بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبا الزهراء محمد وعلى آله الغر الميامين المعصومين وعلى من وآلاهم وأحبهم إلى يوم الدين.
تحديد الإيمان والكفر
نعم لما كان ما خلَّف النبي (صلى الله عليه و آله) من تراث في مجال المعارف والأحكام ضخماً لا يمكن استحضاره في الضمير ثمّ التصديق به، اضطرّ العلماء إلى تقسيم ما جاء به النبيإلى قسمين: قسم معلوم بالتفصيل كتوحيده سبحانه والحشر يوم المعاد في مجال العقائد، ووجوب الصلاة والزكاة ونحوهما في مجال الأحكام، وقسم منه معلوم بالإجمال نعلم وروده في الكتاب والسنّة، فلا محيص للمؤمن أن يؤمن بالأوّل على وجه التفصيل، وبالثاني على وجه الإجمال.
قال عضد الدين الايجي: الإيمان: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة وتفصيلًا فيما علم تفصيلًا، وإجمالًا فيها علم إجمالًا. «1»
وبعبارة أوضح: أنّ ما جاء به الرسول (صلى الله عليه و آله) إمّا أن يعلم به بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة والجهاد والحج، وإمّا أن لا يعلم به كذلك.
فالمؤمن هو الذي يعتقد بصحّة كلّ ما بعث به الرسول (صلى الله عليه و آله) إلى أُمّته، غير انّ المعلوم بالضرورة، يؤمن به تفصيلًا و ما لم يعلم، يؤمن به على وجه الإجمال.
ويظهر ممّا تقدم انّ الإيمان يتجلّى في أُصول ثلاثة:
الأصل الأوّل: الإيمان باللَّه سبحانه وتوحيده.
الأصل الثاني: الإيمان بالآخرة وحشر الناس في اليوم الموعود.
الأصل الثالث: الإيمان برسالة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وما جاء بها.
والاعتقاد بهذه الأُصول الثلاثة يورث الإيمان ويدخل الإنسان في حظيرته ويتفَّي في ظلاله وظلال الإسلام.
هذا ما عليه علماء الإسلام دون فرق بين طائفة وأُخرى، وقد آثروا في ذلك ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) في غير و احد من المواقف.
1. روى الإمام علي بن موسى الرضا «عليهما السلام»، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: «قال النبي (صلى الله عليه و آله) : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّااللَّه، فإذا قالوا حرمت عليَّ دماؤهم وأموالهم». «2»
2. أخرج الشيخان، عن عمر بن الخطاب، انّ عليّاً صرخ: يا رسول اللَّه على ماذا، أقاتل؟ قال (صلى الله عليه وآله ) : «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلّااللَّه وانّ محمّداً رسول اللَّه، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلّابحقها وحسابهم على اللَّه». «3»
3. روى أبو هريرة انّ رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله) قال:
«لا أزال أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّااللَّه، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على اللَّه». «4»
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أنّ محور الإسلام والكفر كلمة «لاإله إلّااللَّه ومحمد رسول اللَّه» و لو اقتصر في بعض على أصل واحد ولم يذكر المعاد وحشر الناس أو لم يذكر رسالته فلوضوحهما.
نعم، ليس الإيمان بالأُصول الثلاثة فقط مورثاً للسعادة، ومنقذاً عن العذاب والعقاب، بل لابدّ من انضمام العمل إليه واقترانه بامتثال أوامره ونواهيه في الكتاب والسنّة، وذلك من الوضوح بمكان، وقد وردت في هذا الصدد روايات عديدة نقتصر على قليل منها:
1. روى عبد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه (صلى الله عليه و آله):
«بني الإسلام على خمس: شهادة أن لاإله إلّااللَّه وانّ محمّداً رسول
اللَّه، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحجّ، وصوم شهر رمضان». «5»
2. ما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم متضافراً انّه قال:
«من شهد أن لاإله إلّااللَّه، و استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم». «6»
وعلى ضوء ذلك فالذي يميز المؤمن عن الكافر هو الاعتقاد بالأُصول الثلاثة، وأمّا ما يوجب السعادة الأُخروية فهو في ظلّ العمل بالواجبات والانتهاء عن المحرمات.
ويشير إلى الأمر الأوّل ما مرّ من الروايات التي تركِّز على العقيدة ولا تذكر من العمل شيئاً. كما تشير إلى الأمر الثاني الروايات التي تركز على العمل وراء العقيدة.
إذا عرفت ما يُخرج الإنسان من الإيمان ويدخله في الكفر، يعلم منه انّه لا يصح تكفير فرقة من الفرق الإسلامية مادامت تعترف بالأُصول الثلاثة. وفي الوقت نفسه لا تنكر ما علم كونه من الشريعة بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة وأمثالهما.
هذا ما نصّ عليه جمهور المتكلمين والفقهاء. «7»
وها نحن نذكر بعض الشواهد على هذا الموضوع.
1. قال ابن حزم عندما تكلّم «فيمن يُكفَّر و لا يكفر»:
«وذهبت طائفة إلى انّه لا يُكفَّر ولا يُفسَّق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وانّ كلّ من اجتهد في شيء من ذلك فدانَ بما رأى انّه الحقّ فانّه مأجور على كلّ حال، إن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد. وهذا قول ابن أبي ليلى، وأبي حنيفة، والشافعي، وسفيان الثوري، وداود بن علي وهو قول كلّ من عرفنا له قولًا في هذه المسألة من الصحابة (رضوان اللَّه عليهم) ما نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلًا». «8»
2. وقال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي: إنّ الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جداً، وكلّ من في قلبه إيمان، يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع مع قولهم لاإله إلّااللَّه، محمّد رسول اللَّه، فانّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر. «9»
3. وقال أحمد بن زاهر السرخسي الأشعري: لما حضرت الوفاةُ أبا الحسن الأشعري في داري ببغداد أمر بجمع أصحابه ثمّ قال: اشهدوا على أنّني لا أُكفِّرُ أحداً من أهل القبلة بذنب، لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمهم. «10»
4. وقال التفتازاني: إنّ مخالف الحقّ من أهل القبلة ليس بكافر مالم يخالف ما هو من ضروريات الدين كحدوث العالم وحشر الأجساد، واستدل بقوله: إنّ النبي و من بعده لم يكونوا يفتشون عن العقائد وينبهون على ما هو الحقّ. «11»
وسنكمل البحث في مشاركة آتية إن شاء الله تعالى
الحمدلله ربِّ العالمين
والسلام عليكم.
1_ اللايجي المواقف : ص384
2_بحار الانوار :68/242
3_ صحيح البخاري: 1/10 كتاب الإيمان , صحيح مسلم:7/17 كتاب فضائل علي
4_ الشافعيالأُم :6/157 إقرأ كلامه حول هذا الموضوع
5_صحيح البخاري:1/6 باب أداء الخمس من كتاب الإيمان
6_ابن الأثير جامع الاصول:1/158
7_المواقف لللايجي:392
8_ابن حزم الفصل:3/291
9_الشعراني اليواقيت والجواهر:2/125 ط عام1378
10_الشعراني = = :2/126 = = =
11_التفتازاني شرح المقاصد:5/227
تعليق