بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء وخاتم المرسلين ابي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد.
(الأرجل)
اختلف علماء الإسلام في نوع طهارة الأرجل من أعضاء الوضوء، فذهب الكثيرون منهم إلى وجوب الغسل، ومنهم الأئمة الأربعة، إلاّ ما ينقل عن أحمدبن حنبل في إحدى الروايات، بأنّه جوّز المسح.
وعند الأوزاعي، والثوري، وابن جرير، والجبائي، والحسن البصري أنّ الإنسان مخيّر بين الغسل وبين المسح وقال بعض علماء أهل الظاهر بوجوب المسح والغسل.
وأجمعت الشيعة تبعاً لأهل البيت على وجوب المسح، ودليلهم على ذلك كتاب الله وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) لما روي عن الأئمة(عليهم السلام) في بيان كيفية وضوء النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّه مسح على رجليه، كما يأتي.
أما الكتاب فقوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قرئ بنصب أرجل وخفضها، أمّا قراءة الخفض فهي الحجة، وأمّا النصب فكذلك منصوبة إمّا على إسقاط الخافض أو أنّها بفعل محذوف.
فأوجب سبحانه وتعالى على الوجوه بظاهر اللفظ الغسل، ثم عطف الأيدي على الوجوه، وأوجب لها بالعطف مثل حكمها وهو الغسل، فكأنه قال: اغسلوا وجوهكم واغسلوا أيديكم، ثم أوجب مسح الرؤوس بصريح اللفظ، كما أوجب غسل الوجوه كذلك، ثم عطف الأرجل على الرؤوس، فوجب أن يكون لها حكم الرؤوس وهو المسح بمقتضى العطف، ولو جاز أن يخالف في الحكم المذكور الرؤوس الأرجل جاز أن يخالف حكم الأيدي في الغسل الوجوه.
وسواء قرئ بنصب الأرجل أم خفضها فكلا القراءتين يدلان على وجوب المسح، كما ذهب إليه كثير من الصحابة والتابعين، ودلّت عليه الآثار الصحيحة من صفة وضوء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه مسح على رجليه، كما روى ذلك عنه أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.
وأمّا القول بأنّ قراءة الخفض في أرجلكم إنّما كان للمجاورة فهو غير صحيح، لأنّ ذلك لا يجوز إلاّ مع ارتفاع اللبس، فأمّا مع حصوله فلا يجوز.
وأمّا حمل بعضهم الأمر بالمسح هنا على الغسل فهو بعيد جداً وهو تعسف وصرف لظواهر الكتاب عمّا تدل عليه.
وعلى كلّ حال فإن كلا القراءتين يفهم منهما وجوب مسح الرجلين وقد وافقنا على ذلك جماعة من علماء المسلمين ممّن لا يقول به ولنترك الحديث لبعضهم.
قال الفخر الرازي في تفسيره حول الاحتجاج بهذه الآية الكريمة: حجّة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله تعالى "وأرجلكم" فقرأ ابن كثير، وحمزة، وأبو عمر، وعاصم ـ في رواية أبي بكر ـ بالجر، وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم ـ في رواية حفص عنه ـ بالنصب.
ثم قال: فنقول أمّا القراءة بالجرّ فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل.
فإن قيل: لم لايجوز أن يقال: هذا كسر على المجاورة كما يقال: جحر ضب خرب؟
قلنا: هذا باطل من وجوه: الأوّل أنّ الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجله لضرورة في الشعر، وكلام الله منزّه عنه.وثانيها: أنّ الكسر على الجوار إنّما يصار حيث يحصل الأمن من الالتباس، كما في قوله: جحر ضبّ خرب، فإنّ من المعلوم بالضرورة، أنّ الخرب لا يكون نعتاً للضبّ بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.وثالثها: أنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف، وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب.
وأمّا القراءة بالنصب فقالوا أيضاً توجب المسح، وذلك لأنّ قوله: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ) فرؤوسكم في محل النصب بامسحوا لأنّه المفعول به، ولكنّها مجرورة لفظاً بالباء، فإذا عطفت الأرجل على محل الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس، وجاز الجرّ عطفاً على الظاهر.
فإذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله تعالى: وأرجلكم هو قوله: وأمسَحُوا ويجوز أن يكون هو قوله: فاغسلوا لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله تعالى: وأرجلكم هو قوله تعالى: وامسحوا.
فثبت أنّ قراءة وأرجلكم بنصب اللام توجب المسح أيضاً.
هذا ما قرّره عالم من كبار علماء الشافعية، ومن أشهر المفسرين، وهو موافق لما يذهب إليه الشيعة، وما أجمعوا عليه من وجوب المسح للأرجل، كما دلت عليه آية الوضوء، وإن كان هذا العالم ذهب إلى الغسل نظراً لوجود أخبار تدل عليه إذ يقول:
إنّ الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح، ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأنّ غسل الرجل يقوم مقام مسحها
وأنت ترى ما في هذا الاستدلال من البعد عن الواقع، وهو تمحّل وتكلّف، وستأتي الإشارة إلى الأخبار في هذا الباب.
وقال الجصّاص أحمد بن الرازي الحنفي المتوفى سنة (370 هـ) في كتابه أحكام القرآن:
ولا يختلف أهل اللغة أنّ كلّ واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفها على الرأس، ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها على المغسول، لأنّ قوله تعالى: وأرجلكم، بالنصب يجوز أن يكون مراده فاغسلوا أرجلكم، ويحتمل أن يكون معطوفاً على الرأس فيراد بها المسح، وإن كانت منصوبة فيكون معطوفاً على المعنى لا على اللفظ، لأن الممسوح مفعول به كقول الشاعر:
معاوي إننا بشر فاسجح *** فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى.
ويحتمل قراءة الخفض معطوفة فيراد به المسح، ويحتمل عطفه على الغسل، ويكون مخفوضاً بالمجاورة، كقوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ) ، ثم قال تعالى: (وَحُور عِين)فخفضهم بالمجاورة.
إلى أن يقول: فثبت بما وصفنا احتمال كلّ واحدة من القراءتين للمسح والغسل.
وقال إبراهيم الحلبي
قرأ السبعة بالنصب والجر، والمشهور أنّ النصب بالعطف على وجوهكم والجر على الجوار، والصحيح أنّ الأرجل معطوفة على "برؤوسكم" في القراءتين، ونصبها على المحل، وجرّها على اللفظ، وذلك لامتناع العطف على المنصوب للفصل بين العاطف والمعطوف بجملة أجنبية، والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلا عن الجملة، ولم يسمع فيالفصيح نحو ضربت زيداً ومررت بعمرو وبكراً، بعطف بكر على زيد، وأما الجرّ على الجوار فإنّما يكون على قلة في النعت كقول بعضهم: هذا جحر ضب خرب، بجر خرب، وفي التأكيد كقول الشاعر:
يا صاح بلغ ذويالزوجات كلّهم *** أن ليس وصل إذا أنحلت عرى الذنب
بجرّ كلّهم على ما حكاه القراء.
وأمّا في عطف النسق فلا يكون، لأنّ العاطف يمنع المجاورة.
وقال ابن حزم
وأمّا قولنا في الرجلين فإنّ القرآن نزل بالمسح، قال الله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كلّ حال عطف على الرؤوس: إمّا على اللفظ وإمّا على الموضع لايجوز غير ذلك، لأنّه لايجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة، وهكذا جاء عن ابن عباس: نزل القرآن بالمسح. يعني في الرجلين في الوضوء.
الأخبار
إنّ أخبار الغسل لا يمكن أن يخصص بها الكتاب، إذ هي أخبار آحاد، ومنها مالا دلالة فيه على المدّعي، كخبر عبد اللّه بن عمرو بن العاص في الصحيحين أنّه قال: تخلف عنّا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الأخبار في سفر سافرنا معه فأدركنا وقد حضرت صلاة العصر، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى ويل للأعقاب من النار.
وهذا الخبر كما ترى يدلّ على مسح الأرجل وشهرته بين المسلمين، ولم يصدر من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إنكار عليه، وإنّما أنكر عليهم قذارة أعقابهم، ولا سيما في السفر، وقد نالها في الطريق أوساخ وقذارات لا يجوز الدخول في الصلاة معها، إذ فيهم أعراب جفاة، لا يتنزّهون عن قذارة.
ويؤيّد هذا ما قاله ابن رشد القرطبي بعد إيراد هذ الحديث، قال: وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدلّ على جوازه منه في منعه، لأنّ الوعيد إنّما تعلّق فيه بترك التعميم، لا بنوع الطهارة، بل سكت عن نوعها، وذلك دليل على جوازه ووجوب المسح هو أيضاً مروي عن بعض الصحابة والتابعين ومنها ما حكاه حمران مولى عثمان بن عفان من وضوء مولاه عثمان، وأنّه غسل كلّ رجل ثلاثاً، ثم قال رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ مثل وضوئي.
ومثله ما روي عن عبدالله بن زيد بن عاصم، وقد قيل له توضأ لنا وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتوضأ ثم غسل رجليه إلى الكعبين، كما روى ذلك مسلم في صحيحه.
والحاصل أنّ عمدة ما في الباب هو هذه الأخبار، والأصل المعتمد عليه هو خبر حمران مولى عثمان بن عفان: وكلّ ذلك لا يصلح أن يكون مقابلا لحكم الآية أو ناسخاً لها.
وعليه فقد صرّح بالمسح جماعة من السلف كابن عباس، وأنس بن مالك والشعبي وعكرمة وغيرهم.
وقد اشتهر عن ابن عباس إنكاره على من يغسل رجليه فكان يقول: الوضوء غسلتان ومسحتان.
وكان يقول: افترض الله غسلتين، ومسحتين، ألا ترى أنّه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين، وترك المسحتين؟
وقال الشعبي: إنما هو المسح على الرجلين، ألا ترى أن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم وما كان عليه المسح أهمل؟
وقال عكرمة: ليس في الرجلين غسل، إنّما نزل فيهما المسح.
وقال موسى بن أنس لأنس: يا أبا حمزة، إنّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه فذكر الطهور فقال: اغسلوا حتى ذكر الرجلين وغسل العراقيب.
فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج. قال الله سبحانه: (فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
فكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما، وقال نزل القرآن بالمسح. وجاءت السنة بالغسل.
ونحن لا نستبعد تدخل السلطات في هذه القضية، فالحجاج عندما يأمر الناس بحكم فبدون شك أنّه لا يوجد من يخالف، وكثير من يؤيّده، ومن تكلّم بغير ما يأمر فمصيره إلى الفناء، وليس لمحتج عليه من سبيل، ولا لقائل على خلاف قوله إلاّ أن يكذب، إن كانت له بقيّة من حياة وامتداد في عمر.
وعلى أيّ حال: فإنّ لنا بكتاب الله العزيز، وما ورد عن عترة رسوله العظيم، ما يكفينا عن الاستدلال في الحكم، فإنّ القرآن ناطق بذلك ولا سبيل إلى صرفه إلى غيره ولا تنسخه أخبار آحاد لا تصلح للاستدلال.
وقد أخرج أبو داود من حديث أوس بن أبي الثقفي أنّه قال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أتى كِضامة قوم ومسح على نعليه وقدميه.
وجاء من طريق همام عن إسحاق بن أبي عبدالله: حدثنا علي بن خلاد عن أبيه عن عمّه ـ هو رفاعة بن رافع ـ أنّه سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّها لا تجوز صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عزّوجلّ: يغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين.
وعن إسحاق بن راهويه: حدثنا عيسى بن يونس، عن عبد خير عن علي(عليه السلام): كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح، حتى رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح ظاهرهما
وروى شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن ميسرة أنّ علياً(عليه السلام)صلّى الظهر ثم قعد في الرحبة، فلما حضرت العصر، دعا بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه، وذراعيه، ومسح برأسه ورجليه وقال: هكذا رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فعل.
وروى الحسن بن علي الطوسي في مجالسه عن أبيه بسند عن أبي إسحاق الهمداني، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في عهده إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر أن قال فيه: وانظر إلى الوضوء فإنه من تمام الصلاة، تمضمض ثلاث مرات، واستنشق ثلاثاً، واغسل وجهك، ثم يدك اليمنى ثم اليسرى ثم امسح رأسك ورجليك؛ فإني رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يصنع ذلك، واعلم أنّ الوضوء نصف الإيمان.
وأمّا ما أخرجه ابن ماجة من طريق أبي إسحاق عن أبي حيّة قال: رأيت علياً(عليه السلام)توضأ فغسل قدميه إلى الكعبين ثم قال: أردت أن اُريكم طهور نبيّكم. فهو ممّا تفرد به أبو إسحاق، وقد ترك الناس حديثه؛ لأنّه اختلط ونسي، وأنّ أبا حيّة، وراوي هذا الحديث، نكرة لا يعرف، ولا ذكر له في رواة الحديث، ولعلّه شخصية وهمية برزت في إطار الخيال لغاية في نفس المصوّر لها.
وروى الكليني بسند عن بكير بن أعين أنّ أبا جعفر الباقر(عليه السلام)قال: ألا اُحكي لكم وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ بكفه اليمنى كفاً من ماء فغسل به وجهه، ثم أخذ بيده اليسرى كفّاً من ماء فغسل به يده اليمنى، ثم أخذ بيده اليمنى كفاً من ماء فغسل به يده اليسرى، ثم مسح بفضل يديه رأسه ورجليه.
ومثله عن زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام).
وروى الكليني بسند عن حماد بن عثمان قال: كنت قاعداً عند أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) فدعا بماء فملأ به كفّه فعمّ به وجهه، ثم ملأ كفه فعمّ به يده اليمنى، ثم ملأ كفه فعمّ به يده اليسرى، ثم مسح على رأسه ورجليه.
وفي الخصال للصدوق بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)أنّه قال: هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسّك بها وأراد الله هداه: إسباغ الوضوء كما أمر الله في كتابه الناطق، غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، الرأس والقدمين إلى الكعبين مرّةً مرة، ومرتان جائز، ولا ينقض الوضوء إلاّ البول والريح والنوم والغائط والجنابة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء وخاتم المرسلين ابي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد.
(الأرجل)
اختلف علماء الإسلام في نوع طهارة الأرجل من أعضاء الوضوء، فذهب الكثيرون منهم إلى وجوب الغسل، ومنهم الأئمة الأربعة، إلاّ ما ينقل عن أحمدبن حنبل في إحدى الروايات، بأنّه جوّز المسح.
وعند الأوزاعي، والثوري، وابن جرير، والجبائي، والحسن البصري أنّ الإنسان مخيّر بين الغسل وبين المسح وقال بعض علماء أهل الظاهر بوجوب المسح والغسل.
وأجمعت الشيعة تبعاً لأهل البيت على وجوب المسح، ودليلهم على ذلك كتاب الله وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) لما روي عن الأئمة(عليهم السلام) في بيان كيفية وضوء النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّه مسح على رجليه، كما يأتي.
أما الكتاب فقوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قرئ بنصب أرجل وخفضها، أمّا قراءة الخفض فهي الحجة، وأمّا النصب فكذلك منصوبة إمّا على إسقاط الخافض أو أنّها بفعل محذوف.
فأوجب سبحانه وتعالى على الوجوه بظاهر اللفظ الغسل، ثم عطف الأيدي على الوجوه، وأوجب لها بالعطف مثل حكمها وهو الغسل، فكأنه قال: اغسلوا وجوهكم واغسلوا أيديكم، ثم أوجب مسح الرؤوس بصريح اللفظ، كما أوجب غسل الوجوه كذلك، ثم عطف الأرجل على الرؤوس، فوجب أن يكون لها حكم الرؤوس وهو المسح بمقتضى العطف، ولو جاز أن يخالف في الحكم المذكور الرؤوس الأرجل جاز أن يخالف حكم الأيدي في الغسل الوجوه.
وسواء قرئ بنصب الأرجل أم خفضها فكلا القراءتين يدلان على وجوب المسح، كما ذهب إليه كثير من الصحابة والتابعين، ودلّت عليه الآثار الصحيحة من صفة وضوء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه مسح على رجليه، كما روى ذلك عنه أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.
وأمّا القول بأنّ قراءة الخفض في أرجلكم إنّما كان للمجاورة فهو غير صحيح، لأنّ ذلك لا يجوز إلاّ مع ارتفاع اللبس، فأمّا مع حصوله فلا يجوز.
وأمّا حمل بعضهم الأمر بالمسح هنا على الغسل فهو بعيد جداً وهو تعسف وصرف لظواهر الكتاب عمّا تدل عليه.
وعلى كلّ حال فإن كلا القراءتين يفهم منهما وجوب مسح الرجلين وقد وافقنا على ذلك جماعة من علماء المسلمين ممّن لا يقول به ولنترك الحديث لبعضهم.
قال الفخر الرازي في تفسيره حول الاحتجاج بهذه الآية الكريمة: حجّة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله تعالى "وأرجلكم" فقرأ ابن كثير، وحمزة، وأبو عمر، وعاصم ـ في رواية أبي بكر ـ بالجر، وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم ـ في رواية حفص عنه ـ بالنصب.
ثم قال: فنقول أمّا القراءة بالجرّ فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل.
فإن قيل: لم لايجوز أن يقال: هذا كسر على المجاورة كما يقال: جحر ضب خرب؟
قلنا: هذا باطل من وجوه: الأوّل أنّ الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجله لضرورة في الشعر، وكلام الله منزّه عنه.وثانيها: أنّ الكسر على الجوار إنّما يصار حيث يحصل الأمن من الالتباس، كما في قوله: جحر ضبّ خرب، فإنّ من المعلوم بالضرورة، أنّ الخرب لا يكون نعتاً للضبّ بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.وثالثها: أنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف، وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب.
وأمّا القراءة بالنصب فقالوا أيضاً توجب المسح، وذلك لأنّ قوله: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ) فرؤوسكم في محل النصب بامسحوا لأنّه المفعول به، ولكنّها مجرورة لفظاً بالباء، فإذا عطفت الأرجل على محل الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس، وجاز الجرّ عطفاً على الظاهر.
فإذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله تعالى: وأرجلكم هو قوله: وأمسَحُوا ويجوز أن يكون هو قوله: فاغسلوا لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله تعالى: وأرجلكم هو قوله تعالى: وامسحوا.
فثبت أنّ قراءة وأرجلكم بنصب اللام توجب المسح أيضاً.
هذا ما قرّره عالم من كبار علماء الشافعية، ومن أشهر المفسرين، وهو موافق لما يذهب إليه الشيعة، وما أجمعوا عليه من وجوب المسح للأرجل، كما دلت عليه آية الوضوء، وإن كان هذا العالم ذهب إلى الغسل نظراً لوجود أخبار تدل عليه إذ يقول:
إنّ الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح، ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأنّ غسل الرجل يقوم مقام مسحها
وأنت ترى ما في هذا الاستدلال من البعد عن الواقع، وهو تمحّل وتكلّف، وستأتي الإشارة إلى الأخبار في هذا الباب.
وقال الجصّاص أحمد بن الرازي الحنفي المتوفى سنة (370 هـ) في كتابه أحكام القرآن:
ولا يختلف أهل اللغة أنّ كلّ واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفها على الرأس، ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها على المغسول، لأنّ قوله تعالى: وأرجلكم، بالنصب يجوز أن يكون مراده فاغسلوا أرجلكم، ويحتمل أن يكون معطوفاً على الرأس فيراد بها المسح، وإن كانت منصوبة فيكون معطوفاً على المعنى لا على اللفظ، لأن الممسوح مفعول به كقول الشاعر:
معاوي إننا بشر فاسجح *** فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى.
ويحتمل قراءة الخفض معطوفة فيراد به المسح، ويحتمل عطفه على الغسل، ويكون مخفوضاً بالمجاورة، كقوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ) ، ثم قال تعالى: (وَحُور عِين)فخفضهم بالمجاورة.
إلى أن يقول: فثبت بما وصفنا احتمال كلّ واحدة من القراءتين للمسح والغسل.
وقال إبراهيم الحلبي
قرأ السبعة بالنصب والجر، والمشهور أنّ النصب بالعطف على وجوهكم والجر على الجوار، والصحيح أنّ الأرجل معطوفة على "برؤوسكم" في القراءتين، ونصبها على المحل، وجرّها على اللفظ، وذلك لامتناع العطف على المنصوب للفصل بين العاطف والمعطوف بجملة أجنبية، والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلا عن الجملة، ولم يسمع فيالفصيح نحو ضربت زيداً ومررت بعمرو وبكراً، بعطف بكر على زيد، وأما الجرّ على الجوار فإنّما يكون على قلة في النعت كقول بعضهم: هذا جحر ضب خرب، بجر خرب، وفي التأكيد كقول الشاعر:
يا صاح بلغ ذويالزوجات كلّهم *** أن ليس وصل إذا أنحلت عرى الذنب
بجرّ كلّهم على ما حكاه القراء.
وأمّا في عطف النسق فلا يكون، لأنّ العاطف يمنع المجاورة.
وقال ابن حزم
وأمّا قولنا في الرجلين فإنّ القرآن نزل بالمسح، قال الله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كلّ حال عطف على الرؤوس: إمّا على اللفظ وإمّا على الموضع لايجوز غير ذلك، لأنّه لايجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة، وهكذا جاء عن ابن عباس: نزل القرآن بالمسح. يعني في الرجلين في الوضوء.
الأخبار
إنّ أخبار الغسل لا يمكن أن يخصص بها الكتاب، إذ هي أخبار آحاد، ومنها مالا دلالة فيه على المدّعي، كخبر عبد اللّه بن عمرو بن العاص في الصحيحين أنّه قال: تخلف عنّا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الأخبار في سفر سافرنا معه فأدركنا وقد حضرت صلاة العصر، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى ويل للأعقاب من النار.
وهذا الخبر كما ترى يدلّ على مسح الأرجل وشهرته بين المسلمين، ولم يصدر من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إنكار عليه، وإنّما أنكر عليهم قذارة أعقابهم، ولا سيما في السفر، وقد نالها في الطريق أوساخ وقذارات لا يجوز الدخول في الصلاة معها، إذ فيهم أعراب جفاة، لا يتنزّهون عن قذارة.
ويؤيّد هذا ما قاله ابن رشد القرطبي بعد إيراد هذ الحديث، قال: وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدلّ على جوازه منه في منعه، لأنّ الوعيد إنّما تعلّق فيه بترك التعميم، لا بنوع الطهارة، بل سكت عن نوعها، وذلك دليل على جوازه ووجوب المسح هو أيضاً مروي عن بعض الصحابة والتابعين ومنها ما حكاه حمران مولى عثمان بن عفان من وضوء مولاه عثمان، وأنّه غسل كلّ رجل ثلاثاً، ثم قال رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ مثل وضوئي.
ومثله ما روي عن عبدالله بن زيد بن عاصم، وقد قيل له توضأ لنا وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتوضأ ثم غسل رجليه إلى الكعبين، كما روى ذلك مسلم في صحيحه.
والحاصل أنّ عمدة ما في الباب هو هذه الأخبار، والأصل المعتمد عليه هو خبر حمران مولى عثمان بن عفان: وكلّ ذلك لا يصلح أن يكون مقابلا لحكم الآية أو ناسخاً لها.
وعليه فقد صرّح بالمسح جماعة من السلف كابن عباس، وأنس بن مالك والشعبي وعكرمة وغيرهم.
وقد اشتهر عن ابن عباس إنكاره على من يغسل رجليه فكان يقول: الوضوء غسلتان ومسحتان.
وكان يقول: افترض الله غسلتين، ومسحتين، ألا ترى أنّه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين، وترك المسحتين؟
وقال الشعبي: إنما هو المسح على الرجلين، ألا ترى أن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم وما كان عليه المسح أهمل؟
وقال عكرمة: ليس في الرجلين غسل، إنّما نزل فيهما المسح.
وقال موسى بن أنس لأنس: يا أبا حمزة، إنّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه فذكر الطهور فقال: اغسلوا حتى ذكر الرجلين وغسل العراقيب.
فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج. قال الله سبحانه: (فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
فكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما، وقال نزل القرآن بالمسح. وجاءت السنة بالغسل.
ونحن لا نستبعد تدخل السلطات في هذه القضية، فالحجاج عندما يأمر الناس بحكم فبدون شك أنّه لا يوجد من يخالف، وكثير من يؤيّده، ومن تكلّم بغير ما يأمر فمصيره إلى الفناء، وليس لمحتج عليه من سبيل، ولا لقائل على خلاف قوله إلاّ أن يكذب، إن كانت له بقيّة من حياة وامتداد في عمر.
وعلى أيّ حال: فإنّ لنا بكتاب الله العزيز، وما ورد عن عترة رسوله العظيم، ما يكفينا عن الاستدلال في الحكم، فإنّ القرآن ناطق بذلك ولا سبيل إلى صرفه إلى غيره ولا تنسخه أخبار آحاد لا تصلح للاستدلال.
وقد أخرج أبو داود من حديث أوس بن أبي الثقفي أنّه قال: رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أتى كِضامة قوم ومسح على نعليه وقدميه.
وجاء من طريق همام عن إسحاق بن أبي عبدالله: حدثنا علي بن خلاد عن أبيه عن عمّه ـ هو رفاعة بن رافع ـ أنّه سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّها لا تجوز صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عزّوجلّ: يغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين.
وعن إسحاق بن راهويه: حدثنا عيسى بن يونس، عن عبد خير عن علي(عليه السلام): كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح، حتى رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح ظاهرهما
وروى شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن ميسرة أنّ علياً(عليه السلام)صلّى الظهر ثم قعد في الرحبة، فلما حضرت العصر، دعا بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه، وذراعيه، ومسح برأسه ورجليه وقال: هكذا رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فعل.
وروى الحسن بن علي الطوسي في مجالسه عن أبيه بسند عن أبي إسحاق الهمداني، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في عهده إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر أن قال فيه: وانظر إلى الوضوء فإنه من تمام الصلاة، تمضمض ثلاث مرات، واستنشق ثلاثاً، واغسل وجهك، ثم يدك اليمنى ثم اليسرى ثم امسح رأسك ورجليك؛ فإني رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يصنع ذلك، واعلم أنّ الوضوء نصف الإيمان.
وأمّا ما أخرجه ابن ماجة من طريق أبي إسحاق عن أبي حيّة قال: رأيت علياً(عليه السلام)توضأ فغسل قدميه إلى الكعبين ثم قال: أردت أن اُريكم طهور نبيّكم. فهو ممّا تفرد به أبو إسحاق، وقد ترك الناس حديثه؛ لأنّه اختلط ونسي، وأنّ أبا حيّة، وراوي هذا الحديث، نكرة لا يعرف، ولا ذكر له في رواة الحديث، ولعلّه شخصية وهمية برزت في إطار الخيال لغاية في نفس المصوّر لها.
وروى الكليني بسند عن بكير بن أعين أنّ أبا جعفر الباقر(عليه السلام)قال: ألا اُحكي لكم وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ بكفه اليمنى كفاً من ماء فغسل به وجهه، ثم أخذ بيده اليسرى كفّاً من ماء فغسل به يده اليمنى، ثم أخذ بيده اليمنى كفاً من ماء فغسل به يده اليسرى، ثم مسح بفضل يديه رأسه ورجليه.
ومثله عن زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام).
وروى الكليني بسند عن حماد بن عثمان قال: كنت قاعداً عند أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) فدعا بماء فملأ به كفّه فعمّ به وجهه، ثم ملأ كفه فعمّ به يده اليمنى، ثم ملأ كفه فعمّ به يده اليسرى، ثم مسح على رأسه ورجليه.
وفي الخصال للصدوق بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)أنّه قال: هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسّك بها وأراد الله هداه: إسباغ الوضوء كما أمر الله في كتابه الناطق، غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، الرأس والقدمين إلى الكعبين مرّةً مرة، ومرتان جائز، ولا ينقض الوضوء إلاّ البول والريح والنوم والغائط والجنابة
تعليق