- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة/104]
تفسير الأمثل - مكارم الشيرازي - (ج 1 / ص 324)
روي عن ابن عباس أنه قال: إن الصحابة كانوا يطلبون من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لدى تلاوته الآيات وبيانه الأحكام الإِلهية أن يتمهّل في حديثه حتى يستوعبوا ما يقوله، وحتى يعرضوا عليه أسئلتهم، وكانوا يستعملون لذلك عبارة: «راعنا» أي أمهلنا. واليهود حوّروا معنى هذه الكلمة لتكون من «الرعونة» فتكون راعنا بمعنى اجعلنا رعناء، واتخذوا ذلك وسيلة للسخرية من النّبي والمسلمين.
الآية تطلب من المسلمين أن يقولوا «انْظُرْنَا» بدلا من «رَاعِنَا» لسد الطريق أمام طعن الأعداء.
وقال بعض المفسرين: إنّ عبارة «رَاعِنَا» في كلام اليهود سبّة تعني «اسمع ولمّا تسمع»، وكانوا يرددون هذه العبارة مستهزئين!.
وقيل إن اليهود كانوا يقولون بدلا من رَاعِنَا «راعينا» = (راعي + نا)ويخاطبون بذلك النّبي ساخرين. وليس بين هذه العلل المذكورة لنزول الآية الكريمة تناقض، فقد تكون بأجمعها صحيحة.
التّفسير
لا توفّروا للأعداء فرصة الطعن:
الآية الكريمة تخاطب المسلمين قائلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
ممّا سبق من سبب نزول هذه الآية الكريمة نستنتج أنّ على المسلمين أن لا يوفروا للأعداء فرصة الطعن بهم، وأن لا يتيحوا لهم بفعل أو قول ذريعة يسيئون بها إلى الجماعة المسلمة. عليهم أن يتجنبوا حتى ترديد عبارة يستغلها العدوّ لصالحه. الآية تصرّح بالنهي عن قول عبارة تمكن الأعداء أن يستثمروا أحد معانيها لتضعيف معنويات المسلمين، وتأمرهم باستعمال كلمة اُخرى غير تلك الكلمة القابلة للتحريف ولطعن الأعداء.
حين يشدّد الإِسلام إلى هذا الحد في هذه المسألة البسيطة، فإن تكليف المسلمين في المسائل الكبرى واضح، عليهم في مواقفهم من المسائل العالمية أن يسدوا الطريق أمام طعن الأعداء، وأن لا يفتحوا ثغرة ينفذ منها المفسدون الداخليون والأجانب للإِساءة إلى سمعة الإِسلام والمسلمين.
جدير بالذكر أن عبارة راعنا ـ إضافة إلى ما فيها من معنى آخر استغله اليهود ـ فيها نوع من سوء الأدب، لأنّها من باب المفاعلة، وباب المفاعلة يفيد المبادلة والإِشتراك، وهي لذلك تعني: راعنا لنراعيك، وقد نهى القرآن عن ترديدها
الآية التالية تكشف عن حقيقة ما يكنّه مجموعة من أهل الكتاب والمشركين من حقد وعداء للجماعة المؤمنة: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِنْ رَبِّكُمْ)، وسوآء ودّ هؤلاء أم لم يودّوا فرحمة الله لها سنّة إلهية ولا تخضع للميول والأهواء: (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) .
الحاقدون لم يطيقوا أن يروا ما شمل الله المسلمين من فضل ونعمة، وما منّ عليهم من رسالة عظيمة، ولكن فضل الله عظيم.
بحوث
مغزى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)
أكثر من ثمانين موضعاً خاطب الله المسلمين في كتابه الكريم بهذه العبارة، وكل هذه المواضع من القرآن الكريم نزلت في المدينة، ولا وجود لهذه العبارة في الآيات المكية، ولعل ذلك يعود إلى تشكل الجماعة المسلمة في المدينة، وإلى ظهور المجتمع الإِسلامي بعد الهجرة. ولذلك خاطب الله الجماعة المؤمنة بعبارة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).
وهذا الخطاب يتضمن إشارة إلى ميثاق التسليم الذي عقدته الجماعة المسلمة مع ربّها بعد الإيمان به، وهذا الميثاق يفرض على الجماعة الطاعة والإِنصياع لأوامر ربّ العالمين، والإِستجابة لما يأتي بعد هذه العبارة من أحكام.
جدير بالذكر أن كثيراً من المصادر الإِسلامية بما في ذلك مصادر أهل السنة، روت عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «مَا أَنْزَلَ اللهُ آيَةً فِيهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلاَّ وَعَلِيٌّ رَأْسُهَا وَأَمِيرُهَا»
بحار الأنوار - العلامة المجلسي - (ج 9 / ص 331)
قوله عزوجل: " يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم " قال الامام عليه السلام: قال: موسى بن جعفر عليهما السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لما قدم المدينة وكثر حوله المهاجرون والانصار وكثرت عليه المسائل وكانوا يخاطبونه بالخطاب الشريف العظيم الذي يليق به صلى الله عليه وآله، وذلك أنالله تعالى كان قال لهم " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " وكان رسول الله صلى الله عليه وآله بهم رحيما، وعليهم عطوفا، وفي إزالة الآثام عنهم مجتهدا،حتى أنه كان ينظر إلى كل من كان يخاطبه فيعمل على أن يكون صوته مرتفعا على صوته ليزيل عنه ما توعده الله به من إحباط أعماله، حتى أن رجلا أعرابيا ناداه يوما وهو خلف حائط بصوت له جهوري: يا محمد، فأجابه صلى الله عليه وآله بأرفع من صوته، يريد أن لا يأثم الاعرابي بارتفاع صوته، فقال له الاعرابي: أخبرني عن التوبة إلى متى تقبل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أخا العرب إن بابها مفتوح لابن آدم لا ينسد حتى تطلع الشمس من مغربها، وذلك قوله تعالى: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك " وهو طلوع الشمس من مغربها " لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ". وقال موسى بن جعفر عليهما السلام: فكانت هذه اللفظة: " راعنا من ألفاظ المسلمين الذين يخاطبون بها رسول الله صلى الله عليه وآله يقولون: راعنا، أي أرع أحوالنا واسمع منا نسمع منك،وكان في لغة اليهود: اسمع لا سمعت، فلما سمع اليهود المسلمين يخاطبون بها رسول الله يقولون: راعنا ويخاطبون بها قالوا: كنا نشتم محمدا صلى الله عليه وآله إلى الآن سرا فتعالوا الآن نشتمه جهرا، وكانوا يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وآله ويقولون: راعنا،يريدون شتمه، فتفطن لهم سعد بن معاذ الانصاري فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، أراكم تريدون سب رسول الله توهمونا أنكم تجرون في مخاطبته مجرانا والله لا سمعتها من أحد منكم إلا ضربت عنقه، ولولا أني أكره أن أقدم عليكم قبل التقدم والاستيذان له ولاخيه ووصيه علي بن أبي طالب عليه السلام القيم بامور الامة نائبا عنه لضربت عنق من قد سمعته منكم يقول هذا، فأنزل الله تعالى: يا محمد " من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا " وأنزل: " يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم " لا تقولوا: راعنا فإنها لفظة يتوصل بها أعداؤكم من اليهود إلى سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسبكم وشتمكم، وقولوا: انظرنا، أي قولوا بهذه اللفظة لا بلفظة راعنا فإنه ليس فيها ما في قولكم: راعنا، ولا يمكنهم أن يتوصلوا بها إلى الشتم كما يمكنهم بقولكم: راعنا " واسمعوا " إذا قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله قولا وأطيعوا " وللكافرين " يعني اليهود الشاتمين لرسول الله صلى الله عليه وآله " عذاب أليم " وجيع في الدنيا إن عادوا لشتمهم، وفي الآخرة بالخلود في النار. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عباد الله هذا سعد بن معاذ من خيار عباد الله آثر رضى الله على سخط قراباته وأصهاره من اليهود، أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، و غضب لمحمد صلى الله عليه وآله رسول الله ولعلي ولي الله ووصي رسول الله صلى الله عليه وآله أن يخاطبا بما لا يليق بجلالتهما، فشكر الله له لتعصبه لمحمد صلى الله عليه وآله وعلي وبوأه في الجنة منازل كريمة وهيأ له فيها خيرات واسعة لا تأتي الالسن على وصفها ولا القلوب على توهمها والفكر فيها، ولسلكة من مناديل موائده في الجنة خير من الدنيا بما فيها وزينتها ولجينها وجواهرها وسائر أموالها ونعيمها، فمن أراد أن يكون فيها رفيقه وخليطه فليتحمل غضب الاصدقاء والقرابات وليؤثر لهم رضى الله في الغضب لمحمد رسول الله صلى الله عليه وآله، وليغضب إذا رأى الحق متروكا ورأى الباطل معمولا به، وإياكم و الهوينا فيه مع التمكن والقدرة وزوال التقية، فإن الله لا يقبل لكم عذرا عند ذلك.
تعليق