ويخشن مسّها ، ويكثرالعثارفيها والاعتذارمنها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أساس لها تقحم ، فمُنِيَ الناس لعمرالله بخبط وشماس وتلون واعتراض (1).
أما غلظة عمر فهي من الأمورالمعروفة والمشهورة التي لا ينكرها أحد من النّاس ، وما ذكر في الخطبة الشقشقية ليس إلا غيضاً من فيض ، وإلا فإن فضاضته تكاد تكون أشهر من بعض البلدان .
فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه ، قال : أستاذن عمربن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته ، فلما أستاذن عمربن الخطاب قمن ، فبادرن الحجاب ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله ، فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وآله يضحك ، فقال عمر: أضحك الله سنَّك يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : عجبت من هؤلاء اللاتي كنَّ عندي ، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب . فقال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله . ثم قال عمر: يا عدّوات أنفسهن ، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقلن : نعم ، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وآله (2).
فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وآله لكلام النساء اللواتي شهدن بفضاضة عمر وغلظته وجلافته .
وهذا الأمراستمر حتّى استخلفه أبوبكر، ولهذا لاقى معارضة من كبار الصحابة بسبب معرفتهم المسبقة بغلظة عمر، وقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن زبيد ، قال : لما حضرت أبابكر الوفاة أرسل إلى عمر ليستخلفه ، قال : فقال الناس : أتستخلف علينا فظَّا غليظاً ، فلو ملكنا كان أفظ وأغلظ ، ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد استخلفته علينا ؟ قال : تخوفوني بربي ! أقول : اللهم أمرَّتُ عليهم خير أهلك (3).
وقد بيَّنت الروايات أن المعترضين كانوا كبارالصحابة كما في لفظ الطبري : عن أسماء ابنة عميس ، قالت : دخل طلحة بن عبيدالله على أبي بكر، فقال : استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه ، فكيف به إذا خلا بهم وأنت لاق ربك ، فساءلك عن رعيتك ؟ فقال أبوبكروكان مضطجعاً : أجلسوني . فأجلسوه ، فقال لطلحة : أبالله تفرقني ، أو أبالله تخوّفني ، إذا لقيت الله ربي فساءلني قلت : استخلفت على أهلك خيرأهلك (4).
أما تفاصيل هذه الفظاظة والجلافة فحدّث ولا حرج ؛ إذ أنّ السمة العامة لحكمه كان الضرب والجلد وتعنيف المسلمين والمسلمات ، فلم يسلم من درّه عمربن الخطاب وسوطه أحد!
فكان يجلد كل من يسأل عن المعارف الدينية من قرآن وعقائد وفقه عوضاً عن إجابتهم .
فقد ضرب الصحابي صَبِيْغاً لأنه سأل عن آیات من القرآن كما ذكرابن حجرفي الإصابة عند ترجمته لصبيغ ، قال : له إدراك ، وقصّته مع عمرمشهورة ، روى الدارمي من طريق سليمان بن يسار، قال : قدم المدينة رجل يقال له صَبِيْغ – بوزن عظيم وآخرمهملة (5) – ابن عسل ، فجعل يسأل عن متشابه القرآن ، فأرسل إليه عمر، فأعدَّ له عراجين النخل ، فقال : من أنت ؟ قال : أنا عبدالله صبيغ . قال : وأنا عبدالله عمر. فضربه حتى أدمى رأسه ، فقال : حسبك يا أميرالمؤمنين ، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي (6) .
وضرب عمررجلاُ لأنه سأل عن قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبَا) (عبس 31) ، كما روى ذلك ابن حجرفي الفتح ، قال : وأخرج عبد بن حميد أيضاً من طريق إبراهيم النخعي ، عن عبدالرحمن بن يزيد ، أن رجلاً سأل عمرعن فاكهة وأبًّا ، فلما رآهم عمر يقولون أقبل عليهم بالدَّرَّة (7).
وضرب من اشتغل بالتدبرفي كتاب الله عزَّوجل ، فقد قال السيوطي : وأخرج ان راهوية في مسنده عن محمد بن المنتشر، قال : قال رجل لعمربن الخطاب : إني لا أعرف أشدَّ آیة في كتاب الله . فأهوى عمر، فضربه بالدَّرَّة (8).
ولم يسلم من جلد عمربن الخطاب المصلّين ، ففي كتاب الله منع الله أن يُنهى المصلي عن صلاته ، لكن الرجل تجاوزالأمر إلى جلدهم وضربهم ؛ لمنعهم من الصلاة التي لا تعجب عمر وإن كانت مشروعة !
فمنها : قصّة ضرب عمربن الخطاب للصحابي زيد بن خالد التي أخرجها أحمد في مسنده عن حجاج مولى الفارسي ، عن زيد بن خالد أنه رآه عمربن الخطاب وهو خليفة ركع بعد العصرركعتين ، فمشى إليه فضربه بالدَّرَّة وهو يصلي كما هو، فلما انصرف قال زيد : ياأميرالمؤمنين فوالله لاأدعهما أبداً بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله یصلیهما . قال : فجلس إليه عمر، وقال : يا زيد بن خالد لولا أني أخشى أن يتخذها الناس سلماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما (9) .
ومنها : قصّة ضربه لتميم الداري التي رواها الذهبي في (سيرأعلام النبلاء) عن وبرة ، قال : رأى عمرتميماً الداري يصلي بعد العصر، فضربه بدرَّته على رأسه ، فقال له تميم : يا عمر، تضربني على صلاة صليتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله قال : يا تميم ، ليس كل الناس يعلم ما تعلم (10).
ومنها : قصّة ضربة لأحد الصحابة لكونه التفت في صلاته ، فقد قال ابن حجرفي تلخيص الحبير: وروى محمد بن نصرالمروزي في صلاة الليل من طريق زيد بن وهب ، قال : لما أذّن المؤذن بالمغرب قام رجل يصلي ركعتين ، فجعل يلتفت في صلاته ، فعلاه عمر بالدَّرَّة ، فلما قضى الصلاة سأله ، فقال : رأيتك تلتفت في صلاتك (11).
ولم يتوقف الأمرعند هذا الحد، بل نجد أن درّة عمرأخذت نصيبها من النساء ، فإن الرجل كان يهوى جلد النساء وإيذاءهن .
فقد ذكرابن حجرفي الفتح قصة ضربه للصاحبية أم فروة ، قال : وصله ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح من طريق الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال : لما توفي أبوبكرأقامت عائشة عليه النوح ، فبلغ عمرفنهاهن ، فأبَينَ ، فقال لهشام بن الوليد : اخرج إلى بيت أبي قحافة – يعني أم فروة - ، فعلاها بالدّرّة ضربات ، فتفرَّ النوائح حين سمعن بذلك (12).
وروى عبد الرزاق الصنعاني في المصنَّف قصة ضربه لمجموعة من النساء ، قال : عن عمرو بن دينار، قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساء يبكين ، فجاء عمرومعه ابن عباس ومعه الدّرّة ، فقال : يا أباعبدالله ! ادخل على أم المؤمنين فأمرها فلتحتجب ، وأجرجهنّ علي . قال : فجعل يخرجهن عليه وهو يضربهن بالدّرّة ، فسقط خمارأمراة منهن ، فقالوا : ياأميرالمؤمنين ، خمارها ! فقال : دعوها ولا حرمة لها (13).
وكان عمر يضرب الجواري والإماء لأنهن يسترون شعورهن عن الأجنبي كما أمرالله سبحانه وتعالى ، بذريعة أنهن يتشبَّهن بالحرائراللاتي يسترن شعورهن .
فقد روى ابن أبي شيبة قصة ضربة لجارية أنس بن مالك : عن أنس قال : رأى عمرأمة لنا متقنَّعة ، ضربها ، وقال : لا تَشَبَّهي بالحرائر (14).
وروى أيضاً قصّة ضربة لجارية أحد الصحابة : عن أنس بن مالك قال : دخلتْ على عمربن الخطاب أمة قد كان يعرفها لبعض المهاجرين أوالأنصاروعليها جلباب متقنَّعة به ، فسألها : عُتِقْتِ ؟ قالت : لا . قال : فما بال الجلباب ؟ ضعيه على رأسك ، إنما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين . فتلكَّأت ، فقام إليها بالدرة ، فضرب بها برأسها ، حتى ألقته عن رأسها (15).
وهكذا كان دأبه في التعامل مع الجواري والإماء حتى قال عنه السرخسي في المبسوط : كان إذا رأى جارية متقنّعة علاها بالدّرّة ، وقال : ألقي عنك الخمار يا دفار (16)، أتتشبَّهين بالحرائر؟ وكذلك المكاتبة ، والمدبرة ، وأم الولد ؛ لان الرق قائم فيهن (17) .
ومن هنا كان الجواري لا يتحجّبن ولا يسترن أجسادهن في بيته ، وقد روى البيهقي في السنن عن أنس بن مالك ، قال : كن إماء عمر يخدمننا كاشفات عن شعورهن ، تضرب ثديهن (18).
وتطبيقاً لقاعدة : (( الأقربون أولى بالمعروف)) فإن زوجة عمربن الخطاب كان لها نصيب وافر من الضرب والجلد ، فقد روى ابن ماجة في سننه عن الأشعث بن قيس ، قال : ضفت عمرليلة ، فلما كان في جوف الليل قام إلى امرأته يضربها بها ، فحجزت بينهما (19) .
وبلغ به العنف والفظاظة مبلغاً عظيماً حتَى نقل ابن سعد عنه حادثة غريبة جداًّ لا تكاد تصدّق ، فقد روى عن علي بن زيد أن عاتكة بنت زيد كانت تحت عبدالله بن أبي بكر، فمات عنها ، واشترط عليها أن لا تزوّج بعده ، فتبتَّلت ، وجعلت لا تزوج ، وجعل الرجال يخطبونها ، وجعلت تأبى ، فقال عمرلوليّها : اذكرني لها . فذكرها لها فأبت عمرأيضاً ، فقال : زوَّجنيها . فزوَّجه إياها ، فأتاها عمر، فدخل عليها ، فعاركها حتى غلبها على نفسها ، فنكحها ، فلما فرغ قال : أفَّ أفَّ أفَّ .أَفَّفَ بها .ثم خرج من عندها ، وتركها لايأتيها . فأرسلت إليه مولاة لها أن تعال ، فإني سأتهيّأ لك (20).
كما أن الأطفال الصغارلم يسلموا من هذه الدرّة ، فقد جعلها عمرسوط عذاب عليهم ، فكان يضربهم بسبب وبدون سبب .
فقد ذكرابن أبي حاتم الرازي في ترجمة شرحبيل على لسانه ، قال : رأيت عمربن الخطاب رضى الله عنه ونحن غلمان نلعب في المسجد ، فضربنا بالمخفقة (21).
وروى الصنعاني في مصنفه عن عكرمة بن خالد ، قال : دخل ابن لعمربن الخطاب عليه وقد ترجّل ، ولبس ثياباً حساناً ، فضربه عمربالدرة حتى أبكاه ، فقالت له حفصة : لم يكن فاحشاً لم ضربته ؟ فقال : رأيته قد أعجبتْه نفسه ، فأحببت أن أصغّرها إليه (22) فغلظة عمر وجلافته أمرمتواتر ومقطوع به ، وما ذُكر في الخطبة الشقشقية هو مجّرد تصويرللواقع المسلَّم به بين كل المسلمين .
وقد أشارابن أبي الحديد في مقدمة النهج إلى هذا المعنى بإشارة لا تخفى على اللبيب عند ذكره لخصال أميرالمؤمنين عليه السلام ، حيث قال : وقد بقي هذا الخلق متوارثاً متناقلاً في محبيه وأوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك (23).
--------------------------
1-. نهج البلاغة .1-32.
2-. صحيح البخاري .4-199.
3-. المصنف .7-485.
4-.تاريخ الطبري .2-621.
5-. كذا ذكره هنا ، وقال قبل ذلك : وآخره معجمة ، وهو الصحيح ؛ لأنه صبيغ لا صبيع .
6-. الإصابة في معرفة الصحابة .3-370.
7-. فتح الباري .13-229.
8-. الدرالمنثور 2-227.
9-. مسند أحمد .4-115.
10-. سيرأعلام النبلاء 4-448.
11-. تلخيص الحبير .4-281.
12-. فتح الباري .5-54.
13-. المصنف 3-557.
14-. نفس المصدر.2-134.
15-. نفس المصدر .2-135.
16-. الدَّفار: هي النتنة .
17-. المبسوط 1-212.
18-. السنن الكبرى 2-227. وعقب البيهقي على هذه الرواية بقوله : والآثارعن عمربن الخطاب في ذلك صحيحة .. كما الألباني صحَّح هذا الخبر في إرواء الغليل 6-204، وقال : وإسناده جيد ، رجاله كلهم ثقات ، غيرشيخ البيهقي وهو صدوق .
19-. سنن ابن ماجة .1-639.
20-. طبقات ابن سعد .8-265.
21-. الجرح والتعديل .4-339.
22-. المصنف .10-416.
23-. شرح نهج البلاغة .1-35.
تعليق