المسح على الخفين
هذه المسألة من المسائل التي وقع الخلاف فيها بين الشيعة وغيرهم من المذاهب، وقد تطوّرت الحالة حتى أصبح المسح على الخفين من علامة السنة، وعدمه من علامات البدعة، وأصبحت هذه المسألة من اُصول الاعتقاد.
ونحن نذكر ذلك بإيجاز.
قالت الشيعة، لا يجوز المسح على الخفين، أو الجورب مطلقاً، سواء في حضر أم سفر، لأنّ ذلك خلاف ما نزل به القرآن في بيان الوضوء، وهو قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) فأوجب تعالى إيقاع الفرض على ما يسمّى رِجلا والخف لا يسمى بذلك، كما أنّ العمامة لاتسمى رأساً.
كما أنّ الأخبار الواردة في ذلك لا تقابل دلالة الآية على وجوب المسح على الرجل، وعمدة ما في الباب هو حديث جرير بن عبدالله:
روى الجماعة أنّ جريراً بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له تفعل هكذا؟ قال: نعم رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بال ثم توضأ، ومسح خفيه، وقد أنكر المسح على الخفين جماعة من الصحابة، وكان علي(عليه السلام) يقول: سبق الكتاب المسح على الخفّين
وروى زرارة عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال، سمعته يقول: جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفيهم علي عليه الصلاة والسلام، فقال:ما تقولون في المسح على الخفين؟ فقام المغيرة بن شعبة وقال: رأيت رسول الله يمسح على الخفين. فقال علي(عليه السلام)قبل المائدة أو بعدها؟ فقال المغيرة: لا أدري. فقال علي(عليه السلام): إنما نزلت المائدة قبل أن يقبض النبيّ بشهرين أو ثلاثة.
وقال أبو الورد: قلت لأبي جعفر الباقر(عليه السلام): إنّ أبا ضبيان حدثني أنّه رأى علياً(عليه السلام)أراق الماء ثم مسح على الخفين، فقال(عليه السلام): كذب أبوضبيان... الحديث.
وروى إسحاق بن عمار عن الإمام الصادق(عليه السلام): النهي عن المسح على الخفين.
وعن الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن المسح على الخفّين فقال: لا تمسح وقال: إنّ جدي قال: سبق الكتاب.
فالشيعة الإمامية يذهبون ـ تبعاً للعترة الطاهرة ـ إلى عدم جواز المسح على الخفّين لما ذكرناه وما سيأتي بعد.
وقد وقع الاختلاف في هذه المسألة على أقوال:
1ـ الجواز مطلقاً سفراً وحضراً.
2ـ الجواز في السفر دون الحضر.
3ـ عدم الجواز بقول مطلق لعدم ثبوته في الدين، وأنّ القرآن على خلافه، وعلى كل حال فإنّ الاختلاف في هذه المسألة وقع في الصدر الأول، فمنهم من يرى عدم مشروعية المسح على الخفّين، وما يُروى في ذلك معارض لآية الوضوء، وهي متأخرة عمّا يُروى في ذلك، ولم تكن منسوخة إذ المائدة لم تنسخ منها آية واحدة.
وكان في طليعة المنكرين لذلك الإمام(عليه السلام) وكفى بذلك ردّاً للمدّعي، إذ هو باب مدينة علم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أعرف الناس بما يصدر عن الرسول، لملازمته إياه في حضره وسفره، ولما سئلت عائشة عن المسح على الخفّين قالت: سلوا علياً فإنّه كان أكثر سفراً مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ثبت عن علي (عليه السلام)أنّه كان ينهى عن المسح على الخفّين.
وكذلك حبر الاُمة عبد اللّه بن عباس، فقد ورد عنه أنّه كان يقول: لئن أمسح على جلد حمار أحبّ إليَّ من أن أمسح على الخفّين.
وكانت عائشة تنكر المسح على الخفّين أشدّ الإنكار وتقول: لئن تقطع قدماي أحبّ إليَّ من أن أمسح على الخفّين، وفي لفظ: لئن أقطع رجلي أحبّ إليَّ من أن أمسح عليهما.
وكان ابن عمر يخالف الناس في المسح على الخفين، وإن ادعى أنّه رجع عن ذلك قبل موته فهي دعوى لم تثبت.
وسئل ابن عباس: هل مسح رسول اللّه على الخفّين؟ فقال: واللّه ما مسح رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على الخفّين بعد نزول المائدة، ولئن أمسح على ظهر عير في الفلاة أحبّ إليَّ من أن أمسح على الخفين، وفي رواية: لئن أمسح على جلد حمار أحبّ إليَّ من أن أمسح على الخفّين.
وقد روي عن مالك بن أنس في العتيبية ما ظاهره المنع من المسح على الخفين. وقال الشيخ أبو بكر في شرح المختصر الكبيرإنّه روي عن مالك: لايمسح المسافر ولا المقيم، وكذلك روي عن ابن وهب في النوادر عن مالك أنّه قال: لا مسح في سفر ولا حضر، ويقال إنّ منعه كان على وجه الكراهية لما لم ير أهل المدينة يمسحون، ثم رأى الآثار فأباح المسح على الإطلاق.
وعلى كلّ حال: فإنّ فعل جرير واستنكار الناس عليه عندما مسح على الخفين، يؤيّد أنّ هذا لم يكن معهوداً، ومثله يلزم أن يكون مشهوراً شهرة عظيمة، لا تخفى على الأكثرين.
وإنّ ما ذهبت إليه الشيعة في عدم الجواز مطلقاً هو الموافق لكتاب الله، ومبرئ للذمة، لأنّ المسح على الخفين لايصدق عليه مسحاً على الرجلين لا لغة ولا شرعاً، كما أنّ العمامة لا تسمّى رأساً، والبرقع لا يسمى وجهاً، وما يقال في الاحتجاج بصحة القول: وطأت كذا برجلي. وإن كان لابساً للخفّ فإنّ ذلك مجاز واتساع بلا خلاف. والمجاز لا يحمل عليه الكتاب، إلاّ بدليل ظاهر.
وقد صحّ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه لم يمسح على خفيه، وربّما وقع اشتباه من الراوي في مسحه(صلى الله عليه وآله وسلم) على رجله، وهو لابس للحذاء، الذي لا يمنع من المسح، وإن كان هذا بعيداً، لأنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مشرّع ووضوؤه لابد أن يأتي بصورة أكمل وبيان أفضل.
ثمّ إنّ الوضوء لم يكن من الأعمال التي يمكن أن تخفى لكثرة تردده واستعماله حتى يختصّ جرير بن عبد الله بهذا الحكم، ويتفرد بهذا البيان كما تقدم.
وعلى كلّ حال فالشيعة لم تنفرد بالمنع، ولم يستدلوا في هذا الحكم بغير الكتاب وسنة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكفى بذلك أمناً من العقاب وبراءة للذمة.
ومهما يكن من أمر فقد وقع الاختلاف بين القائلين بجواز المسح من حيث توقيته وكيفيته ممّا لا حاجة إلى ذكره.
والشيء الذي نودّ التنبيه عليه هو أنّ مسألة المسح على الخفين أصبح لها أثر في المجتمع الإسلامي، ممّا دعا إلى حجر الأفكار عن الخوض في صحتها، حتى ادعي أنّ روايتها متواترة، وأنّها ناسخة لكتاب الله، مع أنّها متقدمة على نزول الآية.
وكان مالك لا يرى جواز المسح على الخفين ولكنه يجيزه لأصحابه، وقد جعل إنكار المسح طعناً على الصحابة، ونسبتهم إلى الخطأ، ولهذا قال الكرخي: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين.
وأنّ المسح على الخفين من شرائط السنة، وقال أبو حنيفة: من شرائط السنة والجماعة تفضيل الشيخين، ومحبة الختنين، وأن ترى المسح على الخفين، وأن لا تحرّم نبيذ التمر.
وقال ابن العربي: إذا ثبت وجه التأويل في المسح على الخفين، فإنّهما أصل في الشريعة، وعلامة مفرقة بين أهل السنة والبدعة.
وذلك أنّ ابن العربي قد أوّل قراءة الخفض في أرجلكم، وهي قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) بكسر لام أرجلكم، إنّ ذلك لبيان أنّ الرجلين يمسحان حال الاختيار على حائل، وهما الخفان بخلاف سائر الأعضاء، فعطف بالنصب مغسولاً على مغسول ـ أي الوجه والأيدي ـ وعطف بالخفض ممسوحاً على ممسوح ـ أي الرأس والخفين ـ وصحّ المعنى.
وأنت ترى ما في هذا التأويل من البعد عن الحقّ، فالله سبحانه وتعالى يقول: رؤوسكم وأرجلكم وهم يقولون رؤوسكم ونعالكم.
وإنّ هذه القضية قد ارتكب فيها ما لا يتفق مع الحقيقة والواقع، إذ أصبحت بشكل يدعو إلى الاستغراب والتعجب، حتى ذهب بعضهم إلى لزوم الأخذ والالتزام بما يدل على مسح الخفين مهما كان، هو أفضل لأنّ فيه تأييداً للسنة وطعناً في البدعة.
قال ابن المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل المسح على الخفين أم نزعهما، وغسل القدمين؟ والذي أختاره أنّ المسح أفضل، لأجل من طعن فيه من أهل البدع والروافض، وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه.
فلا نستغرب إذاً عندما يدّعى إجماع الصحابة على جواز المسح من مخالفة أكثرهم، إن لم نقل كلّهم إلاّ فرداً نادراً.
وليس من الغريب على من يجوز نصر السنة ومحاربة البدعة ـ كما يقولون ـ مع مخالفة الواقع أن ينسب جواز المسح للإمام عليّ(عليه السلام) مع أنّ المقطوع به أنّه لايجوِّز ذلك، وكان ينكر على من يقول به.
ومن العجيب ارتكاب أعظم المخالفات في التفسير، لما ورد عن أبي اُمامة في صفة وضوء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما أخرجه أبو داود من أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمسح على المأقين، وهما مؤخر العين، ففسروا المأقين بالخفين حتى تكون فيه دلالة جواز المسح عليهما وأين المأقين من الخفين؟
والتحكم ظاهر إن تسامحنا في القول وإلاّ فهو اختلاق تمّ اللجوء إليه لمعالجة وضوح السياق الذي يناقض مدّعاهم. على أن من قلّدهم من الاُمة لم يتخلص من دلالة الصحة في قول من خالفهم، فيروى أنّ أحد علمائهم سئل عن الرجل يرى المسح على الخفين إلاّ أنّه يحتاط وينزع خفّيه عند الوضوء ولا يمسح عليهما؟ فقال: أحبُ إليّ أن يمسح على خفّيه إما لنفي التهمة عن نفسه أن يكون من الروافض، وإمّا لأنّ قوله تعالى: (وأرجُلَكُمْ) قرئ بالخفض والنصب، فينبغي أن يغسل حال عدم اللبس ويمسح على الخفين حال اللبس ليصير عاملاً بالقراءتين .
فانظر كيف تحمل الاُمة على الحرج وتدفع الى المشقة مكابرة وعناداً. وما أولى العلماء برفع الالتباس وبيان الغامض لا خلق الاختلاف والتلبيس وجعل الحرج في الدين والمشقة في أداء الفرائض (َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج).
هذه المسألة من المسائل التي وقع الخلاف فيها بين الشيعة وغيرهم من المذاهب، وقد تطوّرت الحالة حتى أصبح المسح على الخفين من علامة السنة، وعدمه من علامات البدعة، وأصبحت هذه المسألة من اُصول الاعتقاد.
ونحن نذكر ذلك بإيجاز.
قالت الشيعة، لا يجوز المسح على الخفين، أو الجورب مطلقاً، سواء في حضر أم سفر، لأنّ ذلك خلاف ما نزل به القرآن في بيان الوضوء، وهو قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) فأوجب تعالى إيقاع الفرض على ما يسمّى رِجلا والخف لا يسمى بذلك، كما أنّ العمامة لاتسمى رأساً.
كما أنّ الأخبار الواردة في ذلك لا تقابل دلالة الآية على وجوب المسح على الرجل، وعمدة ما في الباب هو حديث جرير بن عبدالله:
روى الجماعة أنّ جريراً بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له تفعل هكذا؟ قال: نعم رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بال ثم توضأ، ومسح خفيه، وقد أنكر المسح على الخفين جماعة من الصحابة، وكان علي(عليه السلام) يقول: سبق الكتاب المسح على الخفّين
وروى زرارة عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال، سمعته يقول: جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفيهم علي عليه الصلاة والسلام، فقال:ما تقولون في المسح على الخفين؟ فقام المغيرة بن شعبة وقال: رأيت رسول الله يمسح على الخفين. فقال علي(عليه السلام)قبل المائدة أو بعدها؟ فقال المغيرة: لا أدري. فقال علي(عليه السلام): إنما نزلت المائدة قبل أن يقبض النبيّ بشهرين أو ثلاثة.
وقال أبو الورد: قلت لأبي جعفر الباقر(عليه السلام): إنّ أبا ضبيان حدثني أنّه رأى علياً(عليه السلام)أراق الماء ثم مسح على الخفين، فقال(عليه السلام): كذب أبوضبيان... الحديث.
وروى إسحاق بن عمار عن الإمام الصادق(عليه السلام): النهي عن المسح على الخفين.
وعن الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن المسح على الخفّين فقال: لا تمسح وقال: إنّ جدي قال: سبق الكتاب.
فالشيعة الإمامية يذهبون ـ تبعاً للعترة الطاهرة ـ إلى عدم جواز المسح على الخفّين لما ذكرناه وما سيأتي بعد.
وقد وقع الاختلاف في هذه المسألة على أقوال:
1ـ الجواز مطلقاً سفراً وحضراً.
2ـ الجواز في السفر دون الحضر.
3ـ عدم الجواز بقول مطلق لعدم ثبوته في الدين، وأنّ القرآن على خلافه، وعلى كل حال فإنّ الاختلاف في هذه المسألة وقع في الصدر الأول، فمنهم من يرى عدم مشروعية المسح على الخفّين، وما يُروى في ذلك معارض لآية الوضوء، وهي متأخرة عمّا يُروى في ذلك، ولم تكن منسوخة إذ المائدة لم تنسخ منها آية واحدة.
وكان في طليعة المنكرين لذلك الإمام(عليه السلام) وكفى بذلك ردّاً للمدّعي، إذ هو باب مدينة علم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أعرف الناس بما يصدر عن الرسول، لملازمته إياه في حضره وسفره، ولما سئلت عائشة عن المسح على الخفّين قالت: سلوا علياً فإنّه كان أكثر سفراً مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ثبت عن علي (عليه السلام)أنّه كان ينهى عن المسح على الخفّين.
وكذلك حبر الاُمة عبد اللّه بن عباس، فقد ورد عنه أنّه كان يقول: لئن أمسح على جلد حمار أحبّ إليَّ من أن أمسح على الخفّين.
وكانت عائشة تنكر المسح على الخفّين أشدّ الإنكار وتقول: لئن تقطع قدماي أحبّ إليَّ من أن أمسح على الخفّين، وفي لفظ: لئن أقطع رجلي أحبّ إليَّ من أن أمسح عليهما.
وكان ابن عمر يخالف الناس في المسح على الخفين، وإن ادعى أنّه رجع عن ذلك قبل موته فهي دعوى لم تثبت.
وسئل ابن عباس: هل مسح رسول اللّه على الخفّين؟ فقال: واللّه ما مسح رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على الخفّين بعد نزول المائدة، ولئن أمسح على ظهر عير في الفلاة أحبّ إليَّ من أن أمسح على الخفين، وفي رواية: لئن أمسح على جلد حمار أحبّ إليَّ من أن أمسح على الخفّين.
وقد روي عن مالك بن أنس في العتيبية ما ظاهره المنع من المسح على الخفين. وقال الشيخ أبو بكر في شرح المختصر الكبيرإنّه روي عن مالك: لايمسح المسافر ولا المقيم، وكذلك روي عن ابن وهب في النوادر عن مالك أنّه قال: لا مسح في سفر ولا حضر، ويقال إنّ منعه كان على وجه الكراهية لما لم ير أهل المدينة يمسحون، ثم رأى الآثار فأباح المسح على الإطلاق.
وعلى كلّ حال: فإنّ فعل جرير واستنكار الناس عليه عندما مسح على الخفين، يؤيّد أنّ هذا لم يكن معهوداً، ومثله يلزم أن يكون مشهوراً شهرة عظيمة، لا تخفى على الأكثرين.
وإنّ ما ذهبت إليه الشيعة في عدم الجواز مطلقاً هو الموافق لكتاب الله، ومبرئ للذمة، لأنّ المسح على الخفين لايصدق عليه مسحاً على الرجلين لا لغة ولا شرعاً، كما أنّ العمامة لا تسمّى رأساً، والبرقع لا يسمى وجهاً، وما يقال في الاحتجاج بصحة القول: وطأت كذا برجلي. وإن كان لابساً للخفّ فإنّ ذلك مجاز واتساع بلا خلاف. والمجاز لا يحمل عليه الكتاب، إلاّ بدليل ظاهر.
وقد صحّ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه لم يمسح على خفيه، وربّما وقع اشتباه من الراوي في مسحه(صلى الله عليه وآله وسلم) على رجله، وهو لابس للحذاء، الذي لا يمنع من المسح، وإن كان هذا بعيداً، لأنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مشرّع ووضوؤه لابد أن يأتي بصورة أكمل وبيان أفضل.
ثمّ إنّ الوضوء لم يكن من الأعمال التي يمكن أن تخفى لكثرة تردده واستعماله حتى يختصّ جرير بن عبد الله بهذا الحكم، ويتفرد بهذا البيان كما تقدم.
وعلى كلّ حال فالشيعة لم تنفرد بالمنع، ولم يستدلوا في هذا الحكم بغير الكتاب وسنة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكفى بذلك أمناً من العقاب وبراءة للذمة.
ومهما يكن من أمر فقد وقع الاختلاف بين القائلين بجواز المسح من حيث توقيته وكيفيته ممّا لا حاجة إلى ذكره.
والشيء الذي نودّ التنبيه عليه هو أنّ مسألة المسح على الخفين أصبح لها أثر في المجتمع الإسلامي، ممّا دعا إلى حجر الأفكار عن الخوض في صحتها، حتى ادعي أنّ روايتها متواترة، وأنّها ناسخة لكتاب الله، مع أنّها متقدمة على نزول الآية.
وكان مالك لا يرى جواز المسح على الخفين ولكنه يجيزه لأصحابه، وقد جعل إنكار المسح طعناً على الصحابة، ونسبتهم إلى الخطأ، ولهذا قال الكرخي: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين.
وأنّ المسح على الخفين من شرائط السنة، وقال أبو حنيفة: من شرائط السنة والجماعة تفضيل الشيخين، ومحبة الختنين، وأن ترى المسح على الخفين، وأن لا تحرّم نبيذ التمر.
وقال ابن العربي: إذا ثبت وجه التأويل في المسح على الخفين، فإنّهما أصل في الشريعة، وعلامة مفرقة بين أهل السنة والبدعة.
وذلك أنّ ابن العربي قد أوّل قراءة الخفض في أرجلكم، وهي قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) بكسر لام أرجلكم، إنّ ذلك لبيان أنّ الرجلين يمسحان حال الاختيار على حائل، وهما الخفان بخلاف سائر الأعضاء، فعطف بالنصب مغسولاً على مغسول ـ أي الوجه والأيدي ـ وعطف بالخفض ممسوحاً على ممسوح ـ أي الرأس والخفين ـ وصحّ المعنى.
وأنت ترى ما في هذا التأويل من البعد عن الحقّ، فالله سبحانه وتعالى يقول: رؤوسكم وأرجلكم وهم يقولون رؤوسكم ونعالكم.
وإنّ هذه القضية قد ارتكب فيها ما لا يتفق مع الحقيقة والواقع، إذ أصبحت بشكل يدعو إلى الاستغراب والتعجب، حتى ذهب بعضهم إلى لزوم الأخذ والالتزام بما يدل على مسح الخفين مهما كان، هو أفضل لأنّ فيه تأييداً للسنة وطعناً في البدعة.
قال ابن المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل المسح على الخفين أم نزعهما، وغسل القدمين؟ والذي أختاره أنّ المسح أفضل، لأجل من طعن فيه من أهل البدع والروافض، وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه.
فلا نستغرب إذاً عندما يدّعى إجماع الصحابة على جواز المسح من مخالفة أكثرهم، إن لم نقل كلّهم إلاّ فرداً نادراً.
وليس من الغريب على من يجوز نصر السنة ومحاربة البدعة ـ كما يقولون ـ مع مخالفة الواقع أن ينسب جواز المسح للإمام عليّ(عليه السلام) مع أنّ المقطوع به أنّه لايجوِّز ذلك، وكان ينكر على من يقول به.
ومن العجيب ارتكاب أعظم المخالفات في التفسير، لما ورد عن أبي اُمامة في صفة وضوء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما أخرجه أبو داود من أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمسح على المأقين، وهما مؤخر العين، ففسروا المأقين بالخفين حتى تكون فيه دلالة جواز المسح عليهما وأين المأقين من الخفين؟
والتحكم ظاهر إن تسامحنا في القول وإلاّ فهو اختلاق تمّ اللجوء إليه لمعالجة وضوح السياق الذي يناقض مدّعاهم. على أن من قلّدهم من الاُمة لم يتخلص من دلالة الصحة في قول من خالفهم، فيروى أنّ أحد علمائهم سئل عن الرجل يرى المسح على الخفين إلاّ أنّه يحتاط وينزع خفّيه عند الوضوء ولا يمسح عليهما؟ فقال: أحبُ إليّ أن يمسح على خفّيه إما لنفي التهمة عن نفسه أن يكون من الروافض، وإمّا لأنّ قوله تعالى: (وأرجُلَكُمْ) قرئ بالخفض والنصب، فينبغي أن يغسل حال عدم اللبس ويمسح على الخفين حال اللبس ليصير عاملاً بالقراءتين .
فانظر كيف تحمل الاُمة على الحرج وتدفع الى المشقة مكابرة وعناداً. وما أولى العلماء برفع الالتباس وبيان الغامض لا خلق الاختلاف والتلبيس وجعل الحرج في الدين والمشقة في أداء الفرائض (َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج).
تعليق