كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه) . رواه الإمام أحمد وغيره
وروى الإمام مسلم في فضائل عليّ قوله عليه السلام : والذي فلق الحبة، وبرأ النَّسَمَة إنه لعهد النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق.
وقال فيه صلى الله عليه وآله وسلم يوم برز لعمرو بن عبد ودّ العامري: "برز الإيمان كله إلى الشرك كله" وقال فيه بعد ما قتله: "ضربة عليّ لعمرو يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين".
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عليّا رضي الله عنه في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان ؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي).
ويروي عبد الرحمن الشرقاوي في كتابه " علي إمام المتقين": يقول عمار بن ياسر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعليّ بن أبي طالب: (إن الله عز وجل قد زينك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إليه منها، الزهد في الدنيا، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئا، ولا تنال الدنيا منك شيئا، ووهب لك حب المساكين، ورضوا بك إماما، ورضيت بهم أتباعا، فطوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب عليك، فأما الذين أحبوك وصدقوا فيك فهم جيرانك في دارك، ورفقاؤك في قصرك في الجنة، وأما الذين أبغضوك وكذبوا عليك، فحق على الله أن يوقفهم موقف الكذابين يوم القيامة).
مودة في قلوب المؤمنين للإمام على:
وقد جعل الله تعالى للإمام علي في قلوب المؤمنين مودة كما جاء في معنى قوله تعالى) :إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" (مريم آية96 ".
جاء في تفسير القرطبي ونحوه في الزمخشري (إن الذين ءامنوا) أي: صدقوا (وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) أي: حبا في قلوب عباده، قيل: نزلت في الإمام علي رضي الله عنه، روى البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ بن أبي طالب: (قل يا عليّ: اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في قلوب المؤمنين مودة) فنزلت الآية، ذكره الثعلبي.
وروى محب الدين أحمد بن الطبري –الشافعي- عن ابن عباس أنه قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب، جعل الله له ودا في قلوب المؤمنين.
ومقتضيات الود والمحبة اللذين جعلهما الله في قلوب المؤمنين، أن يترجم المسلمون ذلك إلى أخلاق فاضلة، ومعاملة حسنة، مع الفهم الدقيق لأحكام الدين ومنهجه، وما أحوج الأمة الإسلامية إلى ذلك خاصة في عصرنا هذا.
بلاغة الإمام عليّ كرم الله وجهه:
لم يُدَوَّن لأحد من الصحابة والخلفاء ما دُوِّن له عليه السلام من الخطب والمواعظ والكتب والوصايا والحكم، وهذا نهج البلاغة يطأطئ له البلغاء إعظاماً، وينحني له الفصحاء إجلالاً، وهو مفخرة لكل مسلم، وعز لكل موحد، وهو بعد هذا وذاك دون كلام الخالق، وفوق كلام المتكلمين .
قال ابن أبي الحديد: وانظر كلام أمير المؤمنين عليه السلام، فإنك تجده مشتقاً من ألفاظه - أي القرآن الكريم - ومقتضباً من معانيه ومذاهبه، ومحذواً بحذوه، ومسلوكاً به في منهاجه، فهو وإن لم يكن له نظيراً ولا نداً، يصلح أن يقال: إنه ليس بعده كلام أفصح منه ولا أجزل ولا أعلى ولا أفخم ولا أنبل، إلا أن يكون كلام ابن عمه عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر لا يعلمه إلا من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة، وليس كل الناس يصلح لانتقاء الجوهر، بل ولا لانتقاء الذهب.
ويقول الشيخ محمد عبده في مقدمة شرحه لكلام الإمام عليٍّ في "نهج البلاغة": فأجْدِرْ بالطالبين لنفائس اللغة، والطامعين في التدرج لمراقيها، أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم، وأفضل مأثورهم، مع تفهم معانيه في الأغراض التي جاءت لأجلها، وتأمل ألفاظه في المعاني التي صيغت للدلالة عليها، ليصيبوا بذلك أفضل غاية، وينتهوا إلى خير نهاية، وأسأل الله نجاح عملي وأعمالهم، وتحقيق أملي وآمالهم.
وأورد الدكتور طه حسين في كتابه: "الفتنة الكبرى" ج 1 ص40 أن سائلا سأل الإمام عليًّا: أيمكن أن يجتمع فلان وفلان وفلانة على الباطل؟ -وكانوا ممن خالفوا الإمام وعملوا ضده- .
فقال الإمام للسائل: إنك لملبوس عليك، إن الحق والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله.
ويعلق طه حسين على ذلك قائلا: وما أعرف جوابا أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحدا مهما تكن منزلته، ولا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته، بعد أن سكت الوحي وانقطع خبر السماء.
وأحسب أني لست بحاجة إلى سرد الدلائل من عبارات الأدباء والعلماء، بعد ما أنزل الله تعالى فيه ما لا يحصى من الآيات القرءانية الكريمة، وما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فضائله، لكنها دلالات قد تكون عند بعض الناس من الأهمية بمكان، وهي دعوة إلى الآذان أن تصغي، والعقول إلى أن تتفكر.
من حقوق الإنسان في فقه الإمام علىّ:
جيء إلي عمر بامرأة ليقيم عليها الحد وقد اتهمت عنده بالفجور، فأمر بها عمر أن ترجم، ولكن رحمة الله تعالى ساقت إليها الإمام عليًّا، فردها عن الحفرة، ثم قال لعمر: هل أمرت بها أن ترجم؟ قال: نعم، اعترفت عندي بالفجور، فقال له الإمام: لعلك انتهرتها أو أخفتها، فقال له عمر: قد كان ذلك، فقال الإمام: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا حَدَّ على معترفٍ بعد بلاءٍ) ومن قُيد، أو حُبس، أو هُدِّد فلا إقرار له.
من هذا نرى رحمة الإسلام وعنايته بحقوق الإنسان، من قَبل تلك التشريعات التي ينسبها الناس إلى القوانين الوضعية، وفي الحقيقة أنها مأخوذة من التشريع الإسلامي.
فخلى عمر سبيلها وقال: عجز النساء أن يلدن مثل عليّ، ثم قال: لولا علي لهلك عمر.
العمق في فهم الأحكام والعمل بها:
جاء له رجل فأقر بالسرقة، فقال له الإمام: أتقرأ شيئا من القرءان؟ قال الرجل: نعم، أقرأ سورة البقرة، قال الإمام: لقد وهبت يدك لسورة البقرة.
فقال الأشعث الكندي: أتعطل حدا من حدود الله يا أمير المؤمنين؟.
قال: وما يدريك ما هذا؟ إن البينة إذا قامت فليس للأمير أن يعفو، ولكن الرجل إذا أقر على نفسه فذاك إلى الإمام: إن شاء عفا، وإن شاء قطع.
يعقب على ذلك الشيخ الباقوري في كتابه "علي إمام الأئمة" أن سائلا قد يسأل: لماذا يؤخذ بذنبه في حال البينة ثم يعفى عنه في حال الإقرار بالذنب؟.
ثم يبين أن العفو في حال البينة ربما أوقع في النفوس نوعا من الارتياب فيهم والتجريح لهم، وفي ذلك فساد كبير لا يخفى وجهه على المتأملين، وأما العفو عن المذنب في إقراره بالذنب فلعله أن يكون من قبيل إقالة أهل المروءات عثراتهم، أو تألف قوم تنتفع الأمة بتأليفهم، والثقة بأمير المؤمنين كرّم الله وجهه لا تأذن لمسلم أن يشك في قضاياه رضي الله عنه.
الاهتمام بمعالجة القضايا مهما صغرت:
شكا رجل إلى الإمام عليّ رجلا آخر زعم أنه احتلم بأمه، فذكر الإمام أن الحلم في المنام بالنسبة للحالم مثله كالظل للبناء والشجر ونحو ذلك.
ثم قال للشاكي: أوقف غريمك في الشمس ثم اجلد ظله، ومع ذلك فإننا نضربه حتى لا يعود يؤذي المسلمين، فضربه ما دون حد القذف.
يقول الشيخ الباقوري: ففي هذا القضاء بلا ريب دقة إدراك لا يتمتع بها كثير من أهل البصر بشئون الاجتماع.
استنباط المعاني القرءانية والعمل بها:
اشتكى رجل إلى الإمام عليّ بطنه، فقال له: سل امرأتك درهما من صداقها فاشتر به عسلا، ثم اشربه بماء السماء، فإن الله عز وجل يشفيك إن شاء الله.
ففعل الرجل ما أمره به الإمام، فبرئ وزالت عنه شكواه.
وسأله جلساؤه: ما سر ذلك يا أمير المؤمنين؟ أهو سرٌّ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
قال: لا، لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني سمعت الله تعالى يقول في كتابه العزيز: (وآتُوا النساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فإن طِبْنَ لكم عن شيءٍ منه نَفْساً فكلوه هنيئاً مريئاً) "النساء:4" وكذلك قول الله تعالى: (ونَزَّلنا من السماءِ ماءً مباركاً فأنبتنا به جناتٍ وحَبَّ الحصيد) "ق:9".
ففي الآية الأولى اجتمع الهنيء والمريء فيما سمحت به الزوجة من مهرها ثمنا لما يأكله من اشتكى بطنه، وفي الآية الثانية وصف النازل من السماء بأنه مبارك، فتهيأ بذلك المعنى الذي رآه الإمام شفاء لمن اشتكى بطنه.
توقي الشبهات والإيثار على النفس:
يروى عن الإمام الباقر أنه قال: إن عليا أتى البزازين- البزاز: بائع الثياب- فقال لرجل: بعني ثوبين، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، عندي حاجتك، فلما عرفه مضى عنه.
فوقف على غلام فأخذ ثوبين، أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين، فقال: يا قنبر، خذ الذي بثلاثة، فقال: أنت أولى به، تصعد المنبر وتخطب الناس.
فقال الإمام: وأنت شاب ولك شره الشباب، وأنا أستحيي من ربي أن أتفضل عليك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألبسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تأكلون).
فلما لبس الإمام القميص مدَّ كُمَّ القميص فأمر بقطعه واتخاذه قلانس للفقراء، فقال الغلام: هلمّ أكفّه، قال: دعه، فإن الأمر أسرع من ذلك. وأظنه قصد أن ما تبقى من عمر القميص وقتها كان أطول مما تبقى من عمره الشريف في تلك الدار الدنيا، فقد تولى الخلافة عام 35 هجرية، وانتقل إلى جوار ربه شهيدا عام 40 هجرية.
فجاء أبو الغلام –أي بائع الثوب- وقال: إن ابني لم يعرفك، وهذان درهمان ربحهما، فقال الإمام: ما كنت لأفعل، قد ماكست وماكسني، واتفقنا على رضي.
ملاحظة ضوابط الشريعة وتبصير الغير بأحكامها:
سئل الإمام يوما عن مسألة فدخل مبادرا، ثم خرج في حذاء ورداء وهو يبتسم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنك كنت إذا سئلت عن مسألة كنت فيها كالحديدة المحماة القاطعة، فقال: كنت حاقنا ولا رأي لحاقن. "والحاقن: هو الذي يحتبس البول".
وفي المناقب أن عقبة بن أبي عقبة مات، فحضر جنازته الإمام عليّ وجماعة من أصحابه منهم عمر رضي الله عنه، فقال الإمام لرجل كان حاضرا: إن عقبة لما توفي حرمت امرأتك، فاحذر أن تقربها.
فقال عمر: كل قضاياك يا أبا الحسن عجيبة، وهذه من أعجبها، يموت إنسان فتحرم على آخر امرأته؟.
فقال: نعم، إن هذا عبد كان لعقبة، تزوج امرأة حرة، وهي اليوم ترث بعض ميراث عقبة، فقد صار بعض زوجها رقا لها، وبُضع المرأة حرام على عبدها حتى تعتقه ويتزوجها، فقال عمر: لمثل هذا نسألك عما اختلفنا فيه.
سرعة البديهة ودقة التحليل:
حكى أبو طلحة الشافعي في "مطالب السئول" أن امرأة جاءت إلى الإمام علي كرم الله وجهه وقد خرج من داره ليركب، فترك رجله في الركاب، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن أخي قد مات وخلف ستمائة دينار، وقد دفعوا إليّ دينارا واحدا، وأسألك إنصافي وإيصال حقي إليّ.
فقال لها الإمام: خلف أخوك بنتين لهما الثلثان: أربعمائة، وخلف أما لها السدس: مائة، وخلف زوجة لها الثمن: خمسة وسبعون، وخلف معك اثني عشر أخا لكل أخ: ديناران، ولك دينار، قالت: نعم.
ولذلك سميت هذه المسألة: الدينارية.
لمسة تربوية للعمل بضد الهوى:
عن الأصبغ بن نباتة قال: مات رجل على عهد أمير المؤمنين عليه السلام وأوصى إلى رجل ودفع إليه ألف دينار وقال له: تصدق بما تحب واحبس الباقي، فتصدق الرجل بمائة دينار وحبس لنفسه تسعمائة دينار.
فقال ورثة الميت: تصدَّقْ بخمسمائة واحبس لنفسك خمسمائة دينار، فأبى.
فخاصموه إلى أمير المؤمنين فقال لهم: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين مات أبونا ودفع إلى هذا ألف دينار وقال له: تصدق بما تحب واحبس الباقي، فتصدق بمائة دينار وحبس لنفسه تسعمائة دينار، فقلنا له يتصدق عن أبينا بخمسمائة دينار ويحبس الباقي خمسمائة دينار.
فقال له الإٍمام: أجبهم إلى ذلك، فأبى، فأمره الإمام عليه السلام أن يتصدق بتسعمائة دينار ويحبس لنفسه مائة دينار، وقال له: فإن الذي أحببت هو تسعمائة دينار.
وهذه من حِكَمِ أهل البيت التي دونها الإمام أبوالعزائم في كتابه: "من جوامع الكلم" وهي: إذا عرض لك أمران لا تدري في أيهما الرشاد، فانظر إلى أقربهما إلى هواك فخَالِفْه، فإن الحقَّ في مخالفةِ الهوى.
وهذا موافق لقول الحق جل وعلا: (وأمَّا مَن خافَ مقامَ ربِّهِ ونهى النفسَ عن الهوى فإنَّ الجنةََ هي المأوى) "النازعات:41".
فأمره الإمام عليّ أن يعمل بضد هواه.
إمرة المسلمين لإقامة الحق ودفع الباطل:
الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لم يجبر أحدا على مبايعته ، وقد وضح أن ديمقراطية الإمام وصلت إلى درجة يعجز عن الوصول إليها كثير من حكام القرن الحالي.
دخل عليه تلميذه عبد الله بن عباس يوماً فوجده يخصف نعله ، فعجب ابن عباس من أن يخصف أمير المؤمنين نعله بنفسه, وهو إمام الأمة وحاكمها، فقال كرم الله وجهه لابن عباس : ما قيمة هذه - مشيراً إلى نعله - ؟. قال ابن عباس: لا قيمة لها، فقال الإمام: والله لَهِيَ أحبُّ إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً.
الإمام يوصي بالإحسان إلى قاتله:
أوصى الإمام علي عليه السلام وهو في آخر أنفاسه بالإحسان إلى قاتله -ابن ملجم الذي طعنه بسيف مسموم- بقوله: يا بني عبد المطلب، لا أُلْفِيَنَّكُم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: "إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور".
يقول محمد بن إسماعيل الحميري:
سائل قريشا إذا ما كنت ذا عمه من كان أثبتَها في الدين أوتادا
من كان أقدمَ إسلاما وأكثرَهــا علما، وأطهرَها أهـلا وأولادا
من كان أعدلَها حكما، وأبسطَها كفا، وأصدقَها وعدا وإيعـادا
إن يَصْدُقوك فلن يعدو أبا حسنٍ إنْ أنتَ لم تلْقَ للأبرار حسادا
الإمام يشكو إلى رسول الله ما كان يعانيه:
لقد جاهد الإمام حياته كلها لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وتفعيل منهج الرسالة ليكون مسلكا للعبد وخلقا ومعاملة تأسيا بمن كان خلقه القرءان، صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك فقد خذله الناس، حتى أنه كان يدعو
ويسأل الله تعجيل الشهادة، وتارة يكشف عن رأسه ويرفع يديه للدعاء قائلا: اللهم إني قد سئمتهم وسئموني، ومللتهم وملوني، أما آن أن تخضب هذه من هذه -ويشير إلى هامته ولحيته-.
لقد حكى الإمام لابنه الحسن رؤيا رآها قبل أن يضرب الضربة القاتلة في رأسه بليلة واحدة حيث قال:
يا بني، إني رأيت جدك رسول الله صلى الله عليه وآله في منامي قبل هذه الكائنة بليلة، فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذى من هذه الأمة فقال لي: ادع عليهم، فقلت: الله أبدِلْهم بي شرا مني، وأبدِلْنِي بهم خيرا منهم، فقال لي رسولُ الله، قد استجاب الله دعاءَك، سينقلك إلينا بعد ثلاث.
وما زالت الأمة مستكينة خانعة -إلا من رحم ربك- تعاني من الذل الذي طال أمده، ومع ذلك لا تحاول أن تخرج منه، كالذي اعتادت عينه سواد الظلام ويخشى إن طلع إلى النور أن يصعق بصره.
ونور الحق لا يصعق الأبصار التي أهلت، ولا يسلب الألباب التي مكنت، والله تعالى قادر على أن يغيِّر(إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) والقوم الذين يحبهم ويحبونه سيأتون، أشداء على الكفار رحماء بينهم، فهل نحن كذلك حتي نأمل أن نكون منهم؟ أم أننا أشداء بيننا رحماء على الكفار؟.
إن الإمام أبا العزائم يبصرنا بقوله:
إن تكونوا أهلها فزتم بما قدّرَ اللهُ من الخير لراغـــب
أو تكن للمخلصين لربهم صرتم العالة في سفل المواكب
فإلى متى نكتفي باستحسان ما نسمع، ونطرب بما يقال، وبيننا وبين العمل به بون بعيد؟.
المسلمون مدعوون إلى تدبر قول الإمام كرّم الله وجهه:
-من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه، ومن كان له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ.
- عِظم الخالق عندك، يُصغر المخلوق في عينك.
- يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم.
- لا يترك الناس شيئاً من أمر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه.
- من وضع نفسه مواضع التهمة، فلا يلومن من أساء به الظن.
- من أحدّ سنان الغضب لله قوي على قتل أشداء الباطل.
- بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد.
- اتق الله بعض التقى وإن قل، واجعل بينك وبين الله ستراً وإن رق.
- إنّ لله في كل نعمة حقاً، فمن أدّاه زاده منها، ومن قصّر عنه خاطر بزوال نعمته.
- أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه.
- مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وحلاوة الدنيا مرارة الآخرة.
- يا ابن آدم كن وصيّ نفسك في مالك، واعمل فيه ما تؤثر أن يُعمل فيه من بعدك.
- اتقوا معاصي الله في الخلوات، فإن الشاهد هو الحاكم.
- أشد الذنوب ما استهان به صاحبه.
- العفاف زينة الفقر، والشكر زينة الغنى.
- من كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قَلَّ حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار.
- أحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
- إذا قدرت على عدوك ،فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه.
- يا بني، اجعل نفسك ميزانا بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك، ولا تَظلم كما لا تحب أن تُظلم، وأحْسِنْ كما تحب أن يُحْسَنَ إليك.
- يا بني إياك ومصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وإياك ومصادقة البخيل فإنه يبعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه، وإياك ومصادقة الكذاب فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عليـــك القريب.
- لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب، ولا ظهير كالمشاورة.
- الصلاة قربان كل تقي، والحج جهاد كل ضعيف، ولكل شيء زكاة، وزكاة البدن الصيام، وجهاد المرأة حسن التبعل.
- اتقوا معاصي الله في الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم.
ويقول:
إذا ما المرء لم يحفظ ثلاثـا فبعه ولو بكف من رمـاد
وفاء للصديق، وبذل مـال، وكتمان السرائر في الفؤاد
ويقول: إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه، وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم، فذروا ما قل لما كثر، وما ضاق لما اتسع.
فقد تكفل لكم بالرزق، وأمرتم بالعمل، فلا يكونن المضمون لكم طلبه، أولى من المفروض عليكم عمله.
إلى أن يقول: فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق، ما فات اليوم من الرزق رُجِي غدا زيادته، وما فات أمس من العمر لم يُرْج اليوم رجعته، الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي، و(اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
المعية لا تنحصر في زمان دون زمان:
صورة الإمام عليّ كرّم الله وجهه من أعظم صور القدوة بعد سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلنَسْعَ لمشاهدة تلك الجمالات، ولنسارع للعمل بتلك الخصال والمزايا، حتى تتحقق فينا صفات أهل المعية المحمدية.
ومن فضل الله علينا أنه لم يحصر أهلَ معية المصطفى صلى الله عليه وآله في زمان دون زمان، أو مكان دون مكان، ولم يعيّن أشخاصا بذواتهم، ولكنه سبحانه وصفهم بصفاتٍ مَن اتصف بها كان من أهل تلك المعية حتى لو كان في زماننا هذا أو بعده، قال تعالى: (محمدٌ رسولُ اللهِ والذين معه أشدَّاءُ على الكفار رُحَمَاءُ بينهم...) إلى آخر ما ذكر الله من صفاتهم في آخر سورة الفتح، جمّلنا الله بصفاتهم، وجعلنا بفضله منهم.
وقد ورد في نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده أنه لما أظفر الله الإمام عليًّا عليه السلام بأصحاب الجمل، وقد قال له بعض أصحابه: وددت أن أخي فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على عدوك.
فقال له عليه السلام: أهوى أخيك معنا؟ -أي : ميله ومحبته- قال: نعم.
قال: فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان، ويقوى بهم الإيمان.
ونختم بقوله كرّم الله وجهه:
محمدٌ النبيُّ أخي وصـنوي وحمزةُ سيدُ الشهداءِ عمي
وجعفر الذي يضحى ويمسـي يطيرمع الملائكة ابن أمـي
وبنتُ محمدٍ سكني وعِرْسـي مَنُوطٌ لحمها بدمي ولحمـي
وسبطا أحمد ابناي منهــا فمَنْ منكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طـرا غلاما ما بلغت أوان حلمــي
وأوجب لي ولايته عليكـم رسولُ الله يوم غدير خــم
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويــــلٌ لمن يلقى الإلهَ غداً بظلمــي
جعلنا الله تعالى في معية أهل البيت النبوي الطيبين الطاهرين في الدنيا والآخرة، اللهم صَلِّ على سيدنا محمد وآله وسلِّمْ، وأعطنا