بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبا الزهراء محمد وعلى آله الغر الميامين المعصومين وعلى من وآلاهم وأحبهم إلى يوم الدين.
وبعد:
من كلام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وأدبه في الكلام وبلاغته قال:
{ لا تَكُن ممن يَرْجُو الآخرة بغير عمل، ويؤخّرُ التوبةَ لطولِ الأمَل، ويقولُ في الدنيا بقول الزاهدين، ويعملُ فيها بعمل الراغبين، إنْ أُعطيَ منها لم يشبع، وإن مُنِح لم يَقنع، يعجز عن شُكرِ ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بَقِي، يَنْهى ولا يَنتهي، ويأمر بما لا يَأْتي، يحبُّ الصالحين ولا يعمل أعمالهم، ويبغِضَ المسيئين وهو منهم؛ يكره الموتَ لكثرة ذنوبه، ويقيمُ على ما يكرهُ الموت له، إن سقم ظَلَّ نادماً، وإن صحَ أَمِنَ لاهِيا، يُعْجَب بنفسه إذا عُوفي، ويَقْنَطُ إذا ابتلي، تغلِبُه نفسُهُ على ما يظن، ولا يَغلبُهَا على ما يستيقن، ولا يَثِقُ من الرزق بما ضمِنَ له، ولا يَعْمَل من العمل بما فُرِض عليه، إن استغنى بَطِر وفُتن، وإن افتقر قَنِطَ وحَزِن، فهو من الذّنب والنعمة موقَر، يبتغي الزيادة ولا يَشكر، ويتكلّف من الناس ما لم يُؤْمر، ويضيع من نفسه ما هو أكثر، ويُبَالغ إذا سأل، ويقصر إذا عمل، يخشى الموتَ، ولا يبادِر الفَوْتَ، يستكثر من معصية غيره ما يستقلُّ أكثره من نفسه؛ ويستكثرُ من طاعته ما يستقلّه من غيره، فهو على الناس طاعِن، ولنفسه مداهن، اللَغْوُ مع الأغنياء أحَب إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم على غيرِه لنفسه، ولا يحكمُ عليها لغيره، وهو يُطَاع ويَعْصِي، ويستوفي ولا يُوفي.
وسُئِل، (عليه السلام) ، عن مسألة فدخَلَ مبادراً، ثم خرج في حذاء ورداء، وهو يتبسّم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنك كنت إذا سُئِلْت عن مسألة كنت فيها كالسِّكة المُحْماة! فقال: إني كنت حاقناً ولا رَأيَ لحاقن، ثم أنشأ يقول: المتقارب:
إذا المشكلاتُ تصدَّيْنَ لي ... كشفتُ حقائِقَها بالنَّظَرْ
وإن برقَتْ في مَخِيل الصوا ... ب عَمْيَاءُ لا تجتليها الذكر
مقنعةً بأُمور الغيوب ... وضعت عليها صَحيحَ الفكَرْ
لساناً كَشِقْشِقَةِ الأرحبيّ ... أو كالحسام اليَماني الذَّكَرْ
وقلباً إذا استنطقته العيون ... أمرّ عليها بواهي الدرر
ولستُ بإمّعة في الرّجال ... أُسائل عن ذَا وذَا ما الخبر
ولكنني ذَرِبُ الأصغرَيْنِ ... أبيِّن مَعْ ما مضى ما غبرْ }
وقال معاوية، ، لضِرار الصُدَائي: يا ضرار، صِفْ لي علياً، فقال: أعْفني يا أمير المؤمنين، قال: لتصفنه، فقال: أما إذ أذنت فلا بدَّ من صفته: كان والله بعيدَ المَدَى، شديدَ القُوَى، يقولُ فَصْلاً، ويحكمُ عَدْلاً، يتفجرُ العلمُ من جوانبه، وتنطقُ الحكمةُ من نواحيه، يستَوْحِشُ من الدنيا وزهْرَتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان واللّه غزيرَ الدَمْعَة، طويل الفكرة، يقلبُ كفَّهُ، ويخاطب نفسه، يُعْجِبُهُ من اللِّباس ما قَصُرَ، ومن الطعام ما خشُنَ، وكان فِينا كأحدِنَا، يُجيبُنَا إذا سألناهُ، وينْبِئُنَا إذا أسْتَنْبَأْنَاهُ، ونحن - مع تقريبِهِ إيَّانا، وَقُرْبه منّا - لا نكادُ نكلمه لهيبته، ولا نَبْتَدِئُهُ لعظمته، يعظمُ أهل الدين، ويحب المساكينَ، لا يطمعُ القويُّ في باطله، ولا يَيْأسُ الضعيفُ من عدلِهِ، وأشهدُ لقد رأيتهُ في بعض مواقفه، وقد أرْخَى الليلُ سُدُولَه، وغارت نجومُهُ، وقد مَثَلَ في محرابه، قابضاً على لحيته يَتَملْمَلُ تململَ السليم، ويبكي بُكاء الحزين، ويقول: يا دُنيا، إليكِ عَنِّي! غُرِّي غَيْرِي، ألِي تَعَرَضْتِ، أمْ إليَّ تشوَّفْتِ؟ هيهات! قد باينتكِ ثلاثاً، لا رَجعَةَ لي عليك؛ فَعُمْرُكِ قصيرٌ، وخَطَرُكِ حَقِير، وخطبُكِ يسير؛ آهِ من قلّة الزاد، وبُعْدِ السفرِ، وَوَحْشَةِ الطريق! فبكى معاوية حتى أخْضَلَتْ دُموعُهُ لحيتَهُ؛ وقال: رَحِمَ اللَهُ أبا الحسن! فلقد كان كذلك، فكيفَ حُزْنُكَ عليه يا ضِرَار؟ قال: حُزْنُ مَنْ ذُبحَ وَاحِدُهَا في حِجْرِها!
وقال عليّ، رضوان الله عليه: رَحِمَ اللَّهُ عبداً سَمِعَ فوَعَى، ودُعِيَ إلى الرشاد فَدَنا، وأخذ بحُجْزَة هَادٍ فنجا، وراقبَ رَبَّه، وخافَ ذَنْبَهُ، وقدَّم خالصاً، وعملَ صالحاً، واكتسبَ مَذْخُوراً، واجتنب محذوراً، ورمى غَرضاً، وكابرَ هوَاهُ، وكذَب مُنَاهُ، وحذرَ أجلاً، ودَأب عملاً، وجعلَ الصبرَ رغبةَ حياته، والثقَى عُدَّةَ وفاته، يُظهِرُ دون ما يكتُمُ، ويكتفي بأقل مما يعلم، لزمَ الطريقة الغرَّاء، والمحجة البيضاء، واغتنمَ المهلَ، وبادرَ الأجَلَ، وتزَوَدَ من العَمل.
الحمدلله ربِّ العالمين
والسلام عليكم.
والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبا الزهراء محمد وعلى آله الغر الميامين المعصومين وعلى من وآلاهم وأحبهم إلى يوم الدين.
وبعد:
من كلام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وأدبه في الكلام وبلاغته قال:
{ لا تَكُن ممن يَرْجُو الآخرة بغير عمل، ويؤخّرُ التوبةَ لطولِ الأمَل، ويقولُ في الدنيا بقول الزاهدين، ويعملُ فيها بعمل الراغبين، إنْ أُعطيَ منها لم يشبع، وإن مُنِح لم يَقنع، يعجز عن شُكرِ ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بَقِي، يَنْهى ولا يَنتهي، ويأمر بما لا يَأْتي، يحبُّ الصالحين ولا يعمل أعمالهم، ويبغِضَ المسيئين وهو منهم؛ يكره الموتَ لكثرة ذنوبه، ويقيمُ على ما يكرهُ الموت له، إن سقم ظَلَّ نادماً، وإن صحَ أَمِنَ لاهِيا، يُعْجَب بنفسه إذا عُوفي، ويَقْنَطُ إذا ابتلي، تغلِبُه نفسُهُ على ما يظن، ولا يَغلبُهَا على ما يستيقن، ولا يَثِقُ من الرزق بما ضمِنَ له، ولا يَعْمَل من العمل بما فُرِض عليه، إن استغنى بَطِر وفُتن، وإن افتقر قَنِطَ وحَزِن، فهو من الذّنب والنعمة موقَر، يبتغي الزيادة ولا يَشكر، ويتكلّف من الناس ما لم يُؤْمر، ويضيع من نفسه ما هو أكثر، ويُبَالغ إذا سأل، ويقصر إذا عمل، يخشى الموتَ، ولا يبادِر الفَوْتَ، يستكثر من معصية غيره ما يستقلُّ أكثره من نفسه؛ ويستكثرُ من طاعته ما يستقلّه من غيره، فهو على الناس طاعِن، ولنفسه مداهن، اللَغْوُ مع الأغنياء أحَب إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم على غيرِه لنفسه، ولا يحكمُ عليها لغيره، وهو يُطَاع ويَعْصِي، ويستوفي ولا يُوفي.
وسُئِل، (عليه السلام) ، عن مسألة فدخَلَ مبادراً، ثم خرج في حذاء ورداء، وهو يتبسّم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنك كنت إذا سُئِلْت عن مسألة كنت فيها كالسِّكة المُحْماة! فقال: إني كنت حاقناً ولا رَأيَ لحاقن، ثم أنشأ يقول: المتقارب:
إذا المشكلاتُ تصدَّيْنَ لي ... كشفتُ حقائِقَها بالنَّظَرْ
وإن برقَتْ في مَخِيل الصوا ... ب عَمْيَاءُ لا تجتليها الذكر
مقنعةً بأُمور الغيوب ... وضعت عليها صَحيحَ الفكَرْ
لساناً كَشِقْشِقَةِ الأرحبيّ ... أو كالحسام اليَماني الذَّكَرْ
وقلباً إذا استنطقته العيون ... أمرّ عليها بواهي الدرر
ولستُ بإمّعة في الرّجال ... أُسائل عن ذَا وذَا ما الخبر
ولكنني ذَرِبُ الأصغرَيْنِ ... أبيِّن مَعْ ما مضى ما غبرْ }
وقال معاوية، ، لضِرار الصُدَائي: يا ضرار، صِفْ لي علياً، فقال: أعْفني يا أمير المؤمنين، قال: لتصفنه، فقال: أما إذ أذنت فلا بدَّ من صفته: كان والله بعيدَ المَدَى، شديدَ القُوَى، يقولُ فَصْلاً، ويحكمُ عَدْلاً، يتفجرُ العلمُ من جوانبه، وتنطقُ الحكمةُ من نواحيه، يستَوْحِشُ من الدنيا وزهْرَتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان واللّه غزيرَ الدَمْعَة، طويل الفكرة، يقلبُ كفَّهُ، ويخاطب نفسه، يُعْجِبُهُ من اللِّباس ما قَصُرَ، ومن الطعام ما خشُنَ، وكان فِينا كأحدِنَا، يُجيبُنَا إذا سألناهُ، وينْبِئُنَا إذا أسْتَنْبَأْنَاهُ، ونحن - مع تقريبِهِ إيَّانا، وَقُرْبه منّا - لا نكادُ نكلمه لهيبته، ولا نَبْتَدِئُهُ لعظمته، يعظمُ أهل الدين، ويحب المساكينَ، لا يطمعُ القويُّ في باطله، ولا يَيْأسُ الضعيفُ من عدلِهِ، وأشهدُ لقد رأيتهُ في بعض مواقفه، وقد أرْخَى الليلُ سُدُولَه، وغارت نجومُهُ، وقد مَثَلَ في محرابه، قابضاً على لحيته يَتَملْمَلُ تململَ السليم، ويبكي بُكاء الحزين، ويقول: يا دُنيا، إليكِ عَنِّي! غُرِّي غَيْرِي، ألِي تَعَرَضْتِ، أمْ إليَّ تشوَّفْتِ؟ هيهات! قد باينتكِ ثلاثاً، لا رَجعَةَ لي عليك؛ فَعُمْرُكِ قصيرٌ، وخَطَرُكِ حَقِير، وخطبُكِ يسير؛ آهِ من قلّة الزاد، وبُعْدِ السفرِ، وَوَحْشَةِ الطريق! فبكى معاوية حتى أخْضَلَتْ دُموعُهُ لحيتَهُ؛ وقال: رَحِمَ اللَهُ أبا الحسن! فلقد كان كذلك، فكيفَ حُزْنُكَ عليه يا ضِرَار؟ قال: حُزْنُ مَنْ ذُبحَ وَاحِدُهَا في حِجْرِها!
وقال عليّ، رضوان الله عليه: رَحِمَ اللَّهُ عبداً سَمِعَ فوَعَى، ودُعِيَ إلى الرشاد فَدَنا، وأخذ بحُجْزَة هَادٍ فنجا، وراقبَ رَبَّه، وخافَ ذَنْبَهُ، وقدَّم خالصاً، وعملَ صالحاً، واكتسبَ مَذْخُوراً، واجتنب محذوراً، ورمى غَرضاً، وكابرَ هوَاهُ، وكذَب مُنَاهُ، وحذرَ أجلاً، ودَأب عملاً، وجعلَ الصبرَ رغبةَ حياته، والثقَى عُدَّةَ وفاته، يُظهِرُ دون ما يكتُمُ، ويكتفي بأقل مما يعلم، لزمَ الطريقة الغرَّاء، والمحجة البيضاء، واغتنمَ المهلَ، وبادرَ الأجَلَ، وتزَوَدَ من العَمل.
الحمدلله ربِّ العالمين
والسلام عليكم.
تعليق