بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين وعلى اله الطاهرين
عاقبة حب الدنيا و بغضها
اعلم انه لا يبلغ مع العبد عند الموت الا صفاء القلب، اعني طهارته عن ادناس الدنيا و حبه لله و انسه بذكره، و صفاء القلب و طهارته لا
يحصل الا بالكف عن شهوات الدنيا، و الحب لا يحصل الا بالمعرفة، و المعرفة لا تحصل الا بدوام الفكرة، و الانس لا يحصل الا بكثرة ذكر
الله و المواظبة عليه، و هذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت، و هي الباقيات الصالحات.
اما طهارة القلب عن ادناس الدنيا، فهي الجنة بين العبد و بين عذاب الله، كما ورد في الخبر: «ان اعمال العبد تناضل عنه، فاذا جاء العذاب
من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه، و اذا جاء من قبل يديه جاءت الصدقة تدفع عنه. . . » الحديث.
و اما الحب و الانس، فهما يوصلان العبد الى لذة المشاهدة و اللقاء.
و هذه السعادة تتعجل عقيب الموت الى ان يدخل الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة، و كيف لا يصل صاحب الصفات الثلاث بعد
موته غاية البهجة و نهاية اللذة بمشاهدة جمال الحق، و لا يكون القبر عليه روضة من الرياض الخلد، و لم يكن له الا محبوب واحد، و كانت
العوائق تعوقه عن الانس بدوام ذكره و مطالعة جماله، و بالموت ارتفعت العوائق و افلت من السجن و خلى بينه و بين محبوبه، فقدم عليه
مسرورا سالما من الموانع آمنا من الفراق؟ و كيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذبا و لم يكن له محبوب الا الدنيا، و قد غصبت منه و
حيل بينه و بينها، و سدت عليه طرق الحيلة في الرجوع اليه؟ و ليس الموت عدما، انما هو فراق لمحاب الدنيا و قدوم على الله، فاذن سالك
طريق الآخرة هو المواظب على اسباب هذه الصفات الثلاث، و هي: الذكر، و الفكر، و العمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا و يبغض اليه
ملاذها و يقطعه عنها. و كل ذلك لا يمكن الا بصحة البدن، و صحة البدن لا تنال الا بالقوت و الملبس و المسكن، و يحتاج كل واحد الى
اسباب، فالقدر الذى لا بد منه من هذه الثلاثة اذا اخذه العبد من الدنيا للاخرة لم يكن من ابناء الدنيا و كانت الدنيا في حقه مزرعة الآخرة، و ان
اخذ ذلك على قصد التنعم و حظ النفس صار من ابناء الدنيا و الراغبين في حظوظها. الا ان الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم الى ما يعرض
صاحبه لعذاب الله في الآخرة، و سمى ذلك حراما، و الى ما يحول بينه و بين الدرجات العلى و يعرضه لطول الحساب، و يسمى ذلك حلالا. و
البصير يعلم ان طول الموقف في عرصات القيامة لاجل المحاسبة ايضا عذاب، فمن نوقش في الحساب عذب، و لذلك قال رسول الله-صلى الله
عليه و آله-: «في حلالها حساب و في حرامها عقاب» . بل لو لم يكن الحساب، لكان ما يفوت عن الدرجات العلى في الجنة و ما يرد على
القلب من التحسر على تفويتها بحظوظ حقيرة خسيسة لا بقاء لها، هو ايضا عذاب و يرشدك الى ذلك حالك في الدنيا اذا نظرت الى اقرانك، و
قد سبقوك الى السعادات الدنيوية، كيف ينقطع قلبك عليها حسرات، مع علمك بانها سعادات متصرمة لا بقاء لها، و منغصة بكدورات لا صفاء
لها، فما حالك في فوات سعادات لا يحيط الوصف بعظمتها و تنقطع الاذهان و الدهور دون غايتها؟ و كل من تنعم في الدنيا، و لو بسماع
صوت من طائر او بالنظر الى خضرة او بشربة ماء بارد، فهو ينقص من حظه في الآخرة و التعرض لجواب السؤال فيه ذل، و حذر، و
خوف، و خطر، و خجل و انكسار، و مشقة، و انتظار، و كل ذلك من نقصان الحظ.
فالدنيا-قليلها و كثيرها، حلالها و حرامها-ملعونة، الا ما اعان على تقوى الله، فان ذلك القدر ليس من الدنيا، و كل من كانت معرفته اقوى و اتم
كان حذره من نعيم الدنيا اشد و اعظم، حتى ان عيسى عليه السلام وضع راسه على حجر لما نام ثم رمى به، اذ تمثل له ابليس و قال رغبت
في الدنيا. و حتى ان سليمان-عليه السلام-فى ملكه كان يطعم الناس من لذائذ الاطعمة و هو ياكل خبز الشعير، فجعل الملك على نفسه بهذا
الطريق امتحانا و شدة، فان الصبر من لذيذ الاطعمة مع وجودها اشد. و لذا زوى الله-تعالى-الدنيا على نبينا-صلى الله عليه و آله- فكان يطوى
اياما، و كان يشد الحجر على بطنه من الجوع، و لهذا سلط الله المحن و البلاء على الانبياء و الاولياء، ثم الامثل فالامثل في درجات العلى.
كل ذلك نظرا لهم و امتنانا عليهم، ليتوفر من الآخرة حظهم، كما يمنع الوالد المشفق ولده لذائذ الفواكه و الاطعمة و يلزمه الفصد و الحجامة،
شفقة عليه و حبا له لا بخلا به عليه. و قد عرفتبهذا ان كل ما ليس لله فهو من الدنيا و ما هو لله فليس من الدنيا.
ثم الاشياء على اقسام ثلاثة:
(الاول) ما لا يتصور ان يكون لله، بل من الدنيا صورة و معنى و هي انواع المعاصي و المحظورات و اصناف التنعم بالمباحات، و هي الدنيا
المحضة المذمومة على الاطلاق.
(الثاني) ما صورته من الدنيا، كالاكل و النوم و النكاح و امثالها، و يمكن ان يجعل معناه لله، فانه يمكن ان يكون المقصود منه حظ النفس
فيكون معناه كصورته ايضا من الدنيا، و يمكن ان يكون المقصود منه الاستعانة على التقوى، فهو لله بمعناه و ان كانت صورته صورة الدنيا، !
46 قال رسول الله-صلى الله عليه و آله-: «من طلب من الدنيا حلالا مكاثرا مفاخرا لقى الله و هو عليه غضبان، و من طلبها استعفافا عن
المسالة و صيانة لنفسه جاء يوم القيامة و وجهه كالقمر ليلة البدر» .
(الثالثة) ما صورته لله، و يمكن ان يجعل معناه من الدنيا بالقصد، و هو ترك الشهوات، و تحصيل العلم، و عمل الطاعات و العبادات. فهذه
الثلاث اذا لم يكن لها باعث سوى امر الله و اليوم الآخر فهى لله صورة و معنى، و لم تكن من الدنيا اصلا، و ان كان الغرض منها حفظ المال
و الحمية و الاشتهار بالزهد و الورع و طلب القبول بين الخلق باظهار المعرفة صار من الدنيا معنى و ان كان يظن بصورته انه لله.
المصدر..
جامع السعادات
والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين وعلى اله الطاهرين
عاقبة حب الدنيا و بغضها
اعلم انه لا يبلغ مع العبد عند الموت الا صفاء القلب، اعني طهارته عن ادناس الدنيا و حبه لله و انسه بذكره، و صفاء القلب و طهارته لا
يحصل الا بالكف عن شهوات الدنيا، و الحب لا يحصل الا بالمعرفة، و المعرفة لا تحصل الا بدوام الفكرة، و الانس لا يحصل الا بكثرة ذكر
الله و المواظبة عليه، و هذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت، و هي الباقيات الصالحات.
اما طهارة القلب عن ادناس الدنيا، فهي الجنة بين العبد و بين عذاب الله، كما ورد في الخبر: «ان اعمال العبد تناضل عنه، فاذا جاء العذاب
من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه، و اذا جاء من قبل يديه جاءت الصدقة تدفع عنه. . . » الحديث.
و اما الحب و الانس، فهما يوصلان العبد الى لذة المشاهدة و اللقاء.
و هذه السعادة تتعجل عقيب الموت الى ان يدخل الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة، و كيف لا يصل صاحب الصفات الثلاث بعد
موته غاية البهجة و نهاية اللذة بمشاهدة جمال الحق، و لا يكون القبر عليه روضة من الرياض الخلد، و لم يكن له الا محبوب واحد، و كانت
العوائق تعوقه عن الانس بدوام ذكره و مطالعة جماله، و بالموت ارتفعت العوائق و افلت من السجن و خلى بينه و بين محبوبه، فقدم عليه
مسرورا سالما من الموانع آمنا من الفراق؟ و كيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذبا و لم يكن له محبوب الا الدنيا، و قد غصبت منه و
حيل بينه و بينها، و سدت عليه طرق الحيلة في الرجوع اليه؟ و ليس الموت عدما، انما هو فراق لمحاب الدنيا و قدوم على الله، فاذن سالك
طريق الآخرة هو المواظب على اسباب هذه الصفات الثلاث، و هي: الذكر، و الفكر، و العمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا و يبغض اليه
ملاذها و يقطعه عنها. و كل ذلك لا يمكن الا بصحة البدن، و صحة البدن لا تنال الا بالقوت و الملبس و المسكن، و يحتاج كل واحد الى
اسباب، فالقدر الذى لا بد منه من هذه الثلاثة اذا اخذه العبد من الدنيا للاخرة لم يكن من ابناء الدنيا و كانت الدنيا في حقه مزرعة الآخرة، و ان
اخذ ذلك على قصد التنعم و حظ النفس صار من ابناء الدنيا و الراغبين في حظوظها. الا ان الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم الى ما يعرض
صاحبه لعذاب الله في الآخرة، و سمى ذلك حراما، و الى ما يحول بينه و بين الدرجات العلى و يعرضه لطول الحساب، و يسمى ذلك حلالا. و
البصير يعلم ان طول الموقف في عرصات القيامة لاجل المحاسبة ايضا عذاب، فمن نوقش في الحساب عذب، و لذلك قال رسول الله-صلى الله
عليه و آله-: «في حلالها حساب و في حرامها عقاب» . بل لو لم يكن الحساب، لكان ما يفوت عن الدرجات العلى في الجنة و ما يرد على
القلب من التحسر على تفويتها بحظوظ حقيرة خسيسة لا بقاء لها، هو ايضا عذاب و يرشدك الى ذلك حالك في الدنيا اذا نظرت الى اقرانك، و
قد سبقوك الى السعادات الدنيوية، كيف ينقطع قلبك عليها حسرات، مع علمك بانها سعادات متصرمة لا بقاء لها، و منغصة بكدورات لا صفاء
لها، فما حالك في فوات سعادات لا يحيط الوصف بعظمتها و تنقطع الاذهان و الدهور دون غايتها؟ و كل من تنعم في الدنيا، و لو بسماع
صوت من طائر او بالنظر الى خضرة او بشربة ماء بارد، فهو ينقص من حظه في الآخرة و التعرض لجواب السؤال فيه ذل، و حذر، و
خوف، و خطر، و خجل و انكسار، و مشقة، و انتظار، و كل ذلك من نقصان الحظ.
فالدنيا-قليلها و كثيرها، حلالها و حرامها-ملعونة، الا ما اعان على تقوى الله، فان ذلك القدر ليس من الدنيا، و كل من كانت معرفته اقوى و اتم
كان حذره من نعيم الدنيا اشد و اعظم، حتى ان عيسى عليه السلام وضع راسه على حجر لما نام ثم رمى به، اذ تمثل له ابليس و قال رغبت
في الدنيا. و حتى ان سليمان-عليه السلام-فى ملكه كان يطعم الناس من لذائذ الاطعمة و هو ياكل خبز الشعير، فجعل الملك على نفسه بهذا
الطريق امتحانا و شدة، فان الصبر من لذيذ الاطعمة مع وجودها اشد. و لذا زوى الله-تعالى-الدنيا على نبينا-صلى الله عليه و آله- فكان يطوى
اياما، و كان يشد الحجر على بطنه من الجوع، و لهذا سلط الله المحن و البلاء على الانبياء و الاولياء، ثم الامثل فالامثل في درجات العلى.
كل ذلك نظرا لهم و امتنانا عليهم، ليتوفر من الآخرة حظهم، كما يمنع الوالد المشفق ولده لذائذ الفواكه و الاطعمة و يلزمه الفصد و الحجامة،
شفقة عليه و حبا له لا بخلا به عليه. و قد عرفتبهذا ان كل ما ليس لله فهو من الدنيا و ما هو لله فليس من الدنيا.
ثم الاشياء على اقسام ثلاثة:
(الاول) ما لا يتصور ان يكون لله، بل من الدنيا صورة و معنى و هي انواع المعاصي و المحظورات و اصناف التنعم بالمباحات، و هي الدنيا
المحضة المذمومة على الاطلاق.
(الثاني) ما صورته من الدنيا، كالاكل و النوم و النكاح و امثالها، و يمكن ان يجعل معناه لله، فانه يمكن ان يكون المقصود منه حظ النفس
فيكون معناه كصورته ايضا من الدنيا، و يمكن ان يكون المقصود منه الاستعانة على التقوى، فهو لله بمعناه و ان كانت صورته صورة الدنيا، !
46 قال رسول الله-صلى الله عليه و آله-: «من طلب من الدنيا حلالا مكاثرا مفاخرا لقى الله و هو عليه غضبان، و من طلبها استعفافا عن
المسالة و صيانة لنفسه جاء يوم القيامة و وجهه كالقمر ليلة البدر» .
(الثالثة) ما صورته لله، و يمكن ان يجعل معناه من الدنيا بالقصد، و هو ترك الشهوات، و تحصيل العلم، و عمل الطاعات و العبادات. فهذه
الثلاث اذا لم يكن لها باعث سوى امر الله و اليوم الآخر فهى لله صورة و معنى، و لم تكن من الدنيا اصلا، و ان كان الغرض منها حفظ المال
و الحمية و الاشتهار بالزهد و الورع و طلب القبول بين الخلق باظهار المعرفة صار من الدنيا معنى و ان كان يظن بصورته انه لله.
المصدر..
جامع السعادات
تعليق