بسم الله الرحمن الرحيم
التقية
قال تعالى: (لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِى شَىْء إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(1).
قال الطبري في تفسير هذه الاية: (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)، قال: (إلاّ أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة.
وقد حدّث عن عكرمة ومجاهد في قوله: (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)، أي ما لم يهرق دم مسلم ولم يستحل ماله.
وعن الضحّاك وابن عبّاس: التقية باللسان، ومن حمل على أمر يتكلّم به وهو لله معصية، فتكلّم مخافة على نفسه وقلبه مطمئن بالايمان فلا إثم عليه، إنّما التقيّة باللسان)(2).
قال الرازي بعد أن ذكر ستة أحكام للتقيّة في تفسير هذه الاية: ظاهر الاية يدل على أنّ التقيّة إنّما تحل مع الكفّار الغالبين، إلاّ إنّ مذهب الشافعي أنّ الحال بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقيّة محاماة عن النفس.
وقال أيضاً: التقيّة جائزة لصون النفس، ثمّ تساءل الرازي بقوله: (وهل هي جائزة لصون المال)؟ فحكم بالجواز احتمالاً اعتماداً على قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "حرمة مال المسلم كحرمة دمه"، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من قُتِل دون ماله فهو شهيد"، ثمّ جعل الرازي التقيّة جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال: (لانّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان)(3).
ثمّ جاء القرطبي، فنقل قول الحسن البصري (التقيّة جائزة للانسان إلى يوم القيامة)(4).
وقال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِْيمَانِ وَلَـكِنَ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(5).
واتفق الشافعي في أحكامه(6) وابن الجوزي في زاده(7) والقرطبي في جامعه على دلالة الاية على مورد التقيّة، ونحن نكتفي بذكر كلام القرطبي، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى ما أشرنا إليه من المصادر.
قال القرطبي مفسّراً للاية: (هذه الاية نزلت في عمّار بن ياسر في قول أهل التفسير، لانّه قارب بعض ما ندبوه إليه)، ونقل قول ابن عبّاس: وأمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكرهاً، فشكا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "كيف تجد قلبك"؟ قال: مطمئناً بالايمان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "فإن عادوا فعد"(8).
وقال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كِذْبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)(9).
قال الرازي مفسّراً الاية: (إنّه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنّه كان يكتم إيمانه، والذي يكتم كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون؟ ولهذا السبب حصل هنا قولان:
الاوّل: أنّ فرعون لمّا قال: ذروني أقتل موسى، لم يصرّح ذلك المؤمن بأنّه على دين موسى، بل أوهم أنّه مع فرعون وعلى دينه، إلاّ أنّه زعم أنّ المصلحة تقتضي ترك قتل موسى، لانّه لم يصدر عنه إلاّ الدعوة إلى الله، والاثبات بالمعجزات القاهرة، وهذا لا يوجب القتل، والاقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بأقبح الكلمات.
الثاني: أنّ مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أوّلاً، فلمّا قال فرعون (ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى) أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق)(10).
المهم من القولين أنّ الرجل كتم إيمانه، وهذا يكفي لاثبات التقيّة التي اتبعها الرجل خوفاً على نفسه.
وقال تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمـُحْسِنِينَ)(11).
وكلّ مورد يتخلّص العبد فيه من إلقاء نفسه في التهلكة أي يظهر خلاف ما يكتم هو مصداق الاية، وهذه هي التقيّة، وهذا المعنى يصدق على الايات: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إِلاَّ مَا آتَاهَا)(12)، (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(13)، (ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ)(14).
وقال تعالى أيضاً: (أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطَرِرْتُمْ إِلَيْهِ)(15).
والاضطرار يحصل من كلّ المواقع والجهات، فقد يقع العبد مضطرّاً أمام الظالم، فيكون مستثنى، وعليه إظهار خلاف ما يكتم.
فهذا هو جواب القرآن الكريم حول موقفه من التقيّة.
مصاديق التقيّة في التأريخ
أمّا الموارد التي حدثت فيها التقيّة في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأجازهم عليها، فهي كثيرة جدّاً، منها أنّ النبي أرسل مجموعة من المسلمين لقتل كعب بن الاشرف، فقالوا: يا رسول الله، أتأذن لنا أن ننال منك؟ فأذن لهم(16).
ويقول الطبري: (إنّ الحجّاج بن غلاط السليمي وبعد فتح المسلمين لخيبر استأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للذهاب إلى مكّة لجمع أمواله، وأذِن له النبي، فلمّا قرب من مكّة رأى رجالاً من المشركين يتصيّدون الاخبار، ولم يعلموا بإسلامه، فسألوه عن ذلك، فقال لهم: وعندي من الخبر ما يسرّكم، قال: فالتاطوا بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجّاج، قال: قلت: هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وأخبرهم بأنّ المسلمين قد هُزِموا في خيبر، واُسِر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع علمه بأنّ المسلمين فتحوا خيبر)(17).
ويقول البخاري نقلاً عن عائشة: (إنّ رسول الله استأذن عليه رجل للدخول عليه، فقال: "ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة ـ أو ـ بئس أخو العشيرة"، فلمّا دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله ـ والكلام لعائشة ـ قلتَ ما قلت، ثمّ ألنت له في القول؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "أي عائشة، إنّ شرّ الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه")(18). ونقل البخاري رواية اُخرى تدلّ على التقيّة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (19).
أضف إلى ذلك ما نطق به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحاديث تكشف عن براءة مَن يكتم أمراً ويُظهر خلافه خوفاً من خطر محتمل، مثل: "رفع عن اُمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه"(20)، وحديث "لا ضرر"(21).
فالتقيّة محاطة بهذا الحجم الغفير من الايات والروايات، التي لا يستطيع أحد إنكارها، لنقلها في اُمّهات الكتب السنيّة والشيعيّة، وتسالم عليها فحول الفقهاء والمحدّثين من الطرفين.
(1) آل عمران: آية 28.
(2) جامع البيان: ج 3، ص 229.
(3) التفسير الكبير: ج 8، ص 12.
(4) الجامع لاحكام القرآن: ج 4، ص 57.
(5) النحل: آية 106.
(6) الشافعي، أحكام القرآن: ج 2، ص 114 ـ 115.
(7) زاد المسير: ج 4، ص 496.
(8) الجامع لاحكام القرآن: ج 10، ص 181.
(9) غافر: الاية 28.
(10) التفسير الكبير: ج 27، ص 53.
(11) البقرة: آية 195.
(12) الطلاق: آية 7.
(13) البقرة: آية 185.
(14) فصّلت: الاية 34.
(15) الانعام: آية 119.
(16) ابن العربي، أحكام القرآن: ج 2، ص 1257.
(17) تاريخ الطبري: ج 2، ص 305، حوادث سنة 7 هــ ; الكامل لابن الاثير: ج 2، ص 223.
(18) صحيح البخاري: ج 8، ص 38، كتاب الادب، باب المواراة مع الناس; سنن أبي داود: ج 4، ص 251، ح 4791.
(19) صحيح البخاري: كتاب الادب، باب المداراة مع الناس، 5780.
(20) كنز العمّال: ج 4، ص 233، ح 10307.
(21) من لا يحضره الفقيه: ج 4، ص 243، ح 777.
تعليق