إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التقية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التقية


    بسم الله الرحمن الرحيم

    التقية

    قال تعالى: (لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِى شَىْء إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(1).

    قال الطبري في تفسير هذه الاية: (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)، قال: (إلاّ أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة.


    وقد حدّث عن عكرمة ومجاهد في قوله: (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)، أي ما لم يهرق دم مسلم ولم يستحل ماله.


    وعن الضحّاك وابن عبّاس: التقية باللسان، ومن حمل على أمر يتكلّم به وهو لله معصية، فتكلّم مخافة على نفسه وقلبه مطمئن بالايمان فلا إثم عليه، إنّما التقيّة باللسان)(2).


    قال الرازي بعد أن ذكر ستة أحكام للتقيّة في تفسير هذه الاية: ظاهر الاية يدل على أنّ التقيّة إنّما تحل مع الكفّار الغالبين، إلاّ إنّ مذهب الشافعي أنّ الحال بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقيّة محاماة عن النفس.


    وقال أيضاً: التقيّة جائزة لصون النفس، ثمّ تساءل الرازي بقوله: (وهل هي جائزة لصون المال)؟ فحكم بالجواز احتمالاً اعتماداً على قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "حرمة مال المسلم كحرمة دمه"، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من قُتِل دون ماله فهو شهيد"، ثمّ جعل الرازي التقيّة جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال: (لانّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان)(3).


    ثمّ جاء القرطبي، فنقل قول الحسن البصري (التقيّة جائزة للانسان إلى يوم القيامة)(4).


    وقال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِْيمَانِ وَلَـكِنَ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(5).


    واتفق الشافعي في أحكامه(6) وابن الجوزي في زاده(7) والقرطبي في جامعه على دلالة الاية على مورد التقيّة، ونحن نكتفي بذكر كلام القرطبي، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى ما أشرنا إليه من المصادر.


    قال القرطبي مفسّراً للاية: (هذه الاية نزلت في عمّار بن ياسر في قول أهل التفسير، لانّه قارب بعض ما ندبوه إليه)، ونقل قول ابن عبّاس: وأمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكرهاً، فشكا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "كيف تجد قلبك"؟ قال: مطمئناً بالايمان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "فإن عادوا فعد"(8).


    وقال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كِذْبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)(9).


    قال الرازي مفسّراً الاية: (إنّه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنّه كان يكتم إيمانه، والذي يكتم كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون؟ ولهذا السبب حصل هنا قولان:


    الاوّل: أنّ فرعون لمّا قال: ذروني أقتل موسى، لم يصرّح ذلك المؤمن بأنّه على دين موسى، بل أوهم أنّه مع فرعون وعلى دينه، إلاّ أنّه زعم أنّ المصلحة تقتضي ترك قتل موسى، لانّه لم يصدر عنه إلاّ الدعوة إلى الله، والاثبات بالمعجزات القاهرة، وهذا لا يوجب القتل، والاقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بأقبح الكلمات.


    الثاني: أنّ مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أوّلاً، فلمّا قال فرعون (ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى) أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق)(10).


    المهم من القولين أنّ الرجل كتم إيمانه، وهذا يكفي لاثبات التقيّة التي اتبعها الرجل خوفاً على نفسه.

    وقال تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمـُحْسِنِينَ)(11).

    وكلّ مورد يتخلّص العبد فيه من إلقاء نفسه في التهلكة أي يظهر خلاف ما يكتم هو مصداق الاية، وهذه هي التقيّة، وهذا المعنى يصدق على الايات: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلاَّ مَا آتَاهَا)(12)، (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(13)، (ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ)(14).


    وقال تعالى أيضاً: (أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطَرِرْتُمْ إِلَيْهِ)(15).

    والاضطرار يحصل من كلّ المواقع والجهات، فقد يقع العبد مضطرّاً أمام الظالم، فيكون مستثنى، وعليه إظهار خلاف ما يكتم.
    فهذا هو جواب القرآن الكريم حول موقفه من التقيّة.

    مصاديق التقيّة في التأريخ

    أمّا الموارد التي حدثت فيها التقيّة في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأجازهم عليها، فهي كثيرة جدّاً، منها أنّ النبي أرسل مجموعة من المسلمين لقتل كعب بن الاشرف، فقالوا: يا رسول الله، أتأذن لنا أن ننال منك؟ فأذن لهم(16).

    ويقول الطبري: (إنّ الحجّاج بن غلاط السليمي وبعد فتح المسلمين لخيبر استأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للذهاب إلى مكّة لجمع أمواله، وأذِن له النبي، فلمّا قرب من مكّة رأى رجالاً من المشركين يتصيّدون الاخبار، ولم يعلموا بإسلامه، فسألوه عن ذلك، فقال لهم: وعندي من الخبر ما يسرّكم، قال: فالتاطوا بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجّاج، قال: قلت: هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وأخبرهم بأنّ المسلمين قد هُزِموا في خيبر، واُسِر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع علمه بأنّ المسلمين فتحوا خيبر)(17).

    ويقول البخاري نقلاً عن عائشة: (إنّ رسول الله استأذن عليه رجل للدخول عليه، فقال: "ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة ـ أو ـ بئس أخو العشيرة"، فلمّا دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله ـ والكلام لعائشة ـ قلتَ ما قلت، ثمّ ألنت له في القول؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "أي عائشة، إنّ شرّ الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه")(18). ونقل البخاري رواية اُخرى تدلّ على التقيّة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (19).

    أضف إلى ذلك ما نطق به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحاديث تكشف عن براءة مَن يكتم أمراً ويُظهر خلافه خوفاً من خطر محتمل، مثل: "رفع عن اُمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه"(20)، وحديث "لا ضرر"(21).

    فالتقيّة محاطة بهذا الحجم الغفير من الايات والروايات، التي لا يستطيع أحد إنكارها، لنقلها في اُمّهات الكتب السنيّة والشيعيّة، وتسالم عليها فحول الفقهاء والمحدّثين من الطرفين.


    ____________

    (1) آل عمران: آية 28.

    (2) جامع البيان: ج 3، ص 229.

    (3) التفسير الكبير: ج 8، ص 12.

    (4) الجامع لاحكام القرآن: ج 4، ص 57.

    (5) النحل: آية 106.

    (6) الشافعي، أحكام القرآن: ج 2، ص 114 ـ 115.

    (7) زاد المسير: ج 4، ص 496.

    (8) الجامع لاحكام القرآن: ج 10، ص 181.

    (9) غافر: الاية 28.

    (10) التفسير الكبير: ج 27، ص 53.

    (11) البقرة: آية 195.

    (12) الطلاق: آية 7.

    (13) البقرة: آية 185.

    (14) فصّلت: الاية 34.

    (15) الانعام: آية 119.

    (16) ابن العربي، أحكام القرآن: ج 2، ص 1257.

    (17) تاريخ الطبري: ج 2، ص 305، حوادث سنة 7 هــ ; الكامل لابن الاثير: ج 2، ص 223.

    (18) صحيح البخاري: ج 8، ص 38، كتاب الادب، باب المواراة مع الناس; سنن أبي داود: ج 4، ص 251، ح 4791.

    (19) صحيح البخاري: كتاب الادب، باب المداراة مع الناس، 5780.

    (20) كنز العمّال: ج 4، ص 233، ح 10307.

    (21) من لا يحضره الفقيه: ج 4، ص 243، ح 777.

  • #2


    التقيّة عند أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)

    يقول الامام علي (عليه السلام): "وآمرك أن تستعمل التقيّة في دينك..... وتصون بذلك من عرف من أوليائنا، فإنّ ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك.... وإيّاك وإيّاك أن تترك التقيّة التي أمرتك بها..."، إلخ(1).
    لقد تحدّث الباقر (عليه السلام) عن التقيّة معاتباً الكميت على قوله:

    فالان صرت إلى اُميـ ـة والاُمور إلى المصائر


    وبعد اعتذار الكميت عن قوله هذا بقوله: نعم، قد قلت ذلك، ما أردت به إلى الدنيا، لقد عرفت فضلكم.
    فأجابه الامام (عليه السلام): "أما إن قلت ذلك تقيّة، إنّ التقيّة لتحلّ"(2).


    وتحدّث الامام الصادق (عليه السلام) عن التقيّة بقوله مخاطباً أبا عمر الاعجمي: "يا أبا عمر، إنّ تسعة أعشار الدين في التقيّة، ولا دين لمن لا تقيّة له"(3).

    ويقول الكليني، بسنده عن معمّر بن خلاّد، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن القيام للولاة، فقال: قال أبوجعفر (عليه السلام): "التقيّة من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقيّة له"(4).

    وغير ذلك من الاحاديث التي نقلها الشيعة في كتب الحديث المعروفة عندهم تحت باب التقيّة.
    ونُسِب للامام السجّاد قوله:

    إنّي لاكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا
    وقد تقدّم في هذا أبو حسن إلى الحسين وأوصاه قبله الحسنا
    فربّ جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
    ولاستحلّ رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا



    التقيّة في الفكر الاسلامي

    ونقصد بالفكر الاسلامي هو ما دار في أذهان الصحابة والتابعين من أقوال وآراء حول هذه المسألة، فهذا ابن عبّاس يصرّح بأنّ التقيّة باللسان من حمل على أمر يتكلّم به وهو معصية لله، فيتكلّم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالايمان، فإنّ ذلك لا يضرّه، إنّما التقيّة باللسان.
    ثمّ قال ابن عبّاس: (التكلّم باللسان والقلب مطمئن بالايمان)(5).


    ويقول عبدالله بن مسعود: (ما من ذي سلطان يريد أن يكلّفني كلاماً يدرأ عنّي سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلّماً به)، وأيّد ابن حزم كلام عبدالله بن مسعود هذا بقوله: (لا يعرف له من الصحابة مخالف)(6).

    ويقول حذيفة بن اليمان رادّاً على من قال له: إنّك منافق! فقال: (لا، ولكنّي أشتري ديني بعضه ببعض; مخافة أن يذهب كلّه)(7).

    ويقول جابر بن عبدالله الانصاري: (لا جناح عليَّ في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها)(8).


    وبالتقيّة درأ ابن عمر الخطر عنه من الحجّاج مستعيناً بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه"، فيقول ـ ابن عمر ـ سألت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكيف يذلّ نفسه؟ قال: "يتعرّض من البلاء لما لا يطيق"(9).


    وكذلك فعل مسروق بن الاجدح عندما بعث معاوية بن أبي سفيان بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند، فمر بها على مسروق فقال: (والله لو أنّي أعلم أنّه يقتلني لفرّقتها، ولكنّي أخاف أن يعذّبني فيفتنني)(10).


    وقد حدّثنا التاريخ أنّ الوليد بن عبدالملك الاموي (86 ـ 96 هـ، 705 ـ 715 م) كان يبثّ جواسيسه بين الخلق ليأتوه بالاخبار، وذات يوم جلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حياة، فسمع بعضهم يقول في الوليد، فرفع ذلك إليه، فقال: يا رجاء اُذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير، فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين، فقال له الوليد: قل: الله الذي لا إلـه إلاّ هو، قال: الله الذي لا إلـه إلاّ هو، فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطاً، فكان الجاسوس يلقى رجاء فيقول: يا رجاء بك يسقى المطر وسبعون سوطاً في ظهري، فيقول رجاء: سبعون سوطاً في ظهرك خير لك من أن تقتل رجلاً مسلماً.

    فنكر رجاء أمراً كان واقعاً، مخافة هدر دم رجل مسلم من قبل حاكم ظالم، فالفكر الاسلامي مليء بهذه الحوادث، وتلك المواقف والاقوال للصحابة والتابعين حول مسألة التقيّة.


    أمّا أئمّة المذاهب، أمثال مالك وأبي حنيفة، فقد بايعا المنصور وقالا: ليس على مكره يمين بعدما خرجوا عليه.

    وأخيراً يقول اجنتس جولد تسيهر: (ولم تتضح هذه النظريّة للشيعة في مبدأ الامر، غير أنّ من عداهم من المسلمين أخذوا بها استناداً على الاية القرآنيّة: (إِلاَّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)(11).


    الشيعة والتقيّة

    لقد عانى أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم على مرّ التاريخ مختلف ألوان التعذيب والقتل والتشريد الوحشي، ووصل الامر إلى عدم قبول شهادة الشيعي ومحاصرته اقتصاديّاً، كما أمر معاوية عمّاله فقال: (أن برئت الذمّة ممّن يروي شيئاً في فضائل علي وأهل بيته، وأن لا يجيزوا للشيعة شهادة، وأن يمحوا كلّ شيعي من ديوان العطاء، وينكّلوا به ويهدموا داره)(12).


    هذه الوثيقة التي ظلّت وصمة عار على جبين الامويّين على مرّ التاريخ وإلى يوم القيامة، حيث سنّت محاربة الشيعة وقتلهم وتشريدهم ومحاصرتهم اقتصاديّاً واجتماعيّاً، كما حدث مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه عندما حُوصروا في شعب أبي طالب، وبدأ مسلسل القتل والاعدامات، فقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم في حياة معاوية، ثمّ جاء ابنه يزيد ليعلن بصراحة كفره وعدم إيمانه، فراح في ثلاث سنوات من حكمه، الاولى قتل فيها الحسين وأصحابه، والثانية أغار على المدينة، والثالثة على مكّة، فكانت أسوأ سنين في الاسلام، وطارد الشيعة في كلّ مكان، وارتكب تلك الجريمة البشعة بقتل سيّد الشهداء وريحانة الرسول وسبطه أبي عبدالله (عليه السلام) مع ثلّة من المسلمين الذين نصحوا للاسلام وللحسين (عليه السلام).


    وفي عهد زين العابدين (عليه السلام) لم يتحسّن من الوضع شيء، بل ازدادت المحنة والفتن، حتّى قال الحسين بن عبدالوهاب: (وصارت الامامة في عصر الامام زين العابدين مكتومة مستورة إلاّ من اتبعه من المؤمنين)(13).

    واستمرّ الامويّون في عدائهم لائمّة أهل البيت وشيعتهم، وما إن ضعفت دولتهم ليتنفّس الشيعي وإمامه الصعداء، حتّى جاء العبّاسيّون الذين نادوا بشعارات أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في بداية الامر لكسب الشرعيّة والسيطرة على الناس، وبعد أن استتب لهم الامر لجأوا إلى سياسات القتل والتعذيب بحقّ الشيعة، يقول أحمد محمود صبحي: (لكن ذلك المثل الاعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العبّاسيّين قد أصبح وهماً من الاوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم بأموال المسلمين يذكّرنا بالحجّاج وهشام ويوسف بن عمرو الثقفي، وعمّ الاستياء أفراد الشعب بعد أن استفتح أبو عبدالله المعروف بالسفّاح وكذلك المنصور بالاسراف في سفك الدماء على نحو لم يعرف من قبل)(14).


    وبالطبع إنّ هذا الاسراف في القتل نصيب الشيعة منه حصّة الاسد، فقد قَتل أبو مسلم (000/600) ستمائة ألف من المسلمين، وهذا الاعتراف قد كُشِف النقاب عنه عندما أراد المنصور أن يقتل أبا مسلم، فقال المنصور له: أخبرني عن ستة مئة ألف من المسلمين قتلتهم صبراً، فأجابه أبو مسلم بقوله: لتستقيم دولتكم(15).


    حتّى وصل الامر بالائمّة أن يحذّروا أصحابهم من التصريح بأسمائهم، وهذا ما قاله الامام موسى بن جعفر لاحدهم: "سل تخبر، ولا تذع، فإن أذعت فهو الذبح"(16).


    وظلّ هشام بن سالم يلوم نفسه عندما كلّم رجلاً بالامامة خائفاً لاظهار الامر، كما يقول السيّد الخوئي(17).


    وراح المنصور يبثّ جواسيسه في المدينة ينظرون إلى من تتفق شيعة جعفر عليه وأمرهم بضرب عنقه، كما يقول الكليني(18). هذا من ناحية المطاردة والقتل والتشريد.

    أمّا من ناحية الحصار الاقتصادي، فقد نصّت وثيقة معاوية على حذف اسم الشيعي من ديوان العطاء وهدم داره(19). ويكفيك قول الاصفهاني في مقاتل الطالبيين، حيث قال: (العلويّات كن يتداولن الثوب الواحد من أجل الصلاة)(20).


    فلاجل تلك المطاردة والقتل وهذا الحصار والتجويع، التجأ أهل البيت (عليهم السلام) إلى بنود القرآن وما قامت عليه السنّة; ليفعِّلوا بنداً من بنودها وضع للاضطرار، ولكن هذا الاضطرار أصبح دستوراً للشيعة في حياتهم لما لاقوه من التشريد والقتل، ولهذا قال محمّد أبو زهرة شارحاً حديث الامام الصادق (عليه السلام) "التقيّة ديني ودين آبائي"، قال: (مبدؤنا ومبدأ آبائنا، وقد اتخذناه على أنّه دين لكي نمتنع من الجهد بما نراه في حكّام الزمان حتّى لا تكون فتنة وفساد كبير، إذ النفوس ليست مهيّأة للنصرة)(21).


    واعترف أبو زهرة بهذا الضغط عندما قال: (فليس هناك من ريب في أنّه كان للتقيّة في عصر الامام الصادق (عليه السلام) وما جاء بعده، وهي كانت مصلحة للشيعة وفيها مصلحة الاسلام، لانّها كانت مانعة من الفتن المستمرّة)(22).

    وهذا الخوف والحالة الطارئة هي حياة الشيعة على مرّ التاريخ، ففعَّلوا هذا البند وجعلوه يعيش معهم من دون كلّ المسلمين، فشنّ أعداؤهم والذين لا ينظرون في بحوثهم إلاّ إلى ما يريدون إثباته، لا ينظرون إلى الواقع المرير الذي عاشته الشيعة على مرّ التاريخ، فرموا الشيعة بتهمة الغشّ والنفاق، فقال من لا دين له، ولا موضوعيّة في بحوثه: (التقيّة على ما عليه الشيعة غش في الدين)(23).

    ولكن صاحب هذا الكلام يؤمن بهذا الغش في مواقع الاضطرار والاكراه، فالتقيّة التي تقول بها الشيعة قال بها الاحناف، وصحّحوا التقيّة في موارد الاكراه في الصلاة، وحتّى في الزنا وأكل الميتة وشرب الخمر(24)، وكتب الفقه الحنفي مليئة بموارد تجويز التقيّة في حالات الاكراه(25).


    وقالت بها الشافعيّة، قال النووي: (فإنّ يمين المكره غير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور، وأكثر العلماء)(26).
    وقال الشافعي: (إذا استكره الرجل المرأة اُقيم عليه الحدّ، ولم يقم عليها لانّها مستكرهة)(27). فلماذا لا يقام عليها الحد؟ ما ذاك إلاّ للاكراه والخوف.


    وقال بالتقيّة الفقه المالكي، يقول مالك بن أنس: (ما من كلام يدرأ عنّي سوطين من سلطان إلاّ كنت متكلّماً به)(28).


    وقال بالتقيّة الفقه الحنبلي، يقول ابن قدامة: (وإنّما اُبيح له فعل المكره عليه دفعاً لما يتوعّده به من العقوبة فيما بعد)(29).


    فإذا كان الحنبلي والمالكي والشافعي والحنفي يقولون بالتقيّة، فيظهر من الاخ الذي قال: (إنّ التقيّة غش في الدين) أنّه ليس من المسلمين، أضف إلى ذلك أنّ كلاًّ من الفقه الظاهري والفقه الطبري والفقه الزيدي ورأي المعتزلة والخوارج، كلّهم قالوا بالتقيّة(30).

    وكان أهل المدينة قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع محمّد ذي النفس الزكيّة، وقالوا: (إنّ في أعناقنا بيعة لابي جعفر، فقال: إنّما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، وأسرع الناس إلى محمّد ولزم مالك يمينه)(31).


    ويقول ابن حزم: (وقد أباح الله عزّ وجلّ كلمة الكفر عند التقيّة)(32).


    وفي حديث لابي الدرداء: (إنّا لنكشّر في وجوه قوم وإنّ قلوبنا تلعنهم)(33).


    فالشيعة لم يكونوا وحدهم القائلين بالتقيّة، بل الفكر الاسلامي من محدّثين وفقهاء وعلماء آمنوا بهذا البند في حالات مخصوصة، وبما أنّ تلك الحالات المخصوصة كانت هي الحياة الطبيعيّة للشيعة على مرّ التاريخ، فاضطرّوا إلى أن يتعايشوا جنباً إلى جنب مع التقيّة لحفظ دماءهم وأموالهم وأعراضهم. كلّ ذلك تجاهله الكاتب وشنّع على التشيّع في مورد التقيّة وجعلها من مدعيات الشيعة لتفسير ظاهرة التناقض بين أقوال الائمّة من أهل البيت وسيرتهم العلنيّة على حدّ زعمه(34).
    ---------------------

    (1) الامام الصادق، محمّد أبو زهرة: ص 241 ـ 242.

    (2) الاغاني: ج 17، ص 25.

    (3) الكافي: ج 2، ص 225، باب التقيّة، ح 2.

    (4) الكافي: ج 2، ص 228، باب التقيّة، ح 12.

    (5) الجامع لاحكام القرآن: ج 4، ص 57، في تفسير الاية 28 من سورة آل عمران.

    (6) المحلّى: ج 8، ص 336، مسألة 1409.

    (7) المبسوط للسرخسي: 24/ 46.

    (8) المبسوط للسرخسي: 24/ 47.

    (9) كشف الاستار عن زوائد البزّار على الكتبة الستة: ج 4، ص 112، ح 3323.

    (10) السرخسي، المبسوط: 24/ 46.

    (11) العقيدة والشريعة في الاسلام: ص 202.

    (12) شرح نهج البلاغة: ج 11، ص 44 ـ 45.

    (13) عيون المعجزات: ص 67.

    (14) نظريّة الامامة: ص 381.

    (15) طبيعة الدعوة العبّاسيّة: ص245، عن العيني في دولة بني العباس والطولونيين والاخشيدين ص30.

    (16) الكافي: ج 1، ص 413، ح 7.

    (17) معجم رجال الحديث: ج 19، ص 298.

    (18) الكافي: ج 1، ص 412، ح 7.

    (19) شرح نهج البلاغة: ج 11، ص 44 ـ 45.

    (20) مقاتل الطالبيين: ص 479.

    (21) الامام الصادق: ص 243 ـ 244.

    (22) المصدر نفسه.

    (23) الشيعة وتحريف القرآن: ص 35.

    (24) المبسوط للسرخسي: 24/ 48 ـ 51، كتاب الاكراه.

    (25) الهداية: ج 3، ص 275; شرح فتح القدير: ج 8، ص 165; اللباب: ج 4، ص 107; النتف في الفتاوي: ج 2، ص 696، وغيرها.

    (26) المجموع شرح المهذّب: 18/ 3.

    (27) الاُم: ج 6، ص 155.

    (28) المدونة الكبرى: ج 3، ص 29، ح 6، كتاب الايمان بالطلاق وطلاق المريض.

    (29) المغني: ج 8، ص 262.

    (30) دفاع عن الكافي: ج 2، ص 628 ـ 634.

    (31) الكامل في التاريخ: ج 5، ص 532.

    (32) الفصل في الملل والاهواء والنحل: ج 3، ص 111.

    (33) تفسير المنار: ج 3، ص 281.

    (34) أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي: ص 78.

    تعليق


    • #3

      الائمّة وعلم الغيب

      شنّع الكاتب ـ كما فعل الذين من قبله ـ على الشيعة في قولهم إنّ الائمّة يعلمون الغيب، ولم يميّز الكاتب أي أنواع العلم بالغيب يعلمه الائمّة (عليهم السلام)، بل أطلق الكلمة من دون تحديد، ومن المعلوم أنّ علم الغيب له قسمان:

      القسم الاوّل: اختصّ الله تعالى به.

      القسم الثاني: أطلع الله رسوله وأولياءه عليه.

      ومن شواهد القسم الاوّل، قوله تعالى: (قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهَ)(1) و(فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لله)(2) و(عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ)(3).

      ومن شواهد القسم الثاني قوله تعالى: (ذَ لِكَ مِنَ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ)(4)و(عَالِمِ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِر عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُول)(5).

      وغير ذلك من الشواهد التي تؤكّد علم الغيب، الذي أطلع الله رسوله ومن ارتضى من الاولياء عليه، واتفق المسلمون قاطبة، شيعة وسنّة، على أنّ القسم الاوّل اختص الله تعالى به، ولم يطلع عليه أحد، بينما اتفقوا على اطّلاع الانبياء والاولياء على القسم الثاني.
      يقول الرازي: (فثبت أنّ الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب)(6).

      ويقول ابن حجر الهيثمي في هذا الباب: (لا منافاة بين قوله تعالى: (قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهَ) وقوله: (عَالِمِ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِر عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً)وبين علم الانبياء والاولياء بجزئيّات من الغيب، فإنّ علمهم إنّما هو بإعلام من الله تعالى وهذا غير علمه الذي تفرّد به تعالى شأنه من صفاته القديمة الازليّة الدائمة الابديّة المنزّهة عن التغيير)(7).

      وقال النيسابوري صاحب التفسير: (إنّ امتناع الكرامة من الاولياء إما لانّ الله ليس (معاذ الله) أهلاً لان يعطي المؤمن ما يريده، وإمّا لانّ المؤمن ليس أهلاً لذلك، وكلّ منهما بعيد، فإنّ توفيق المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده)(8).


      وقال ابن أبي الحديد: (إنّا لا ننكر أن يكون في نوع من البشر أشخاص يُخبرون عن الغيوب، وكلّه مستند إلى الباري جلّ شأنه بإقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه)(9).


      فالفكر الاسلامي لا ينكر مسألة إطلاع أولياء الله ورسله على بعض الغيوب التي علّمها الله لهم، وما أثبته الائمّة لانفسهم من العلم هو القسم الثاني الذي أذعن المسلمون بإمكانه لاولياء الله، وهذا ما قالت به الشيعة.


      يقول الامام علي (عليه السلام): "سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإنّ عندي علم الاوّلين والاخرين، أما والله لو ثني لي الوساد لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الانجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، وأهل القرآن بقرآنهم"(10).


      ويقول أبو عبدالله: "إنّي لاعلم ما في السموات وما في الارض، وأعلم ما في الجنّة وما في النار، وأعلم ما كان وما يكون، قال الراوي: ثمّ سكت هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه فقال: علمت ذلك من كتاب الله عزّ وجلّ، يقول (فِيهِ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَىْء)"(11).

      وغير ذلك من الروايات التي حفلت بها كتب الشيعة، والتي لا تحتاج إلى إثبات السند فيها، لانّها من الموضوعات الخارجيّة وليست من الاحكام، يقول السيّد الجلالي: (إنّ اعتبار السند وحاجته إلى النقد الرجالي بتوثيق الرواة أو جرحهم إنّما هو لازم في مقام إثبات الحكم الشرعي للتعبّد به، لانّ طريق اعتبار الحديث توصلاً إلى التعبد به متوقّف على اعتباره سنديّاً بينما القضايا الاعتقاديّة، والموضوعات الخارجيّة لا يمكن التعبّد بها لانّها ليست من الاحكام الشرعيّة)(12).

      وهذه الروايات التي أثبتت علم الائمّة بالغيب ولم نجد أحداً في التاريخ استنكر عليهم ذلك، لهي خير شاهد على علمهم بالغيب الذي أطلع الله أولياءه عليه وأنكره الكاتب، وقد قام السيّد الجلالي ببحث مستقل حول علم الائمّة بالغيب نُشر في مجلّة تراثنا، ومن أراد الاطلاع أكثر فليراجع(13).
      -------------

      (1) النمل: الاية 65.

      (2) يونس: الاية 20.

      (3) الانعام: الاية 59.

      (4) آل عمران: الاية 44.

      (5) الجن: الاية 25 ـ 26.

      (6) تفسير الرازي: ج 30، ص 149.

      (7) مقتل الحسين للمقرّم: ص 53.

      (8) مجلّة تراثنا، العدد: 37، ص 26.

      (9) شرح نهج البلاغة: ج 5، باب 58، ص 12.

      (10) الارشاد: ج 1، ص 35.

      (11) الكافي: ج 1، ص 319 ـ 320، باب 48.

      (12) مجلّة تراثنا: عدد 37، ص 37.

      (13) المصدر السابق.

      تعليق

      يعمل...
      X