بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى:
هناك بعض الإشكالات التي قد تُثار حول نظريّة الفيض الإلهي على هذا العالم وأنّه يحتاج في كلّ لحظة وفي كلّ آنٍ إلى فيض إلهيّ لكي يستمرّ.
فهناك من يقول ـ وبالذات الاتّجاهات الفلسفيّة المعاصرة ـ بأنّ نظريّة الفيض قد تكون بديلاً لنظريّة السبب والمسبّب أو العلّة والمعلول، فكيف يمكن التوفيق بين القولين؟ بمعنى هل تكون نظريّة الفيض فعلاً لاغية للأسباب والمسبّبات الطبيعيّة للسنن والقوانين الطبيعيّة؟
والإجابة عن هذه الإشكاليّة نقول:
إنّ القرآن الكريم يصنّف ويقسِّم القوانين التي تحكم عالم الوجود إلى قسمين:
أوّلاً: القوانين التي تحكم عالم المادّة.
ثانياً: القوانين التي تحكم عالم الوجود العامّ الذي هو أعمّ من المادّة، وعالم ما وراء المادّة. ويعبّر عن القوانين التي تحكم عالم الوجود وبضمنها العالم المادّي في القرآن الكريم بالسنن، فنحن لا نجد تعبير القانون في القرآن وإنّما نجد بديلاً عنه وهو التعبير بالسنّة أو السنن، وهذا ما ورد في صريح القرآن في قوله تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)(1) (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)(2). فإنّ السنن الإلهيّة والقوانين الطبيعيّة وغير الطبيعيّة بمقتضى هاتين الآيتين وبشرائط خاصّة لا تتخلّف ولن تتخلّف.
فمثلاً: عندما جعل الله سبحانه وتعالى النار تحرق، فهذا قانون، كذا إذا تحقّقت الشرائط الكذائيّة فالعين السليمة تبصر، وأيضاً إذا تحقّقت الشرائط الكذائيّة الأخرى فإنّ الماء ينتقل ويكون سحاباً ثمّ يكون مطراً، وهكذا سائر القوانين التي تحكم عالمنا المشهود، فهذه كلّها تدخل في إطار القوانين التي قال عنها القرآن الكريم (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً).
وهنا نشير إلى مسألة عرضيّة خارجة عن بحثنا وهي كيفيّة التوفيق بين المعجزة وبين هذه القوانين التي تحكم عالم المادّة؟
فمثلاً: الخشبة لا يمكن أن تكون أفعى، ولكن القرآن الكريم يقول بأنّ عصى موسى صارت حيّة تسعى، فكيف نوفّق بين هذين القانونين؟
ولهذا قلنا في المقدّمة بأنّه يوجد لدينا قسمان أو سنخان من القوانين، فهناك قوانين الوجود العامّة، وهناك قوانين لعالم المادّة. والقانون الموجود في عالم المادّة قد يخرمه الله سبحانه وتعالى ولكن ضمن القوانين التي تحكم عالم الوجود وليس خارجها، فالمعجزة ليست خارج قوانين العالم وسنن الله تعالى، بل هي خاضعة لتفسير العلّية والمعلوليّة والسنن الكونيّة، وهذه المسألة ليست مورد بحثنا...وعلى كلّ حال فإنّ نظريّة الفيض يُراد منها بيان أنّ هذه النار تريد أن تُحرق، والذي يُحرق هو النار، ولكن هذه النار تُحرق ما دام الله يفيض عليها الوجود، أمّا إذا قطع الله تعالى عنها الوجود فإنّه ليس فقط أنّها لا تكون مُحرقة بل تُعدم ولا يبقى منها شيء.ولتقريب المسألة إلى الذهن من خلال الصور الذهنيّة نضرب مثلاً:
إذا تصوّرت في ذهنك إنساناً له خمسة رؤوس، فإنّ هذا الإنسان (صاحب الخمسة رؤوس) يبقى في ذهنك ما دمت ملتفتاً إليه، وأمّا إذا لم تعد ملتفتاً إليه فلا يبقى في الذهن ولا تبقى له صورة أيضاً، وهكذا فإنّ الله تعالى مادام يُفيض الوجود على النار فهي تقوم بعمليّة الإحراق، أمّا إذا قطع عنها الفيض ـ كما لو أنّنا قطعنا الالتفات إلى الصورة ـ فلا تبقى نار حتّى تحرق.
فإذا كانت نظريّة الفيض تفيد بأنّ الله سبحانه وتعالى يعطي الوجود في كلّ آن آن، فهذا لا يتنافى مع ما جعله الله سبحانه وتعالى في القوانين والسُّنن التي تحكم النار وهي في عالم المادّة.
ونحن لا نريد أن نقول بمقولة الأشاعرة من أنّ هذه النار لا تبقى آثارها والله تعالى يعطّل مفعولها، بل نقول بأنّ الذي يحرق هو النار ولكن بإذنه تعالى الذي خلقها وأوجدها إذا أراد لها أن لا تكون محرقة فإنّه يقطع عنها الوجود، فإذا قطع عنها الوجود تكون عدماً، وتكون بتعبير المناطقة سالبة بانتفاء الموضوع لا سالبة بانتفاء المحمول. فالقوانين والسنن الكونيّة التي يلزم الانخرام فيها هي التي إذا قلنا بأنّها سالبة بانتفاء المحمول؛ أي القول بأنّ النار موجودة ولكنّها لا تحرق، فهذا يعتبر خرماً للقوانين والسنن الموجودة في هذا العالم، فكما أنّ العين إذا كانت سليمة والشرائط كلّها متوافرة والموانع مرتفعة ولكن مع ذلك تأخذ هذه الورقة أمام العين فلا تراها فإنّ هذا يعتبر خرماً وخرقاً للقوانين الطبيعيّة، وهذا ما لا يمكن أن يتحقّق، وهذا ما يقوله المتكلِّمون، أمّا وفقاً لما نقوله فإنّه إذا توفّر الإبصار الصحيح بشروطه وعدم موانعه فلابدّ أن تتحقّق الرؤية؛ لأنّ الله تعالى جعلها هكذا، إلاّ إذا انعدم البصر أو انعدمت العين ولم تعد موجودة، أو إذا لم تتوفّر الشرائط ولم ترتفع الموانع فحينئذ لا يكون هناك بصر ورؤية، وما قلناه بالنسبة إلى المتكلّمين فإنّما هو رأي الأشاعرة، أمّا المعتزلة فلهم رأي آخر حيث يقبلون بقانون العلّية كما هو عند الإماميّة
(1)الأحزاب:62،وفاطر:43.
(2)الفتح: 23.
والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى:
هناك بعض الإشكالات التي قد تُثار حول نظريّة الفيض الإلهي على هذا العالم وأنّه يحتاج في كلّ لحظة وفي كلّ آنٍ إلى فيض إلهيّ لكي يستمرّ.
فهناك من يقول ـ وبالذات الاتّجاهات الفلسفيّة المعاصرة ـ بأنّ نظريّة الفيض قد تكون بديلاً لنظريّة السبب والمسبّب أو العلّة والمعلول، فكيف يمكن التوفيق بين القولين؟ بمعنى هل تكون نظريّة الفيض فعلاً لاغية للأسباب والمسبّبات الطبيعيّة للسنن والقوانين الطبيعيّة؟
والإجابة عن هذه الإشكاليّة نقول:
إنّ القرآن الكريم يصنّف ويقسِّم القوانين التي تحكم عالم الوجود إلى قسمين:
أوّلاً: القوانين التي تحكم عالم المادّة.
ثانياً: القوانين التي تحكم عالم الوجود العامّ الذي هو أعمّ من المادّة، وعالم ما وراء المادّة. ويعبّر عن القوانين التي تحكم عالم الوجود وبضمنها العالم المادّي في القرآن الكريم بالسنن، فنحن لا نجد تعبير القانون في القرآن وإنّما نجد بديلاً عنه وهو التعبير بالسنّة أو السنن، وهذا ما ورد في صريح القرآن في قوله تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)(1) (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)(2). فإنّ السنن الإلهيّة والقوانين الطبيعيّة وغير الطبيعيّة بمقتضى هاتين الآيتين وبشرائط خاصّة لا تتخلّف ولن تتخلّف.
فمثلاً: عندما جعل الله سبحانه وتعالى النار تحرق، فهذا قانون، كذا إذا تحقّقت الشرائط الكذائيّة فالعين السليمة تبصر، وأيضاً إذا تحقّقت الشرائط الكذائيّة الأخرى فإنّ الماء ينتقل ويكون سحاباً ثمّ يكون مطراً، وهكذا سائر القوانين التي تحكم عالمنا المشهود، فهذه كلّها تدخل في إطار القوانين التي قال عنها القرآن الكريم (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً).
وهنا نشير إلى مسألة عرضيّة خارجة عن بحثنا وهي كيفيّة التوفيق بين المعجزة وبين هذه القوانين التي تحكم عالم المادّة؟
فمثلاً: الخشبة لا يمكن أن تكون أفعى، ولكن القرآن الكريم يقول بأنّ عصى موسى صارت حيّة تسعى، فكيف نوفّق بين هذين القانونين؟
ولهذا قلنا في المقدّمة بأنّه يوجد لدينا قسمان أو سنخان من القوانين، فهناك قوانين الوجود العامّة، وهناك قوانين لعالم المادّة. والقانون الموجود في عالم المادّة قد يخرمه الله سبحانه وتعالى ولكن ضمن القوانين التي تحكم عالم الوجود وليس خارجها، فالمعجزة ليست خارج قوانين العالم وسنن الله تعالى، بل هي خاضعة لتفسير العلّية والمعلوليّة والسنن الكونيّة، وهذه المسألة ليست مورد بحثنا...وعلى كلّ حال فإنّ نظريّة الفيض يُراد منها بيان أنّ هذه النار تريد أن تُحرق، والذي يُحرق هو النار، ولكن هذه النار تُحرق ما دام الله يفيض عليها الوجود، أمّا إذا قطع الله تعالى عنها الوجود فإنّه ليس فقط أنّها لا تكون مُحرقة بل تُعدم ولا يبقى منها شيء.ولتقريب المسألة إلى الذهن من خلال الصور الذهنيّة نضرب مثلاً:
إذا تصوّرت في ذهنك إنساناً له خمسة رؤوس، فإنّ هذا الإنسان (صاحب الخمسة رؤوس) يبقى في ذهنك ما دمت ملتفتاً إليه، وأمّا إذا لم تعد ملتفتاً إليه فلا يبقى في الذهن ولا تبقى له صورة أيضاً، وهكذا فإنّ الله تعالى مادام يُفيض الوجود على النار فهي تقوم بعمليّة الإحراق، أمّا إذا قطع عنها الفيض ـ كما لو أنّنا قطعنا الالتفات إلى الصورة ـ فلا تبقى نار حتّى تحرق.
فإذا كانت نظريّة الفيض تفيد بأنّ الله سبحانه وتعالى يعطي الوجود في كلّ آن آن، فهذا لا يتنافى مع ما جعله الله سبحانه وتعالى في القوانين والسُّنن التي تحكم النار وهي في عالم المادّة.
ونحن لا نريد أن نقول بمقولة الأشاعرة من أنّ هذه النار لا تبقى آثارها والله تعالى يعطّل مفعولها، بل نقول بأنّ الذي يحرق هو النار ولكن بإذنه تعالى الذي خلقها وأوجدها إذا أراد لها أن لا تكون محرقة فإنّه يقطع عنها الوجود، فإذا قطع عنها الوجود تكون عدماً، وتكون بتعبير المناطقة سالبة بانتفاء الموضوع لا سالبة بانتفاء المحمول. فالقوانين والسنن الكونيّة التي يلزم الانخرام فيها هي التي إذا قلنا بأنّها سالبة بانتفاء المحمول؛ أي القول بأنّ النار موجودة ولكنّها لا تحرق، فهذا يعتبر خرماً للقوانين والسنن الموجودة في هذا العالم، فكما أنّ العين إذا كانت سليمة والشرائط كلّها متوافرة والموانع مرتفعة ولكن مع ذلك تأخذ هذه الورقة أمام العين فلا تراها فإنّ هذا يعتبر خرماً وخرقاً للقوانين الطبيعيّة، وهذا ما لا يمكن أن يتحقّق، وهذا ما يقوله المتكلِّمون، أمّا وفقاً لما نقوله فإنّه إذا توفّر الإبصار الصحيح بشروطه وعدم موانعه فلابدّ أن تتحقّق الرؤية؛ لأنّ الله تعالى جعلها هكذا، إلاّ إذا انعدم البصر أو انعدمت العين ولم تعد موجودة، أو إذا لم تتوفّر الشرائط ولم ترتفع الموانع فحينئذ لا يكون هناك بصر ورؤية، وما قلناه بالنسبة إلى المتكلّمين فإنّما هو رأي الأشاعرة، أمّا المعتزلة فلهم رأي آخر حيث يقبلون بقانون العلّية كما هو عند الإماميّة
(1)الأحزاب:62،وفاطر:43.
(2)الفتح: 23.
تعليق