بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم الرسل وسيد الانام وعلى آله السادة الكرام واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين من الاولين الى قيام يوم الدين .
ان القاضي الذي جعل لنفسه مجلس القضاء فلابد ان يتحلى بأمور صورها أمير المؤمنين (عليه السلام) ومنهجها وهي:
1ـ المساواة في القضاء
يجب أن يتساوى المدعي والمدّعى عليه حتى لا يشعر أحد الطرفين بالغبن، فتضعف حجته، وقد ضرب أمير المؤمنين (عليه السلام) أروع الأمثلة في المساواة فقد ساوى بين شخصه واليهودي الذي نازعه في الدرع في القصة المشهورة واقر قضاته بأن يساووا بين الخصمين ذاكراً العلّة أيضا في ذلك، فيقول لأحدهم (واس بينهم في اللحظة والنظرة والاشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك).
وكتب إلى شريح قاضيه: (ثمّ واسي بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوّك من عدلك)
واكثر أهمية من ذلك هو المساواة بين افراد المجتمع امام القضاء، وقد ضرب أمير المؤمنين (عليه السلام) أروع الصور في المساواة عندما عاتب خازن بيت المال علي بن ابي رافع لمّا أعطى إحدى بناته عقد لؤلؤ كعارية مضمونة فقال له: (لو كانت أخذت العقد على غير عارية مضمونة لكانت اذاً أول هاشمية قطعت يدها في سرقة) فاذا كان الحاكم لا يفرق بين الإنسان العادي وأحد أولاده في تنفيذ الاحكام فهو الحاكم الجدير بحكم البلاد، لانه سيسعد شعبه بتطبيق العدالة بينهم وتحقيق المساواة:
2ـ تدقيق القاضي وعدم الاسراع في إصدار الحكم
يجب على القاضي أن لا يسرع وان يتفحص الشهود بتمعّن ويستمع إلى اقوالهم وأقوال الخصمين بدقة، لأنّ إهمال نقطة صغيرة قد يؤدي إلى كارثة، وهذا حقٌ مسلم لكلا الخصمين، فالعجلة والسرعة تؤديان حتماً إلى هضم الحقوق.
نضرب مثالين عن دقة أمير المؤمنين (عليه السلام) وتأنيه وعدم اسراعه في إصدار الحكم:
المثال الأول: نقله العامة والخاصة، ومفاده أن امرأة نكحها شيخٌ كبير فحملت فزعم الشيخ انه لم يصل اليها، وأنكر حملها منه، فالتبس الأمر على عثمان، وسأل المرأة: هل افتضّك الشيخ: وكانت بكراً، قالت: لا، فقال عثمان: أقيموا الحد عليها، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : (إن للمرأة سمّين، سمّ للمحيض وسمّ للبول، فلعلّ الشيخ كان ينال منها فسال ماؤه في سم المحيض فحملت، فاسألوا الرجل عن ذلك. فسئل فقال: قد كنت أنزل الماء في قبلها من غير وصول إليها بالافتضاض، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (الحمل له والولد ولده، وأرى عقوبته في الانكار) فصار عثمان إلى قضائه بذلك. ولولا تدقيق الإمام في هذه القضية لكان قد حكم على المرأة بالزنى.
المثال الثاني: روي أن امرأة هوت غلاماً فدعته إلى نفسها فامتنع الغلام، فمضت وأخذت بيضة وألقت بياضها على ثوبها، ثم علقت بالغلام ورفعته إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقالت: إن هذا الغلام كابرني على نفسي وقد فضحني، ثم أخذت ثيابها فأرت بياض البيض وقالت: ماؤه على ثوبي، فجعل الغلام يبكي ويتبرأ مما أدعته ويحلف. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لقنبر: من يغلي ماءاً حتى تشتد حراراته، ثم لتأتني به على حاله، فجيء بالماء فقال: ألقوه على ثوب المرأة، فألقوه عليه، فاجتمع بياض البيض والتأم، فأمر بأخذه ودفعه إلى رجلين من اصحابه، فقال: تطعماه والفظاه فطعـــماه فوجداه بيضا، فأمــــر بتخلية الغـــلام وجلد المرأة عقوبة على ادعائها الباطل.
فلو لا تدقيق الإمام وتأنيه واخذه للفرصة الكافية للتحقيق لكانت تهمة الزنى ثابتة على الغلام من خلال القرائن والظواهر.
3ـ مبدأ علنية جلسات المحاكمة
وهو مبدأ عام في النظام القضائي المعاصر، وهو أيضا حق قضائي لصالح المتهم، سيّما إذا كانت الدولة هي المدّعى عليها، فالقاضي يستطيع أن يتلاعب بالاحكام كيفما يشاء، ولضمان قضاء عادل طالبت الدساتير باجراء المحاكمات العلنية لكي تفوّت الفرصة امام الاغراض الخاصة لبعض القضاة.
كما وأقرّ الاعلان العالمي لحقوق الإنسان مبدأ علنية جلسات المحاكمة، فكل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانونياً بمحاكمة علنية تؤمّن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه.
وكانت تجري المحاكمات في العهد الإسلامي بصورة علنية، وكان لأمير المؤمنين (عليه السلام) مكان خاص في مسجد الكوفة يجلس فيه للقضاء.
وعند تتبع سير القضاء في العهود الإسلامية المختلفة تجد أنه كان يجري علناً بين الناس حتى يأخذ الآخرون العبرة منه.
وكان عليه السلام يعظ الناس وينصحهم أثناء المرافعة، وهذه الحكاية شاهدٌ على ذلك: حدث في زمن عمر أن غلاماً طلب مال ابيه من عمر، وذكر أنّ والده كوفيّ بالكوفة، والولد طفلٌ بالمدينة، فصاح في وجهه عمر وطرده، فخرج يتظلّم منه فلقيه علي (عليه السلام) وقال: (ائتوني به إلى الجامع حتى اكشف أمره فجاءوا به، فسأله عن حاله، فأخبره بخبره، فقال (عليه السلام) : لاحكمن فيكم بحكومة حكم الله بها من فوق سبع سماواته، لا يحكم بها إلا من ارتضاه لعلمه ثم استدعـــى بعض أصحابـــه وقال: هــــات بحجـــر منه، ثمّ قال: سيروا بنا إلى قبر والد الصبي.. إلى آخر القصة.
وإذا ما دققنا في حكاية المرأة التي زنت وطلبت من الإمام أن يطهّرها، والرجل اللاطي الذي طلب من الإمام تطهيره، لتبيّن لنا ـ بما لا يدع مجالاً للشك ـ أن هاتين الحكايتين وقعتا وسط الناس، وفي مكان عام، والطريف في الأمر أن بعض الفقهاء قالوا بكراهة اقامة القضاء في المسجد، لكن بعضهم الآخر استدلّ بعمل أمير المؤمنين (عليه السلام) على عدم الكراهية.
فيذكر المحقق الحلي من المكروهات: (وان يتخذوا المسجد مجلساً للقضاء دائماً، ولا يكره لو اتفق نادراً، وقيل: لا يكره مطلقاً التفاتاً إلى ما عرف من قضاء علي (عليه السلام) بجامع الكوفة وقد ذكر الفقهاء في آداب القضاء استحباب حضور أهل العلم إلى مجلس القضاء لتصويب القاضي إذا أخطأ، فهؤلاء يشكلون عيوناً على القضاء في الاماكن الخاصة لأنها تكون بعيدة عن أعين الناس وسمعهم، فقد بلغ أمير المؤمنين عليه السلام أن شريحاً يقضي في بيته، فقال: (يا شريح، اجلس في المسجد فإنه أعدل بين الناس، وانه وهنٌ بالقاضي أن يجلس في بيته) لأن المحاكمة في البيت ستكون أشبه بالمحاكمة السرية، وسيكون بمقدور القاضي أن يحكم بما يشاء، فتوجّه إليه الاتهامات، وقد أورد الحر العاملي باباً في كتابه تحت عنوان (كان علي(ع) يقضي بين الناس في الاماكن العامة) .
4ـ مبدأ حرية الدفاع
وهو مبدأ أقرته الدساتير الحديثة، ولم تعرف البشرية هذا الحق إلا عند أمير المؤمنين (عليه السلام) .
روي أن امرأة شهد عليها الشهود أنهم وجدوها مع رجل يطؤها ليس ببعل لها، فأمر عمر برجمها وكانت ذات بعل، فقالت: اللهم إنك تعلم أني بريئة، فغضب عمر وقال: وتجرح الشــهود أيضا؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (ردّوها واسألوها فلعلّ لها عذراً، فرُدّت) وسُئلت عن حالها، فقالت: كان لأهلي إبلٌ فخرجت في إبل أهلي وحملت معي ماءً، ولم يكن في إبل أهلي لبن، وخرج معي خليطنا وكان في إبله لبن، فنفد مائي فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أمكنه من نفسي، فأبيت، فلمّا كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي كرهاً، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : الله اكبر (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) البقرة/ 173، فلما سمع ذلك عمر خلّى سبيلها.
وهذه الحكاية تؤكد بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الذي استحدث هذا المبدأ، لأن العرف السائد هو اعتماد رأي الشهود مع وجود الأدلة، فالمؤشرات تدلّ أن المرأة قد زنت، وجاء الشهود ليشهدوا بذلك وقد أخذ عمر بالعرف السائد في مثل هذه القضايا فحكم عليها بالرجم ورفض أن يسمع طعنها في الشهود، لكن مع تطبيق مبدأ حرية المتهم في الدفاع عن نفسه تغيّر كل شيء، حيث ثبت عن دفاع المرأة أنها كانت مجبرة، ولا حدّ على المضطرّ.
تعليق